السبت، 14 مارس 2015

عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمتِه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.

أمّا بعد:

 فإنّ الوصيّةَ المطروقةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوى الله سبحانه التي هي العزّ يومَ الذلّ، وهي النّجاة يومَ الهلاك، ما خاب من تمسّك بها، وما أفلحَ من ودّعها وقلاها، فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

أيّها النّاس، النّاظر في واقع كثير من المسلمين اليوم بعين بصيرته ليوقِنُ أنّه واقعٌ مؤرِّق، إذ أنّ صلتَهم بكتاب ربّهم يكتنِفها الهَجر والعقوق، بل ولربّما وصلَ الأمر إلى أبعدَ من ذلك، حتّى إنّ أحدَنا قد لا يُبعِد النّجعة لو قال: إنّ عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام لِواذا مِن حيث تشعر هِي أو لا تشعر، ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ قولَ الباري جلّ شأنه: وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78]، أي: لا يعلمون الكتابَ إلاّ تلاوةً وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرَهم وتراقيَهم، وذلك ـ عبادَ الله ـ بسبب الغياب القلبيّ والعجز عن تدبّر القرآن، وهم على قلوبٍ أقفالها إلاّ من رحم الله، وبسبَب البُعد عن اكتشافِ سننِ الله في الأنفسِ والآفاق وحُسن تسخيرها والنفاذِ من منطوق النصّ وظاهره إلى مقصدِه ومرماه والتحرير غيرِ المبعَّض من تقديس الأفهام المغلوطةِ والتأويلات المآربيّة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط المسلمين على كافّة طبقاتهم من لوثاتِ عللٍ وأفهام يغذِّيها شعورٌ طاغٍ من حبّ الدّنيا وكراهيّة الموت.

كلّ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ سببٌ ولا شكّ لذهاب العلمِ وهو موجود، ولفَقدنا الماءَ في البيداء وهو على ظهورنا محمول، على الرّغم من التقدّم الملحوظ في فنون الطّباعةِ ووسائل النّشر وتقنيات التسجيل الصوتيّ والمرئيّ. روى الإمام أحمد والترمذيّ وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال: ذكر النبيّ شيئًا فقال: ((وذاك عند ذهاب العلم))، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلمُ ونحن قرأنا القرآنَ ونقرِئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرِئونه أبناءهم؟! فقال: ((ثكلتكَ أمّك يا ابنَ لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجلٍ في المدينة، أوليس هذه اليهود والنّصارى بأيديهم التّوراة والإنجيل ولا ينتفعون ممّا فيهما بشيء؟!))(1)[1].

إذًا الأمّة المنتميَة إلى القرآن لا ينبغي أن تكونَ مجهولةً مستوحِشة، مبعثرةَ الحواس وكأنّها تُنادَى مِن مكان بعيد، وكتابُ الله سبحانه ما شانَه نقصٌ ولا شابَته زيادة، فيه الخلاصة الكافيَة لأحوال النبوّات الأولى وأنباء ما قد سبق، إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18، 19].

أيّها النّاس، لقد عاش رسول الله ثلاثةً وستّين عامًا، أسفر له بعدَها صُبح المشيب، ألمّ الشيبُ بلُمتِه، وهو سمة عفّته وتُقاه، ترى فيه هيبتَه ووقارَه، وتشاهد منه حنكتَه وعنوان تجربتِه، يسأله أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه فيقول: يا رسول الله، ما شيّبك؟ قال: ((شيّبتني هود والواقعة وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوِّرت)) رواه الترمذي والحاكم وأبو يعلى(2)[2].

فيا لله أيّها المسلمون، إنّنا لنسمع كثيرًا أنّ السنّ سبب في الشّيب، وأنّ صروف الحياة ومهامِهَهَا المتقلّبة تشيب منها المفارق، فما ظنّكم بمن تمرّ به هذه كلّها واحدةٌ تلوَ الأخرى ثمّ هو ينسب المشيبَ إلى آياتٍ من كتاب ربِّه يردّدها ومعانٍ يتأوّلها ويتدبّرها.

لماذا سورةُ هودٍ أيّها المسلمون؟ ما الذي تحويه هذه السّورة كي تُحدِثَ تغيّرًا في النفس والحال؟ بلهَ التغيّر الذي يكون على البدن والأعضاء؟

إنّ هذا الحديث برمّته ليستحثّنا إلى أن نكشفَ اللثام ونذوّب الرَّان الذي يغشى القلوبَ حينما تمرّ بنا هذه السّورة وأخواتُها دون أن تستوقفَنا مليًّا لنعلم بوضوح وجلاءٍ كيف شيَّبت مفارقَ إمامنا وقدوتِنا ، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: دخلتُ على امرأةٍ وأنا أقرأ سورةَ هود، فقالت: يا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟! واللهِ إني فيها منذ ستّة أشهر وما فرغتُ من قراءتها(3)[3].

ولا غروَ ـ أيها المسلمون ـ أن تقول المرأة مثلَ هذا، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه قبلها: (لا تهذُّوا القرآنَ هذّ الشّعر، ولا تنثروه نثرَ الدّقل، وقِفوا عند عجائبِه، وحرّكوا به القلوبَ، ولا يكن همُّ أحدِكم آخرَ السورة)(4)[4].

لقد نزلت سورةُ هود بجملتها بعدَ سورة يونس وسورة الإسراء، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من المفسّرين. وهذه الفترةُ التي نزلت بها هذه السورة تُعَدُّ من أحرجِ الفترات وأشدّها كمدًا على نبيّنا ؛ لأنّها مسبوقة بأعظم حَدَثين له، فقد تُوفّيت زوجُه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، وكانت له وزيرَ صدقٍ على الإسلام، يشكو إليها، وهي معه في المِحنة قلبًا مع قلبِه، بمالِها تواسيه، وبكلامِها تسلّيه، وتُوفِّي عمّه أبو طالب، وكان له عضُدًا ومنَعَة وناصرًا على قومِه، حتى تتابعت على رسول الله المصائب، فسُمِّي ذلك العام عامَ الحزن، فكان نزول سورة هود في مثل هذه الفترة تسليةً وتثبيتًا له ولمَن معه مِن المؤمنين، وتسريةً عنه وعنهم ممّا يساوِر قلوبَهم من الوحشة والضّيق والغربَة، في مجتمعاتٍ تكاد تجمِع على تكذيبهم والبَطش بهم، ومن ثمّ يكون وقعُ مثلِ هذه السورة منصبًّا على القصَصَ والأمثال؛ لأنّ فيها من التّسلية والعبرة وشدِّ العزم والحضّ على الصبر والمجاهدة ما ليس في غيرها، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

