الجمعة، 27 مارس 2015
الخميس، 26 مارس 2015
المنافقون في فترات ضعف الأمة لتحقيق أهداف أعداء الأمة
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الناس في هذه الدنيا طوائف ثلاثة: طائفة المؤمنين، وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وطائفة الكافرين وهم من أنكروا واحداً من أركان الإيمان، وطائفة المنافقين، وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
تواجد هؤلاء المنافقون في فترات ضعف الأمة لتحقيق أهداف أعداء الأمة والوصول إلى غاياتهم من إيقاع المسلمين وتمزيق صفوفهم وتفكيك وحدتهم وإيقاع الفتن بينهم، خدمة للكفر الذي يتقربون إليه لتحقيق عرض زائل أو متاع رخيص.
وقد كشف الله تعالى خفاياهم وفضح نواياهم، وحذر من أفعالهم ورد عليهم دعواهم، حتى يتبين المسلمون مكائدهم، ويكونوا في مأمن من غدرهم وخداعهم، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8، 9]، ويقول في موضع آخر من السورة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
وحتى لا يغتر المسلمون بمعسول كلامهم أو توثيق أيمانهم، دعا الله المؤمنين للوقوف على عواقب أفعالهم فقال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد سعت طائفة النفاق مع أعداء الإسلام منذ اليوم الأول لقيام المجتمع الإسلامي في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، سعت هذه الفئة لتقويض هذا الدين والقضاء على دعوته ودولته التي أقامها النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وكان ذلك من خلال محاولات المنافقين إثارة الفتن بين الأنصار والمهاجرين أو بين قبائل الأنصار من الأوس والخزرج الذين وحّدهم الإسلام واستل من قلوبهم الفرقة والضغناء.
وها هو رأس النفاق عبد الله أبن أُبي ينسحب على مرأى من كفار قريش يوم أحد بثلث جيش المسلمين من أعوانه، ليفتّ في عزيمة المسلمين ويفتّ في عضدهم ويضعف قلوبهم في مواجهة أعدائهم.
وهذا شأن المنافقين قديماً وحديثاً، كما أخبر الله عنهم بقوله: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
يا مسلمون، لقد كان المنافقون وما يزالون شر فتنة نزلت في الأمة، فقد تولت زمرة المنافقين إشاعة حديث الإفك بحق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي بذلك فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11].
ألم يكن على رأس كل فرقة ضلت طريق جماعة المسلمين منافقٌ مرد على النفاق لزعزة العقيدة وزرع قوانين الكفر في نفوس المؤمنين كما فعلت الرافضة والمشبهة والفاطميين والجهمية والقرامطة الذين انتزعوا الحجر الأسود من الكعبة المشرفة لطرد الناس عنها.
ويقال لهذه الفرق في زماننا هذا، المنافقون، المستغربون، الذين يبثون أفكار الكفر ويروجون لها في السياسة والحكم والصحافة والتعليم لإبعاد الأمة عن شريعتها الغراء وعقيدتها السمحاء، وهم بذلك يسعون لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ألم يسمِ المنافقون والكافرون احتلال العراق تحريراً، ومقاومة الاحتلال في فلسطين إرهاباً؟ والله يقول: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]، ألم يكن المنافقون الذين ادعوا إصلاح الحكم في نهاية الخلافة الإسلامية على رأس الساعين لهدم هذه الخلافة وتنحية الإسلام عن سدة الحكم، وهذه أكبر مصيبة حلت بالأمة إلى يومنا الحاضر، وعلى الأمة أن تبادر إلى إعادة الحكم الإسلامي، وهذا من أولى الواجبات على جميع الدول لإقامة الدين ورعاية شؤون المسلمين.
وكذا ينبغي تبيين النفاق والمنافقين الذين لا زالوا يبثون سمومهم في جسم الأمة، ويتسللون إلى كل شبر من حقول عزتها وكرامتها لهدمه، وإلى كل مظهر من مظاهر قوتها لإضعافه وتدميره، لتكون لقمة سائغة يسهل ابتلاعها من قبل المنافقين ومن وراءهم من الكافرين.
فاحرصوا أيها المسلمون على تنقية نفوسكم من النفاق وأهله، وقد كشف الله أوصافهم وأخرج أضغانهم، فكونوا عباد الله كما أمركم، خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتأمنون بالله.
واحترسوا من النفاق تأسياً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عن عمر الفاروق رضى الله عنه أنه سأل حذيفة رضي الله عنهما إن كان هو من المنافقين، ـ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بأسماء المنافقين ـ فقال له حذيفة رضي الله عنه: (لا، ولا أزكي بعدك أحداً).
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محترزين كل الحرز من النفاق والرياء حتى يكون إيمانهم خالصاً، جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعُ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر))(1)[1].
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لقد تنوعت وتعددت نشاطات المنافقين والمرائين للنيل من صبركم ونضالكم وصمودكم، فلم تكتف فئة النفاق ومرضى القلوب من وصولهم إلى مأربهم باحتلال الوطن، بل يسارعون في السعي إلى إشعال الاقتتال بين أبناء شعبكم، دون تمييز بين طفل و إمرأة وشيخ و رجل، من خلال الحرب المعلنة عليكم، وعلى مكونات صمودكم، فاستهدفوا الأرض والزرع والنسل من خلال الحصار والإغلاق والاغتيال وهدم البيوت واعتقال الأبناء، بل راحت فئة النفاق من العملاء والمرتزقة التي تنكرت لدينها ولأبناء شعبها تدل القتلة والمجرمين بتتبعها لعورات أبنائكم، لتصفيتهم واغتيالهم بدم بارد، بأقبح مظهر من مظاهر النفاق الذي يستوجب غضب الله وسخط المؤمنين.
وتمادت فئة النفاق والعملاء في تسليم الأرض والعقارات للمستوطنين من خلال أسلوب البيع الذي تقوم على التزوير والتغرير، زد على ذلك ما تقوم به هذه الفئة الضالة من نشر الرذيلة بين أبناء الشعب من خلال المخدرات والإتجار بها وترويجها، مما يهدم أخلاق المسلمين ويصرفهم عن واجبهم تجاه دينهم وشعبهم وقدسهم ومقدساتهم.
القدس، التي يقصد التهويد أحياءَها وحواريها، وبات يهدد مقدساتها من خلال الحفريات من أجل تدمير هذه المقدسات ومنع المصلين من الوصول إلى مسجدهم المبارك، واتخاذ الإجراءات التعسفية بحق الموظفين القائمين على حراسة المقدسات ورعايتها، في خطوات تهدف إلى خلق واقع جديد في هذه المقدسات، بعد فشل كل المحاولات السابقة للنيل منها، وذلك بفضل صمودكم والتفافكم حول مقدساتكم، مسرى نبيكم ومعراجه إلى السماوات العلى.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، مازلتم علم الأمة في هذه الأرض المباركة والمكلفون بصيانة مقدساتها، التي تمثل كرامة الأمة وهويتها في هذه الديار المقدسة، فمزيداً من الصبر والثبات والرباط ووحدة الصف والكلمة، وحذار من فتن النفاق والمنافقين، واعلموا أن العاقبة للصابرين المخلصين، والله يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: علامة المنافق (33)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (88) واللفظ للبخاري.
(1/2808)
الفراغ في الحياةِ العامة
الحمد لله الواحدِ الأحَد، الفردِ الصمَد، الذي لم يلِد ولم يولد. وأشهَد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامُه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فاتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتتُه جاهليّة.أيّها المسلمون، إنّ حياةَ النّاس بعامّة مليئة بالشّواغل والصّوارف المتضخِّمة، والتي تفتقر من حيث الممارساتُ المتنوِّعة إلى شيء من الفرز والتّرتيب لقائمة الأولويّات منها، مع عدمِ إغفال النّظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب.
ثمّ إنّ الضغوطَ النفسيّة والاجتماعيّة الكبيرة الناتجةَ عن هذا التضخّم ربّما ولَّدت شيئًا من النّهم واللّهث غير المعتاد تجاهَ البحثِ عمّا يبرِد غلّةَ هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارَها(1)[1].
إنّ الحضارة العالميّة اليومَ قد عُنيت بإشعال السلاح ورفع الصّناعة وعولمةِ بقاع الأرض، تلكمُ الحضارة التي حوَّلت الإنسانَ إلى شِبه آلةٍ تعمَل معظمَ النهار ـ إن هي عملت ـ ليكون ساهرًا أو سادرًا(2)[2] أو خامدًا ليلَه، هذه هي الثمرة الحاصلة، ليس إلا.