فيرى رسول الله السورةَ برمّتها تتحدّث عن نوح وقومِه وهودٍ وقومه وصالح وقومِه وإبراهيمَ وقومِه ولوط وقومِه وشعيبٍ وقومه ثمّ موسى مع فرعونَ وملئه، جملةٌ من الأنبياء، ثلاثة منهم من أولي العزمِ من الرّسل، يواجه اللاحقُ منهم مع قومه مواقفَ مشاكلة لما واجهه السابقُ منهم، ويصدُق في الجميع قوله جلّ وعلا في سورة يوسف: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]. يشير سبحانه إلى أنّ مرحلةَ اليَأس إنّما تكون بعد تتابُع ضرباتِ الجهال من أقوام الرّسل والوقوع تحتَ وطأة الشّتم والتكذيب والإجماع على التآمر، ناهيكم عن اختناق أنفاسهم فتراتٍ، ثمّ يتعرّضون خِلالها للموت كرّاتٍ ومرّات، ليكُن ذلك كلُّه فإنّ سنّة الله لا تتخلّف، وخليقٌ بأنبياء الله ورسله وأتباعهم أن يصابروا ويرابطوا حتّى يأذن الله لهم بالفرج.

لقد افتتحَ الله جلّ وعلا سورةَ هود بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2]. إنّ هذا الكتابَ الذي أُحكمت آياته فُسِّر مضمونُه بأنّه ينبغي أن لا يُعبَدَ إلا الله في الأرض، وأنّ هذه العبادة والدّعوة إليها لم تكن بِدعًا من الدعوات، ولا هي وليدةَ نزولها على محمّد ، إنّما هي دعوة الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، كلّهم يقولون لأقوامهم: اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره؛ فلا ذبحَ إلا لله، ولا رجاءَ إلا في الله، ولا خوفَ إلا من الله، ولا استغاثة واستعانةَ إلا به، ولا توكّل إلا عليه، ولا رغبة ولا رهبة إلا له ومنه، ولا تحكيمَ إلا بشرعه الذي شرَعَه.

بعدَ هذه الآيةِ يتتابع القصَص، فيكون من حوارات نوح وقومِه أن قالوا له: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، ويقول قوم محمّد مثلَ ما قال قوم نوح: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49].

إنّه الاحتقار والازدراءُ الذي ينبعث من النّفوس الخبيثة والمليئةِ بالضّغينة والكِبر الذي هو بطر الحقّ وغمط النّاس. إنّه احتقارٌ لصاحب الرّسالة من أولي العزم من الرّسل، يتبعه ازدراءٌ مشين للأتباع المخلِصين. إنّه ليس عارًا ألبتّةَ رذالةُ مَن اتّبعوا الحقّ، فإنّ الحقّ في نفسه صحيح، سواء اتّبعه الأشراف أو الأراذل من الناس، يقول ابن كثير رحمه الله: "بل الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ أتباعَ الحقّ هم الأشراف ولو كانوا فقراءَ، والذين يأبَونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء"(5)[5]، ولمّا سأل هرقل ملكُ الرّوم أبا سفيان عن صفاتِ النبي قال له فيما قال: أشرافُ الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل(6)[6].

لو كان الاتّباع بالشّرف ـ أيّها المسلمون ـ لما رفع الإسلامُ سلمانَ الفارسيّ، ولما وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب، ورسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((رُبّ أشعثَ أغبَر ذي طمرَين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبرَّه))(7)[7]، ولمَّا رأى الصحابة رضي الله عنهم عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه وهو على نخلة، فضحِكوا من دقَّة ساقَيه، والريحُ تميل بهما، فقال رسول الله : ((أتعجبون من دقّة ساقيه؟! إنّهما أثقل في الميزان من جبل أحد))(8)[8].

إنّ أمثالَ هؤلاء المحتقَرين من قِبل بعض أهل الزُهُوّ والأنفة وذوي النّزَق(9)[9] لتعلو بهم المكانة في الآخرة جرَّاءَ إيمانهم بربّهم وتوكّلهم عليه، على ضعفٍ في قوّتهم وقلّة الناصرين لهم من النّاس، حتّى ألِفوا مسلكَ النّزاهة والاستقامة؛ لأنّ الرجلَ الخرِب الذمّة الساقطَ المروءة لا قوّة له ولو لبِس جلودَ السباع وتسربَل بدروع المُحارب المدجّج أو مشى في ركاب العظماء من بني الدّنيا. وهذا درسٌ جِدُّ مهمّ ضرب الله لنا مثلَه حينما قال لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، يقول أبو هريرة رضي لله عنه: قال رسول الله : ((رحمةُ الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد))(10)[10] يعني الله عز وجل.

فلا إله إلا الله، كم يُصيب محتقِريهم من همّ وغمّ حين تتجلّى الأمور وتنكشف، ويدخل أهل النّار النّار فيقولون حينها: مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ [ص:62، 63]، والجواب يا رعاكم الله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].

وفي ثنايا سورة هود يعترضنا قصَصٌ هو من الأهمّية بمكان، يتبيّن من خلاله صدقُ المدّعي وصفاء قلبه وحبُّه المتجرّد من الغَشَش والدّخيلة تجاه إخوانه في الدّين وبني ملّته، حيث يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، يعلم خطورةَ خذلانهم وخطورةَ إعانتهم على باطلهم وعظمَ ذلك عند الباري جلّ وعلا، يعلم أثرَ قول المصطفى : ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))(11)[11]، وأنّ نصرَه [ظالمًا] هو حجزُه عن الظّلم، ويعلم قولَه : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يخذله، ولا يسلمه))(12)[12]، فهو لا يظلمه ولا يخذله في الحقّ، ولا يُسلمه لأهوائه ونزغات الشّيطان التي تميد به عن سواء الصّراط.

هذه المبادئ الرّاسخة ينبغي أن يعيَها كلّ مسلم تجاه إخوانه في الملّة. إنّه موقفُ نوح عليه السلام من أتباعه المؤمنين حينما قال لقومه: وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود:29، 30]، يقول ابن كثير رحمه الله: "كأنّهم طلبوا منه أن يطردَ المؤمنين عنه احتشامًا ونفاسَة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتمَ الرسل أن يطردَ عنهم جملةً من الضعفاء، ويجلس معهم مجلسًا خاصًّا، فأنزل الله: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]"(13)[13].

إنّ المسلم الحقَّ لينأى بنفسه أن يضعَ حظوظه على الإضرار بإخوانه من خلال الحسَد أو التشفّي أو إيثار العاجل على الآجل أو الوقوع في الاجتهادات الخاطئة أو البُعد عن النّصح المشروع وتوجيه النّاس وإرشادهم من خلال الحثّ على الخير أو الحجز عن الشرّ، أو أن يبنيَ كيانه وبُلغَته على أنقاص غيره وشِقوتِه، كلا، وهيهات هيهات أن يتمخّض مثل هذا البتّ المهتزّ عن نهايةٍ صالحة. إنّه في الحقيقةِ كمسلكِ إخوةِ يوسف عندما نشدوا راحتَهم بقولهم: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، وصدَق رسول الله إذ يقول: ((من أكَل برجل مسلم أكلةً فإنّ الله يطعمه مثلَها من جهنّم، ومن كُسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثلَه من جهنّم، ومَن قام برجل مسلم مقامَ سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقامَ سمعةٍ ورياء يومَ القيامة)) رواه أحمد وأبو داود(14)[14].

ولا يسعُنا إلاّ أن نقولَ كما قال النبيّ : ((اللهمّ إنّا نعوذ بك من الجوع فإنّه بئسَ الضجيع، ونعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة))(15)[15].

 فيا أيّها النّاس، قصصٌ آخر من قصَصِ سورة هود، يُراد من خلاله التنويهُ إلى أهمّية القدوة الصالحة وأثرِها في بناء المجتمعات ورِفعتِها، لا سيّما إذا كان أصحابها من ذوي الهيئاتِ كالسّلاطين والعلماء والأمراء وكبَراء النّاس، ويزداد الأمر قوّة في المصلحين ومَن ينتسبون إلى الصّلاح؛ إذ خطواتُهم محسوبة وأفعالهم مرقوبة، وأعين النّاس تقع على ما يظهر منهم في القول والفعل، فما أعظمَها هوّةً حين يرونَه حيث نهاهم، ينكر منكَرًا فيأتي مثلَه، أو يحذّر من بدعةٍ ويقع في أختِها؛ تسقط هيبته، ويتضاءل الاقتداءُ به، فيخلِط العامّة بين حقِّه وباطله وزينه وشينِه، ومِن ثمّ تكون حالات النّاس معهُ:

يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ……وإن لقيت معَدّيا فعدناني

فيكثر تتبُّع الرّخص من قِبلهم والتشوّف إلى الزّلاّت والثغرات، ولقد تمثّل النّأي عن ذلك في شخص النبيّ شعيب عليه السلام حينما قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

وبعد: أيّها النّاس، فإنّ القصص في السورة يتتابع، والنّهل منها في مثل هذه العجالة يطوّل بنا المقامَ، إلاّ أنّ ثمّة أمرًا يحسُن أن نختمَ به، وهو أنّ الرسل جميعًا قد دعوا أقوامَهم إلى الله، فلمّا لم يستجيبوا لهم تنوّع عليهم العذاب، فمنهم من أرسلَ الله عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصّيحة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من أغرق.

وبعدَ تمام السّرد يقول الله لنبيه : ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]، ثم يقول: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ثمّ يتّجه الخطاب إلى النبيّ مرّةً أخرى بهذا الإنذار الذي فيه التّحذير من الرّيبة أو الشكّ في صحّة ما يدعو إليه: فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود:109]. إنّ توفيةَ هذا النّصيب تعني هلاكَ من بلغتهم الرّسالة ثمّ هم يعاندون، فإنّهم سيطيحون كما طاحَ آباؤهم من قبل.

ألا إنّ هذا نذيرٌ مقلِق، وإنّ خوفَ النبيّ على مستقبلِ أمّته وقومِه جعل الشيبَ يتسلّل إلى رأسِه، ما يحبّ أن يكونَ لهم مثلُ هذا المصير المزهِق، ولذلك قال النبيّ لصحبِه: ((كلّ أمّتي يدخل الجنّة إلا من أبى))، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى))(16)[1].

هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحب الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

__________

(1) أخرجه أحمد (17473)، وابن ماجه في الفتن (4048) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد به. وصححه الحاكم (3/590)، ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع. وله طريق أخرى، فأخرجه الترمذي في العلم (2653)، والدارمي في مقدمة سننه (288)، ومن طريقه البيهقي في المدخل (854) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف، وقد خولف، فرواه أحمد (23990)، والنسائي في الكبرى (5909) من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك، وصححه ابن حبان (4572)، والحاكم (1/98-99)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة (1/81): "سنده صحيح".

(2) أخرجه الترمذي في التفسير (3297) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (2/476) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة (955).

(3) أخرجه البيهقي في الشعب (2/361)، وانظر: صفة الصفوة (3/192، 4/440).

(4) أخرج بعضه البيهقي في الشعب (2/360)، وعزاه ابن كثير في تفسيره (4/235) للبغوي.

(5) تفسير القرآن العظيم (2/443).

(6) أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(7) أخرجه مسلم في البر (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(8) أخرجه أحمد (1/420)، والبزار (1827، 3309)، وأبو يعلى (5310، 5365)، والشاشي (661، 904)، والطبراني (9/78)، وأبو نعيم في الحلية (1/127)، والبغدادي في تاريخه (1/148، 7/191) من طرق، وصححه ابن حبان (7069)، وقال الهيثمي في المجمع (9/289): "أمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".

(9) النزق: الطيش والخفة عند الغضب.

(10) 10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3372، 3387)، ومسلم في الإيمان (151).

(11) 11] أخرجه البخاري في المظالم (2443، 2444) من حديث أنس رضي الله عنه.

(12) 12] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وليس فيه: ((ولا يخذله)).

(13) 13] تفسير القرآن العظيم (2/444).

(14) 14] أخرجه أحمد (4/229)، وأبو داود في الأدب (4881)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في الكبير (20/309) والأوسط (697، 3572)، والبيهقي في الشعب (6717) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (934).

(15) 15] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469) وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).