إنّ تِلكم الحضارةَ برمّتها لم تكن كفيلةً في إيجادِ الإنسان الواعي الإنسان العاقل الإنسان المدرك الموقِن بقيمةِ وجودِه في هذهِ الحياة وحكمةِ خلقِ الله له، بل إنَّ ما فيها من آلياتٍ متطوّرة وتقنيات كان سببًا بصورةٍ ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياةِ العامة، ممّا ولَّد المناداةَ في عالم الغرب بما يسمَّى: "علم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغُ فراغَ وقتٍ على أقلّ تقدير فهو فراغ نفس وفراغ قلبٍ وفراغ روح وأهدافٍ جادّة ومقاصدَ خاليةٍ من الشّوائب.
يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ [البلد:1-4].
إنّ الحضارةَ العالميّة حينما توفِّر للإنسانِ بالتقدُّم العمليّ والجهد الصناعيّ قوّةَ الإنسان ونشاطَه، وتوفّر له مزيدًا من الوقت، ثمّ يكون في نفسِه وقلبه وروحِه ذلكم الفراغ، فهنا تحدُث المشكِلة ويكمُن الدّاء الذي يجعَل أوقاتَ الفراغ في المجتمعاتِ تعيش اتَّساعًا خطيرًا، حتّى صارت عبئًا ثقيلاً على حركتِها وأمنِها الفكريّ والذّاتيّ، ومَنفذًا لإهدارِ كثيرٍ مِن المجهودات والطّاقات المثمِرة.
إنّ غيابَ الضّبط والتّحليل والتّرشيد للظّاهرة الحضاريّة الجديدة المنشِئةِ أوقاتَ الفراغ ليمثِّل دليلا بارزًا على وجود شرخٍ في المشروع الحضاريّ والعولمَة الحرّة، غير بعيدٍ أن تؤتَى الأمّة المسلمة من قبله.
وإنّ عدمَ وعينا التامّ بخطورة هذا المسلك تجاهَ أوقات الفراغ وعدَم وعينا التامّ بالمادّة المناسبَة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليّات التنمويّة والفكريّة والاقتصاديّة البنَّاءة لجديرٌ بأن يقلِبَ صورتَه إلى مِعوَل هدم يضاف إلى غيره من المعاول، من حيثُ نشعر أو لا نشعر، والتي ما فتِئ الأجنبيّ عنّا يبثُّها ليلَ نهار، لنسفِ حضارة المسلمين على كافّة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا؟! ورسول الله يقول: ((نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)) رواه البخاري(3)[3].
إنّ الإسلامَ دينٌ صالح للواقع والحياة، يعامِل الناسَ على أنّهم بشر، لهم أشواقهم القلبيّة وحظوظُهم النفسية، فهو لم يَفترض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامهم ذكرًا، وكلّ شرودهم فكرًا، وكلّ تأمّلاتهم عِبرة، وكلّ فراغِهم عبادة. كلاّ، ليس الأمر كذلك، وإنّما وسَّع الإسلام التّعاملَ مع كلّ ما تتطلَّبه الفطرة البشريّة السّليمة من فرح وترح، وضحكٍ وبكاء، ولهو ومرَح، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه.
عبادَ الله، إنّ قضيّةَ إشغال الفراغ باللّهو واللّعب والمرح والفرح لهيَ قضيّة لها صِبغة واقعيّة على مضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عند وجودِ موجبات الفراغ كالعُطَل ونحوِها، حتّى أصبَحت عند البعضِ منهم مصنَّفةً ضمنَ البرامج المنظّمة في الحياة اليوميّة العامّة، وهي غالبًا ما تكون غوغائيّة تلقائيّة ارتجاليّة، ينقصها الهدفُ السّليم، لا تحكمُها ضوابط زمانيّة ولا مكانيّة، فضلا عن الضّوابط الشرعية وما يحسُن من اللّهو وما يقبح.
التّرويح والتّرفيه ـ عبادَ الله ـ هو إدخال السّرور على النفس، والتنفيس عنها، وتجديد نشاطِها، وزمُّها عن السّآمة والمَلل.
وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا. رواه مسلم(4)[4].
وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالسهم ويذكرون أمرَ جاهليتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق(5)[5] عينيه(6)[6].
وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنّه قال: (إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ)(7)[7].
وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنّي ليعجبُني أن يكونَ الرّجل في أهله مثلَ الصبيّ، فإذا بُغي منه حاجة وُجِد رجلا)(8)[8].
وذكر ابن عبد البرّ عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: (أجمّوا هذه القلوبَ، والتمِسوا لها طرائفَ الحكمة، فإنّها تملّ كما تملّ الأبدان)(9)[9].
يقول ابن الجوزيّ: "ولقد رأيت الإنسانَ قد حُمّل من التكاليف أمورًا صَعبة، ومِن أثقل ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكليفها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس".