(16) أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/2854)

الأربعاء، 11 مارس 2015

فلا إسلامَ لعبدٍ حتى يحقِّق معنى هاتين الشهادتين تحقيقًا عن صدق وإخلاصٍ ويقين


الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد:

 فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، ركنا التوحيد تحقيقُ شهادة أن لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أنّ محمدًا رسول الله، فلا إسلامَ لعبدٍ حتى يحقِّق معنى هاتين الشهادتين تحقيقًا عن صدق وإخلاصٍ ويقين.
شهادةُ أن لا إله إلا الله تُلزم قائلَها إفرادَ الله بجميع أنواع العبادة. تلزم قائلَها أن يعتقدَ أنّ الله وحده المعبود بحقّ، وأنّ كلّ [معبود] سواه فإنّما هو معبودٌ بباطل، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان:30]. تلزم قائلَها أن يكونَ دعاؤه لله وحدَه، فلا يدعو مع الله غيرَه. تلزِم قائلها أن تكونَ كلّ عباداته [لله]، فذبحُه لله، ونذره لله، وتوكّله على الله، ورغبته فيما عند الله، وخوفه الحقيقيّ من الله، وكمال رجائِه لله، وتجعل قلبَه متعلّقًا بالله محبّةً وخوفًا ورجاءً، يعلم حقّا أنّ الله إنّما خلقه ليعبده وحدَه لا شريك له، فهو حينما ينطق بكلمة "لا إله إلا الله" فإنّما ينطق بها مُعلِنًا توحيدَ الله، مُعلِنا إخلاصَ دينه لله، مُعلِنًا براءتَه من كلّ ما يُعبَد من دون الله، متألِّها لله حقًّا بقلبه ولسانه وجوارحه، فتلك الشهادة النافعة المؤثّرة التي مَن كانت آخرَ كلامه من الدنيا دخل الجنة.
وثاني ذلك تحقيق شهادة أنّ محمّدًا رسول الله، فتلزم هذه الكلمة قائلَها الإيمانَ بمحمّد ، وأنّه عبد الله ورسوله، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء:136]. يؤمن بهذا النبيّ الكريم، وأنّه خاتم أنبياء الله ورسله، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ [الأحزاب:40]. يؤمن بعموم رسالته وشمولِها، وأنّ رسالته عامّة لكلّ الثقلين جنِّهم وإنسهم، وأنّ الله جل وعلا افترض على العباد كلِّهم طاعةَ هذا الرسول واتّباع شريعته، وأنّ من خرج عن شريعته فليس بمؤمن، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وعنه قال: ((لا يسمع بي من يهوديّ ولا نصرانيّ ثمّ لا يؤمن بي إلا دخل النّار))(1)[1]. وتلزم هذه الكلمة قائلَها طاعةَ هذا النبيّ الكريم وامتثالَ أمره، فإنّ طاعته طاعة لله، مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ [الحشر:7]. تلزم قائلها تصديقَ هذا النبيّ الكريم، وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33]. تلزم قائلها الاستجابةَ له ، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]. تلزم قائلَها التحاكمَ إلى سنته والرضا بحكمه والاطمئنان وانشراح الصدر لذلك، فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]. تلزم قائلها أن يصدرَ كلّ أحواله من هذه السنة النبويّة، وأن يردَّ كلّ نزاع إلى الكتاب والسنة، فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]. تلزم قائلها نصرةَ هذا النبيّ في حياته ونصرتَه بعد موته بالدفاع عن سنته وحماية شريعته، فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
أيّها المسلم، إنّ الخارجين عن سنّته والمعطّلين للعمل بها لا يخلو إمّا أن يكون ـ والعياذ بالله ـ عدم إيمان بسنّته وعدمَ يقين بها، فهذا ـ لا شك ـ ردّةٌ عن الإسلام، فإنّ مَن لم يقبل سنّته ويرفض العملَ بها فقد ردّ شرع الله، يقول الله جل وعلا: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى [النجم:3، 4]، ويقول : ((ألا إنّي أوتيتُ القرآن ومثله معه))(2)[2]، ومن قدّم الهوى على سنّته فذلك ضلال بعيد، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
وتلزم قائلَها أن يقدِّم سنةَ رسول الله على قول كلّ قائل كائنًا من كان، فلا قولَ لأحد مع قوله ، فقوله الحقّ، وحكمُه العدل، ولقد كان سلف الأمّة يعظّمون هذه السنّة تعظيمًا كبيرًا، ويذمّون من خالفها أو حاول تقديم آراء النّاس عليها، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لا يجوز لمسلم بلغته سنّة رسول الله أن يدعَها لقول قائلٍ من الناس كائنًا من كان".
حدَّث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إذا استأذنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنعها))، فقال ابنٌ لعبد الله: واللهِ لنمنعهنّ، قال الراوي: فسبّه عبد الله سبًّا ما سمعتُه سبّه مثلَه وقال: أقول لك: قال رسول الله وتقول: لأمنعهنّ!!(3)[3] ولمّا حدّث أحد الصحابة عن النبي أنّه نهى عن الحذف بالحجارة وقال: ((إنّه لا ينكأ عدوًّا، ولكن يفقأ العينَ ويكسِر السن))، فخالفه أحد أبنائه فقال: والله، لا أكلّمُك أبدًا(4)[4]؛ لأنّ تعظيم هذه السنة في نفوسهم شيء كبير.
إنّ المؤمنَ حقًّا المؤمن برسول يعلم أنّه الواسطة بينه وبين الله في تبليغ شرعه، وهو يتحرّى سنّته، ويقتدي بسنّته، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فهو يقتدي بسنته في الأقوال والأعمال، ولقد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم هديَ النبيّ في كلّ شؤون حياتِه، ليبيّنوا للنّاس هذه السّنّة، ويوضحوا لهم هذه الطّريقة، فالمسلم حقّا من يقتدِي بمحمّد في صلاته وفي كلّ شؤونه، فهو صلّى بالناس وقال: ((صلّوا كما رأيتموني أصلّي))(5)[5]، وحجّ بالناس وقال: ((خذوا عنّي مناسككم))(6)[6].
والصحابة رضوان الله عليهم نقلوا لمَن بعدهم هديَ النبيّ في كلّ أحواله، نقلوا هديه في سفره وحضره، نقلوا سنّته في منامه ويقظتِه، نقلوا سنّته في ضحكه وبكائه، وفي كلّ أحواله وتعاملاته، وفي كلّ أخلاقه، أوضَحوا للنّاس هذا بأقوالهم وأعمالهم، إذ هو القدوة الكاملة والأسوة الحسنة صلّى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
هكذا الإيمان به، اتّباعٌ لسنّته، وعمل بها، وتحكيمٌ لشريعته، لكنّهم لا يغلون فيه غلوَّ النّصارى في أنبيائهم، فلا يرفعونه عن منزلته التي أنزله الله إياها؛ لأنّه يأبى ويكرَه ذلك، يقول لنا : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله))(7)[7]، وقال أيضًا في دعائه: ((اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))(8)[8]، حذّر ما يصنعون خوفًا عليهم من الشرك الذي وقع فيه من قبلهم.
فالمحبّ له هو المعظِّم لسنّته، العاملُ بشريعته، المقتدي به في أقواله وأعماله، ليس المحبّ له من يغلو فيه ومن يرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فهو عبد الله ورسوله، عبدٌ لا يعبَد، ورسول لا يكذَّب، وإنّما يُطاع ويُتّبع صلوات الله وسلامه عليه. فأسعدُ الناس به من اتّبع سنّته وعمل بها وطبّقها على نفسه في أقواله وأعماله، فإنّه يكون بذلك من الصادقين، ويكون بذلك من المؤمنين حقًّا.
هكذا حال سلف الأمّة من الصّحابة والتابعين، تعظيمًا لهذه السنة، ورضًا بها، واطمئنانًا بها، ولا يزال المسلم يتحرّى اتّباعَ سنّته ويتحرى الاقتداء به في الأقوال والأعمال حتى يكون بذلك من الصادقين.
أسأل الله أن يثبّتنا وإياكم على دينه، وأن يجعلنا وإيّاكم من المؤمنين حقًّا، إنّه على كلّ شيء قدير.
ومِن حقّه إكثارُ الصلاة والسلام عليه، فهو يقول: ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا))(9)[9]، وقد أمرنا الله بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

 فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، غدًا السبت اليوم السادس عشر من الشّهر السابع لهذا العام، يبدأ أبناؤنا وبناتنا عامًا دراسيًّا جديدًا، نسأل الله أن يكون عامَ خير وبركة على الجميع.
أيّها الإخوة، ابتداءُ الفصل الدراسي لهذا العام في جميع مراحل التعليم الجامعيّ فما دونه، وبهذه المناسبة العظيمة أحبّ أن أتحدَّث حديثًا قصيرًا مع إخواني المعلّمين ومع الأخوات المعلّمات ومع سائر مَن هو مُعنى بالتّربية والتعليم ومن هو مسؤول عنها على اختلاف مسؤوليّتهم.
فليعلمِ الجميع أنّ الواجبَ تقوى الله في كلّ الأحوال، فتقوى الله واجبٌ على كلّ فرد، في نفسه وفيما تحتَ يده، تقوى الله واجب على كلّ فرد في نفسه، وواجب عليه تقوى الله فيما وُلِّي مِن أمانة وما عُهِد إليه من مسؤولية، والله سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه حفِظ ذلك أم ضيّعه.
وفي الحقيقة المسؤولون عن التّعليم عمومًا عليهم مسؤولية عظيمة وواجب كبير، ذلكم أنّ التعليم ليس المهمّ منه مجرّد إمضاء الوقت وانقضاء الفصل شهرًا بعد شهر، وليس المهمّ منه مجرّد أداء المعلّم حصّةً دراسيّة يؤدّيها وينصرف، ولكن الواجب على المعلّم والمعلّمة أمران:
أمرٌ يتعلّق بأداء العمل ذاتِه وأداءِ المنهج وتبيين ذلك وتوضيحه.
وواجبٌ آخر سلوكيّ، أن يكونَ اهتمام المعلّم والمعلّمة بسلوك الطالب والطالبة، الاعتناء بسلوكهم، بمعنى: الحرص على شرح الحقّ لهم وتوضيح الهدى لهم، الحرص على أن يزوّدَهم بعلومٍ نافعة وأفكار طيّبة، وأن يزيلَ عن نفوسهم كلّ ما علق بها من شُبَهٍ وشكوك وأوهام.
إنّنا في عالم اليوم امتلأ بالقنوات الفضائيّة المتعدّدة ووسائل الإعلام المختلفة التي تبثّ في العالم أمورًا كثيرة ومسلسلات وبرامج متعدّدة، منها ما هو شرّ محض، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما فيه شيء من خير، إلى غير ذلك. ولا شكّ أنّ وسائل الإعلام على اختلافها غزت كلَّ بيت، وأصبَح كلٌّ يشاهد ويقرأ وينظر ويرى.
فالواجبُ على رجال العِلم والتّربية أن يتَّقوا الله في أنفسهم، وأن يحاولوا إصلاحَ نشئنا وتوجيههم التوجيهَ السليم، وعندما يرى أو يسمع مِن بعضهم فكرًا طرأ عليه وعلق به من تلكم الأفكار المنحرِفة البعيدة عن الهدى التي لا ارتباطَ لها بديننا ولا بأخلاقنا وبأوضاع مجتمعنا الطيّب، فالواجب أن نعالجَ ذلك، بأن نكشفَ هذه الأشياء الضارّة، ونوضح هذه الأمور الباطلة، ونحذِّر منها بالأصول والقواعد الشرعيّة.
إنّ المعلِّم أو المعلّمة لهم أثر عظيم في توجيه النّشء بالتّوجيه السليم، وحتى مدرِّسي الجامعات ومَن يلقي المحاضرات لا بدّ أن يهتمَّ بإصلاح العقيدة والسلوك والدعوة إلى مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وعندما يشعر من إنسانٍ يحمل فكرًا غريبًا ورأيًا مخالفا فعليه أن يتّقيَ الله وأن يكونَ ذا أفقٍ واسع وصدر رحبٍ ليصغيَ إلى ما عند أولئك، ويستمعَ إلى ما لديهم من أفكار وآراء، حتّى يستقصيَ كلَّ الأمور، ثمّ يحاول علاجَها بالأسلوب النافع المؤثِّر الذي يدعو إلى قبول ذلك الإنسان الحقّ وزهده في هذا الباطل.
هذه التّوعية لا بدّ منها، فالأمّة اليومَ بأمسّ الحاجة إلى أن تحصَّن فكريًّا وعقديًّا مِن أخطار تلك الحمَلات الإعلاميّة الجائرة المختلفة التي يقوم عليها وعلى إعدادِها أمّة تعادي الأمّة، بل تعادي الإنسانيّةَ بأسرها، تدعو إلى كلّ رذيلة وفساد، وإلى كلّ خُلُق منحرف، وإلى كلّ فِكر سيّئ، فهذه الأمور لا نستطيع أن نُغلقَها أمامَ شبابنا وفتياتنا، لكن نستطيع أن نحصِّن نفوسَهم، نحصِّن قلوبهم وأفكارَهم بالتوعيّة السليمة والتربية النافعة والدعوة الصادقة وتوضيح ذلك الباطل ودحضِه بالحجج الشرعيّة، حتى نتمكّن بتوفيق الله من تحصين نشئِنا وإحاطتِهم بالأخلاق القيّمة، ليكونوا على بصيرة في دينهم، وليتركوا هذه الآراء الشاطّة البعيدة عن الهدى والحقّ.
هي حملاتٌ إعلاميّة جائرة مسخَّرة ضدّ الأمة الإسلاميّة بالأخصّ، بل ضدّ الخَلق كلّهم، فلا بدّ للمعلّم والمعلّمة ـ كلٌّ على حسَب قدرته ودرجته ـ أن يحمل هذا الفكرَ وهو تحصين هذا النّشء ودعوتهم إلى الخير وتحذيرُهم من وسائل الهَدم والضلال.
إنّ الأمّة مستهدفة في دينها، ومستهدفة في أمنها وقيَمها وأخلاقها، والأعداء يحاولون إبعادَها عن دينها وأخلاقها، لكن إذا تكفّل المعلّمون ذكورًا وإناثًا بهذه التّوعية السليمة والتوجيه الصادق فإنّي أرجو من الله أن يكونَ لهم أثرٌ في سلامة مجتمعنا وحماية أبنائِنا من الانزلاق في هذه الرذائل.
أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ والثبات على الحقّ والاستقامة عليه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ في خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(2) أخرجه أحمد (4/130)، وأبو داود في السنة (4604) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (12)، والحاكم (1/109)، وأقره الذهبي، وهو في صحيح سنن أبي داود (3848).
(3) أخرجه البخاري في الأذان (873)، ومسلم في الصلاة (442)، وهذه رواية الدارمي في مقدمة سننه (442).
(4) أخرجه البخاري في الأدب (6220)، ومسلم في الصيد (1954) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري في الأذان (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(6) أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
(7) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
(8) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب النداء للصلاة (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظنّ ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا به في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي ، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف".
(9) أخرجه مسلم في الصلاة (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/2855)