وبِمثل هذا تحدّث أبو الوفاء بن عقيل فقال: "العاقلُ إذا خلا بزوجاتِه وإمائه لاعبَ ومازح وهازل، يعطي للزوجة والنفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفاله خرجَ في صورة طفلٍ وهجَر الجدَّ في بعضِ الوقت".
هذه ـ عبادَ الله ـ بعضُ الشّذرات حولَ مفهوم اللّهو والتّسلية والترويح، يُؤكَّد من خلالِه أنّ الإسلام قد عُني بهذا الجانب حقَّ العناية، غيرَ أنّنا نودّ أن نبيّن هنا وجهَ الهوّة بَين مفهوم الإسلام للتّرويح والتّسلية وبين اللّهو والمرَح في عصرنا الحاضر، والذي هو بطبيعته يحتاج إلى دراساتٍ موسَّعة تقتنِص الهدف للوصول إلى طريقةٍ مثلى للإفادة منها في الإطار المشروع.
فينبغي دراسةُ الأنشطةِ الترويحيّة الإيجابيّة منها والسلبيّة، والربط بينها وبين الخلفيّة الشرعيّة والاجتماعيّة للطبقة الممارسة لهذا النشاط، ومدَى الإفادة مِن الترويح والإبداع في الوصول إلى ما يقرّب المصالحَ ولا يبعّدها، وما يُرضي الله ولا يسخطه، وتحليل الفِعل وردود الفِعل، بين معطيات المتطلّبات الشرعيّة والاجتماعيّة، وبين متطلّبات الرّغبات الشخصيّة المشبوهة، وأثرِ تلك المشاركاتِ في إذكاءِ الطاقات والكفاءات الإنتاجيّة العائدة للأسَر والمجتمعات بالنّفع في دينِهم ودنيَاهم.
إنّ علينا جميعًا كمسلمين أن نشدَّ عزائمَنا لصيانتها ما أمكنَ من أيِّ ضياع في مرحٍ أو لهو غير سليم، أو ممّا إثمه أكبرُ من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يطلِقوا لأنفسهم العِنانَ في التّرويح، بحيث يزاحِم آفاقَ العمل الجادّ واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغلَ عن الواجبات أو تضيع بسبب الانغماس فيه الفرائضُ والحقوق، إذ ليست إباحة التّرويح وسطَ رُكام الجدّ إلا ضربًا من ضروب العَون وشحذِ الهمّة على تحمّل أعباء الحقّ، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأنّ ما للجدّ أولى بالتّقديم ممّا للَّهو والتّرويح، وبهذا يُفهَم قول النبيّ لحنظلةَ بن عامر وقد شكا إليه تخلُّلَ بعض أوقاتِه بشيءٍ من الملاطفة للصّبيان والنّساء، فقال له : ((ولكن ساعة وساعة))(10)[10].
أمّا أن يصبِحَ التّرويح للنفس طابعَ الحياة في الغدوِّ والآصال والخَلوة والجَلوة، وهمًّا أساسًا من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروجٌ به عن مقصده وطبيعته، واتّجاهٌ بالحياة إلى العبث والضّياع، والإنسان الجادّ عليه أن يجعلَ من اللّهو والترويح له ولمن يعوله وقتًا ما، ويجعل للعمل والجدّ أوقاتًا، لا العكس، لا سيّما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النّفوسِ فيه كلّ جديد وطريف، حتّى صارت أكثرَ انجذابًا إلى احتضان واعتناقِ ما هو وافد عليها في ميدان اللّهو والمرح، ولا غروَ في ذلك عبادَ الله، فإنّ الاسترخاءَ الفكريّ وهشاشةَ الضابط القيمِيّ لدى البعضِ منّا هما أنسبُ الأوقات لنفاذ الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمن الخطورة ويستفحِل الداء.
فاللهوُ المنفتِح ـ عبادَ الله ـ والذي لا يضبَط بالقيود الواعيّة، إنّه ولا شكّ يتهدَّد الأصالةَ الإسلاميّة، لتصبح سبهللا بين خطرين:
أحدهما: خطرٌ في المفاهيم، إن كان هناك شيء من بعض المسابقات تُدعَى ثقافيّةً، تقوم في الغالب على جمع للتضادِّ الفكريّ، أو تنميّة الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابت المعلوماتيّة لدى المسلمين، بقطعِ النظر عن التفسير الماديّ للتأريخ والحياة، أو على أقلِّ تقدير الإكثار من طرحِ ما علمُه لا يحتاج إليه الذكيّ، ولا يستفيد منه البليد.