القنوط واليأس

نحمد الله رب العالمين حمد عباده الذاكرين الشاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، لهذه الآية الكريمة سبب نزول، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك))(1)[1]، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات الكريمة، وربط الرواة هذه المناسبة بآيات من سورة الفرقان، ونصها: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً [الفرقان:68-71].
أيها المسلمون، كما أخرج الشيخان، البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت هذه الآية قُلْ ياعِبَادِىَ [الزمر:53].
وأخرج الحاكم والطبراني عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول ما لمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم قُلْ ياعِبَادِىَ).
فهذه الآية الكريمة يا مسلمون تنهى عن القنوط واليأس من رحمة الله، وينبغي على الشخص مرتكب المعاصي أن يتوب توبة نصوحاً، وأن يقلع عن معاصيه ثم يرجو من الله الرحمة والمغفرة له.
أيها المسلمون، إن القنوط هو اليأس من رحمة الله عز وجل، وهو مرض من أمراض القلوب المعنوية التي تتناقض مع الإيمان، وإن القنوط صفة من الصفات الذميمة المنهي عنها، وقد ورد لفظ القنوط مع مشتقاته في القرآن الكريم ست مرات، كما ورد لفظ اليأس مع مشتقاته في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة.
أيها المسلمون، لقد عالج القرآن الكريم ظاهرة القنوط واليأس من خلال الإيمان والتوحيد، وينحو ديننا الإسلامي العظيم باللائمة على من يتصف بالقنوط لأن الاتصاف به يؤدي إلى إنكار رحمة الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى الإصرار على ارتكاب المعاصي والموبقات، مع أن رحمة الله قد وسعت كل شيء لقوله في سورة الأعراف: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ويقول عز وجل في سورة الشورى: وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28]، فالله رب العالمين واسع الرحمة، فإنه ينزل المطر من بعد ما يأس الناس من نزوله.
أيها المسلمون، لقد كشف القرآن الكريم نفسية القانطين اليائسين بأنهم أنانيون ولا يبحثون إلا عن مصالحهم الخاصة، فيقول سبحانه وتعالى في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]، ويقول في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]، ويقول في سورة الروم: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36]، أي إذا أذقنا الكفار نعمة من النعم فرحوا بها بطراً ورئاء، وإذا أصابتهم شدة بسبب أفعالهم المنكرة، إذا هم ييأسون من رحمة الله.
أيها المسلمون، لقد وصف القرآن الكريم اليائسين بالضلال في قوله عز وجل في سورة الحِجر على لسان إبراهيم عليه السلام: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر:56]، ولا يخفى أن الكفار يتصفون باليأس لقوله سبحانه وتعالى في سورة يوسف: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، وفي سورة العنكبوت: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:23]، وما ينطبق على الأفراد فإنه ينطبق على الأمم والشعوب.
أيها المسلمون، أما المؤمن الصادق فإنه يشكر الله دائماً حين النعم ويصبر ويرجو رحمة ربه حين الشدائد، فلا ييأس ولا يقنط، ولا يتذلل ولا يستسلم إلا لله.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد مرت محن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليببيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وثبات وتضحية، وذلك بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإيمان راسخ وعمل نافع بناء، كما ابتليت أمتنا الإسلامية ولا تزال بنكبات وهزائم متوالية في القرن الماضي وفي بداية هذا القرن، غير أن ذلك يجب أن لا يفقدنا الثقة بالله عز وجل خالق الكون والإنسان والحياة، القائل في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، القائل في سورة آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن النكسات والنكبات التي تنتاب الأمم الواعية لا تضعف من قوتها ولا تفقدها الثقة بنفسها ولا تيأس ولا تقنط، بل إن ذلك يحفزها للرجوع إلى الله عز وجل قولاً وعملاً، وللأخذ بالأسباب.
على الأمة الإسلامية أن تبتعد عن الذنوب والآثام والفوضى والخصام، كيف تنهض أمة هذه صفاتها؟
على الأمة الإسلامية أن تحذر من المثبطين للعزائم والذين يصطادون في الماء العكر، ومن الذين يشمتون بما حل بالمسلمين، وأن نحذر من الطابور الخامس الذي يثير الإشاعات والتثبيطات بين المسلمين، على الأمة الإسلامية أن تبحث عن الأعمال التي تعيد مد الإسلام وتحيي الأمل في نفوس المسلمين، كيف لا، وقد بشرنا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))(2)[2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