والخطر الثاني ـ عباد الله ـ تلك التي تعَدّ وسائلَ للترويح والتسلية عبرَ القنوات المرئيّة التي تنتِج مفاهيمَ مضلِّلة، عبرَ طرق جاذِبة في الثقافاتِ والشهوات، لاسترقاق الفِكر من خلالِ فنونٍ أو أساطيرَ أو عروض لما يفتِن أو للسِّحر والشعوذة وما شاكلها.
ونِتاج الخطرين ولا شكَّ تمزُّق خطير، متمثِّلٌ في سوءِ عشرة زوجية، أو تباين أفراد أسرةٍ إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطف والانتحار والتآمر والمخدّرات والمسكرات، وهلُمّ جرّا.
وما حال من يقَع في مثل هذا الترويح إلا كقول من يقول: "وداوني بالتي كانت هي الداءَ"(11)[11]، أو كما يتداوَى شاربُ الخمر بالخمر، فلرُبَّ لهوٍ بمرّة واحدة يقضي على بُرج مشيّد من العِلم والتّعليم للنّفس، ويا لله كم من لذّة ساعةٍ واحدة أورثت حزنًا طويلا، وإِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [النحل:95]، مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96].
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلام شريعة غرّاء، جاءت بالتّكامل والتّوازن والتّوسُّط، ففي حين إنّ فيها إعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويح والتسلية، فإنّ فيها كذلك ما يدلّ على أنّ منه النافعَ ومنه دون ذلك.
فقد صحَّ عند النسائي وغيره أنّ النبيّ قال: ((كلّ لهوٍ باطل غيرَ تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بسهمه)) الحديث(12)[1].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلِّقًا على هذا الحديث: "والباطل مِن الأعمال هنا ما ليس فيه منفعة ولم يكن محرّمًا، فهذا يرخَّص فيه للنفوس التي لا تصبِر على ما ينفع، وهذا الحقّ في القَدر الذي يُحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك، كالأعياد والأعراس وقدوم الغائِب ونحو ذلك" انتهى كلامه(13)[2]، ويقول ابن العربي رحمه الله عن هذا الحديث: "ليس مرادُه بقوله: ((باطل)) أي: أنّه حرام، وإنّما يريد به أنه عارٍ من الثواب، وأنّه للدنيا محض، لا تعلّقَ له بالآخرة، والمباح منه باطل" انتهى كلامه(14)[3].
هذا في اللهو المُباح عباد الله، وأمّا اللّهو المحرّم أو اللهو المباح الذي قد يفضي إلى محرّم فاستمعوا ـ يا رعاكم الله ـ إلى كلام الإمام البخاريّ رحمه الله في صحيحه حيث يقول: "باب: كلّ لهوٍ باطل إذا أشغله عن طاعة الله"(15)[4]، يعلِّق الحافظ ابن حجر على هذا فيقول: "أي: كمَن التهى بشيء من الأشياء مطلقًا، سواء كان مأذونا في فعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلة أو بتلاوة أو ذكر أو تفكّرٍ في معاني القرآن مثلا، حتّى خرج وقت الصلاة المفروضة عمدًا، فإنّه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغَّب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها؟!"(16)[5].
فالحاصِل ـ أيّها المسلمون ـ أنَّ الترويحَ والفرح ينبغي أن يخضعا للضوابِط الشرعيّة، وأن لا يبغيَ بعضها على حدود الله، والله يقول: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].
ألا وإنّ مَن أراد أن يفرحَ ويلهو فليكن فرحَ الأقوياء الأتقياء، وهو في نفس الوقت لا يزيغ ولا يبغي، بل يتّقي الأهازيج والضّجيج التي تقلق الذاكرَ وتكسِر قلبَ الشاكر، ولله ما أحسنَ كلامًا لحكيم من حكماء السّلف يصِف فيه الباغين في اللّهو العابّين منه كما الهيم(17)[6]، دون رسم للحقّ، أو رعايةٍ للحدود، حيث يقول عن مرَحهم: "إنّه من مشوِّشات القلب إلاّ في حقِّ الأقوياء، فقد استخفّوا عقولَهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدُهم إلا الرياء والسّمعة وانتشار الصّيت، فلم يكن لهم قصدٌ نافع ولا تأديب نافذ، فلبِسوا المرقّعات، واتّخذوا المتنزّهات، فيظنّون بأنفسهم خيرًا، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، ويعتقدون أنّ كلَّ سوداء تمرة، فما أغزر حماقةَ من لا يميز بينَ الشّحم والورم، فإنّ الله تعالى يبغض الشبابَ الفارغ، ولم يحمِلهم على ذلك إلا الشباب والفراغ"(18)[7].