يا أبناء أرض الإسراء والعراج، أمس الخميس مر عامان على أحداث أمريكا التي عرفت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى الآن لم تعرف أمريكا كيف ومتى وقعت هذه الأحداث ومتى خطط لها ؟ وقامت أمريكا إزاء ذلك خلال هذين العامين بحربين ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، ولكن أمريكا، وحتى الآن لم تحقق أحلامها، فالمقاومون والمجاهدون المسلمون في أفغانستان والعراق لا يزالون يحاربون المحتلين، ولن يمكنوهم من ديار الإسلام حتى يرحلوا عنها، فعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتحدوا كما أمرهم الله رب العالمين بقوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، ويحذر سبحانه وتعالى المسملين من الفرقة والاختلاف بقوله: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وذلك حتى يتمكن المسلمون من دحر الغزاة والمحتلين الذين يدعون بأنهم يحاربون الإرهاب حسب تفسيراتهم، وهم فعلاً الذين يقومون بالأعمال الإرهابية في أفغانستان والعراق.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج بعد أيام تصادف ذكرى صبرا وشاتيلا في لبنان، هذه المجزرة التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من أهل فلسطين اللاجئين في لبنان، ولا يزال المجرمون الذين قاموا بمجزرة صبرا وشتيلا يمارسون المجازر ضد شعبنا الفلسطيني المرابط الأبي، ولا تزال محاولات الاغتيال قائمة غير قاعدة في غزة وفي غيرها، بحجة الدفاع عن النفس، وتتحمل السلطات المحتلة مسؤولية العنف الذي يقع في ديارنا المباركة المقدسة، إن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والاعتقال والإبعاد والهدم والانهيار هو لفرض الاستسلام، وإن شعبنا الذي يطالب بإنهاء الإحتلال لن يقبل الاستسلام، ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب حضاري، ولأنه صاحب حق شرعي، يستمد حقه من الله رب العالمين، ولأن جذوره ممتدة عبر آلاف السنين في هذه الديار، هذا وإن الله عز وجل لن يغفر لحكام الدول العربية والإسلامية سكوتهم وصمتهم إزاء ما يقع بحق هذا الشعب المرابط، ولأنهم أي الحكام لم يلبوا صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام التي انطلقت من المدن والقرى والمخيمات، وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، أما المسجد الأقصى المبارك قرة عيون المسلمين، فهو يواجه في هذه الأيام تحديات جديدة بهدف رفع يد المسلمين عنه، ولن يتحقق هذا الهدف بإذن اله وعونه وتاييده، فللبيت رب يحميه، ونحمل السلطات المحتلة مسؤولية ما تقوم به من المس بحرمة الأقصى، فالأقصى للمسلمين وحدهم، والمسلمون هم سدنته وحراسه، ولن يتخلوا عنه، لأن التخلي عنه بمثابة تخلٍ عن جزء من العقيدة والإيمان، وسيبقى أهل الرباط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، سيبقون ملتفين حوله، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وينبغي على أهل الرباط أن يتواجدوا وبشكل استمراري في المسجد الأقصى المبارك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (4477)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب (86).
(2) رواه بنحوه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816)، قال الهيثمي: رواه عبد الله مجادة من خط أبيه، والطبراني ورجاله ثقات، مجمع الزوائد (7/288).
(1/2856)

الاثنين، 9 مارس 2015

خطر اتباع الهوى


الحمد لله ولي المتقين, أحمده سبحانه يعز الطائعين ويذل

العاصين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, شفيع

المؤمنين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم عليه

وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

 فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، فإن التقوى

خير زاد يصحب المسلم في رحلته إلى الله والدار

الآخرة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب

سليم.

أيها المسلمون، إن مجانبة الضلال والسلامة من الغواية

والنأي عن فساد العمل منتهى أمل المسلم، وغاية أمله

وذروة مقصده، لذا ليس عجباً أن ينبعث له حس مرهف

وشعور يقظ، وفكر حي يحمله على تمام الحذر من كل ما

يحول بينه وبين سلوك سبيل الاستقامة، فإن الحوائل

كثيرة، وإن العوائق عديدة، غير أن من أظهر هذه

الحوائل وأقوى هذه العوائق أثراً وأشدها خطراً اتباع

الهوى, على معنى أن يكون دليل المرء وقائده ومرشده ما

تميل إليه نفسه, ويهواه قلبه, ويلتذ به حسه لا ما يأمره به

وينهاه عنه الله ورسوله.

ولما كان المسلم مأموراً بأن يجعل صلاته ونسكه ومحياه

ومماته لله رب العالمين، كما قال سبحانه مخاطباً أشرف

خلقه وخاتم أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه: قُلْ إِنَّ

صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ

شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162،

163]؛ كان اتباع الهوى عاملاً خطيراً في النأي بحياة

المسلم عن هذا الأصل العظيم من أصول السعادة

وأسباب النجاة، ولذا حذّر سبحانه في حشد من آيات

كتابه العزيز من اتباع الهوى مقروناً بجملة من الصفات

المقبوحة والأحوال المرذولة التي تعد مع ذلك من

الأسباب الباعثة عليه والمفضية إليه.

فمن ذلك عدم العلم بالله وآياته وشرعه، ومنه القول على

الله بغير علم، كمن يتصدى للفتوى دون أن تجتمع فيه

شروطها وآدابها، فيكون من نتيجة ذلك أن يفتي الناس

بما تهوى الأنفس, لا بمقتضى الدليل من كتاب الله وسنة

رسوله ، فيورد نفسه بذلك ويورد غيره موارد الهلاك,

ويكون وبالاً على الأمة وسبباً في الانحراف عن الحق

كما قال سبحانه: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ [

الأنعام:119].

ومن ذلك الغفلة عن ذكر الله والإعراض عن شرعه,

فإنها تحمل المسلم على ترك ما أمر به, ونهي عنه,

والانصراف إلى شهوات النفس ولذات الحس وجعلها

منتهى همّه, وغاية مقصده، فلاحظ في نفسه لغيرها، بل

يكون حاله مشابهاً لحال الدواب والعجماوات.

ويزداد عظم الخطر عندما ينصرف المرء عن شريعة

ربه بالكلية مصماً أذنيه عن البينات والهدى فتتشعّث عليه

أموره, ويشيع الاضطراب في حياته، ولذا حذر سبحانه

المؤمنين من هذه العاقبة فقال سبحانه: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا

قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

ومنها الإخلاد إلى الأرض، والركون إلى الدنيا والعمل

لها والرضا بها، حتى تكون أكبر همه ومبلغ علمه, لها

يعمل, وإليها يقصد, ولأجلها يناضل، وفيها يوالي ويعادي،

حتى يقعد به ذلك عن سمو الهدف ورفعة الغاية وشرف

المقام الذي ينشده ألو الألباب بعملهم لله والدار الآخرة،

فتكون عاقبة أمره خسراً وندامة لا تنتهي, وحسرة لا

تنقطع, كما قال سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ

ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ

شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ الآية [

الأعراف:185، 186].

ومنها الظلم، والظلم يا عباد الله، تتسع أبعاده وتتنوع

دروبه، فلا يقتصر على ظلم الإنسان نفسه بالمعاصي

حتى يوردها موارد الهلاك، بل يتجاوز ذلك إلى ظلم

غيره بألوان كثيرة تندرج كلها تحت مفهوم التعدي عليهم

في الأنفس أو الأموال أو الأعراض فيورثه ذلك من

ظلمات يوم القيامة ما لا منجى له منها كما قال سبحانه:

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29].

ومنها تزيين سوء العمل في نفس صاحبه، فإن المرء إذا

زين له سوء عمله انعكست لديه الموازين, فأصبح يرى

الحق باطلاً، والباطل حقاً، والحسد قبيحاً، والقبيح حسناً،

وإنها لمحنة يا لها من محنة، كما قال سبحانه: أَفَمَن كَانَ

عَلَى بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ

أَهْوَاءهُمْ [محمد:14].

ومنها الظن، الذي لا يغني من الحق شيئاً، كما قال

سبحانه: وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ

لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً [النجم:28]، وكما قال سبحانه: إِن

يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ

الْهُدَى [النجم:23].

ثم إن لاتباع الهوى في دنيا الواقع صوراً كثيرة لا يحدها

حد, ولا يستوعبها حصر، غير أن من أعظمها خطراً،

وأشدها ضرراً، ما يكون من اتباع الهوى في ميدان

الحكم بين الناس، والفصل بينهم في الدماء والأموال

والأعراض، ولذا أمر سبحانه نبيه داود عليه السلام

بالحكم بين الناس بالحق, ونهاه عن اتباع الهوى لأن

عاقبة ذلك الضلال عن سبيل الله, فقال تعالى: يادَاوُودُ إِنَّا

جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ

تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ الآية [ص:26].

وكذلك أمر سبحانه نبيه وأشرف خلقه وأعلمهم بربه

محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل

الله، وحذره من اتباع الأهواء فقال تبارك وتعالى: وَأَنِ

احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن

يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا

يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ

لَفَاسِقُونَ [المائدة:49].

وبين له أن مآل اتباع أهواء الضالين مفضٍ به وهو

رسول رب العالمين إلى الضلال والخيبة والخسران,

فقال سبحانه: قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ

اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ

[الأنعام:56].

ولا ريب يا عباد الله، أن هذا كله توجيه للأمة من بعده,

وتحذير لها, وهدى وذكرى لأولي الألباب.

ومن صور اتباع الهوى أيضاً اعتداء المرء بنفسه وذهابه

بها مذاهب العجب والغرور حتى يشمخ بأنفه, ويستعلي

على غيره, ويأنف من قبول الحق ومن الإذعان للنصح

متبعاً هواه، مضرباً عن كل ما سواه من البينات والهدى.

ومنه الحكم على الآخر وفقاً لما يمليه عليه هواه ولما

يستقر في نفسه من آراء، فإذا بذلك يحمله على ترك

العدل، والمسلم مأمور بالعدل مطلقاً، حيث قال سبحانه:

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ

عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً

فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ

تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].

ومن صور ذلك أيضاً أن تكون للرجل زوجات فلا يقم

بمقتضى العدل بينهن, بل يتبع هواه فيحمله ذلك على

الميل إلى إحداهن كل الميل، ويذر ما سواها كالمعلقة،

بل إن الأمر ليتمادى به إلى تعامله مع أبنائه أيضاً, فإذا

هو ميّال إلى بعضهم دون بعض، يرفعه ويهب له ويجعله

محضياً بكل ألوان الرعاية والعناية، ويدع غيره من

أبنائه مبعداً محروماً منسياً.

ومن صور ذلك أيضاً أن يتبع المعلم هواه فلا يقوم بما

يجب عليه من العدل بين طلابه بجعل المفاضلة بينهم

قائمة على أسس من الجد والاجتهاد ورعاية حق العلم, بل

يميل إلى طائفة أو فرد منهم مقدماً من حقه التأخير, أو

مؤخراً من حقه التقديم، اتباعاً للهوى وإعراضاً عن

الحق.

وكم لاتباع الهوى في دنيا الواقع من صور, وكم لها من

أضرار وآثار لا تقع تحت العد, ولا يستوعبها المجال،

وحاصل ذلك أن اتباع الهوى والانقياد له مفض إلى

الانحراف عن الصراط المستقيم, والحيدة عن طريق الله

القويم, وإلى خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران

المبين.

وعلاج ذلك ـ يا عباد الله ـ أن يجعل المرء هواه تبعاً لما

جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن لا يقدم على

أمر الله ورسوله شيئاً مهما عظم شأنه وعلا قدره, وأن

يحتكم في كل دقيق وجليل من أمور حياته إلى حكم الله,

ويرضى به ويسلم, فتكون عاقبة ذلك أن يرضى ويغضب

لله, وأن يحب ويبغض في الله، وأن يعطي ويمنع لله.

فاعملوا ـ رحمكم الله ـ على مجانبة اتباع الهوى, وانأوا

بأنفسكم عن سلوك كل سبيل يفضي إليه تكونوا من

المفلحين, وصدق الله إذ يقول: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ

وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى

بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [

الجاثية:23].

 فيا عباد الله، إن اتباع ما أنزل الله من البينات

والهدى والعمل به والتسليم له عاصم للمرء من اتباع

الأهواء وحافظ له من التردي في وهدتها, مورثه إياه

سعادة جعلها الله خالصة لمن اتبع شريعته واهتدى بهديه,

وأعرض عن كل ما سوى ذلك، كما قال سبحانه مخاطباً

عبده ونبيه محمداً آمراً إياه باتباع شريعته، محذراً له من

اتباع الأهواء قال سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ

الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن

يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء

بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].

فهذا ـ يا عباد الله ـ هو الطريق المستقيم الموصل إلى

رضوان الله والظفر بجناته، فالزموه واستمسكوا به ـ

رحمكم الله ـ وحذار من اتباع الهوى فإنه الداء كل الداء.

(1/2830)