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ [الجمعة:11].
هذا وصلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمرَكم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيّها المسلمون ـ فقال جلّ وعلا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...
__________
(1) الأوار: حرّ النار والشمس.
(2) السادر: المتحيّر.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد (670) بنحوه، واللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته هو لفظ أحمد (5/86، 88).
(5) حماليق العين: هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
(6) هو في الأدب المفرد (81)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (432).
(7) ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص274)، وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص115)، والبغوي في شرح السنة (13/184)، والذهبي في السير (5/421).
(8) أخرجه البيهقي في الشعب (6/292).
(9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (659)، وأخرجه أيضًا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص424-425).
(10) 10] أخرجه مسلم في كتاب التوبة (2750) عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه.
(11) 11] شطر بيت لأبي نواس، وشطره الأول: "دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ"، وهو في ديوانه (1/21), وانظر: نهاية الأرب (3/83).
(12) أخرجه النسائي في كتاب الخيل من السنن (3578)، ولفظه: ((وليس اللهو إلا في ثلاثة....))، وأخرجه أيضًا أحمد (4/148)، وأبو داود في كتاب الجهاد (2513) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/95)، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (821).
(13) الاستقامة (1/277).
(14) انظر: فيض القدير (5/402).
(15) وذلك في كتاب الاستئذان من صحيحه.
(16) فتح الباري (11/91).
(17) الهيم هي الإبل العطاش.
(18) إحياء علوم الدين (2/ 250) بتصرف.
(1/2809)
وإذا قلَّ المهرُ علَت المرأة وشرُفَت عندَ الزوج مكانتُها وزادت بركتُه
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
الأسرةُ أساسُ المجتمَع، منها تتفرّق الأمَم والشّعوب، نواةُ بنائِها الزّوجان، ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ [الحجرات:13]. والشريعة مبناها على الحِكَم ومصالح العباد، دَعَتِ الشبابَ لإعفاف أنفسِهم بالزّواج، قال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشرَ الشّباب، منِ استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوّج؛ فإنّه أغضّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصيام؛ فإنّه له وجاء)) متّفق عليه(1)[1].حثَّ الدّين على اختيار الزّوجةِ الصّالحة ذاتِ الخلُق الرّاقي والتعامل الهادي، لا ترفعُ صوتًا ولا تؤذي زوجًا.
والسؤالُ عن حالِ الخاطب والمخطوبة أمرٌ لازم لبيان ما قد يخفى في أحدهما من مثالبَ قادِحة، وعلى المسؤول الصّدقُ في الجواب والبيانُ بكلّ وضوحٍ وأمانة لإبداء خوافي المحاسِن والمساوئ، وكتمانُ معايِب أحدِهما عندَ السؤال ضربٌ من الغشّ للمسلمين.
وإذا عزَم الخاطبُ على الخطبة أبيحَ له النّظر إلى مخطوبته بحضُور محرمِها ودونَ خَلوة بها، من غير تدليسٍ عليه في زينةٍ أو تجمّل، يقول المصطفى : ((إذا خطَب أحدُكم امرأةً فلينظر إليها؛ فإنّه أحرى أن يؤدَم بينهما)) رواه مسلم(2)[2].
وليحذَر الخاطب قبلَ العقدِ الخلوةَ بمخطوبتِه أو الحديثَ معها بمهاتفةِ الاتّصال أو إلباسَ المخطوبة خاتمًا أو مسَّ جسدها أو الخروج بها من دارها، فإنّ ذلك من المعاصي وركضةٌ من الشّيطان يغوي بها الخاطبَين، وكثيرًا ما تتبدَّد أحلامُهما بتلك السيّئات.
والإسلامُ دين عدلٍ وقصد، أمَر الشبابَ بالزّواج، وحثّ على تيسير مهرِه، وإذا قلَّ المهرُ علَت المرأة، وشرُفَت عندَ الزوج مكانتُها وزادت بركتُها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أعظمُ النّساء بركةً أسرهنَّ مؤونةً))(3)[3]. وأثرياءُ الصّحابة لم يغالوا في مهورِهم، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: تزوّجتُ على وزنِ نواةٍ مِن ذَهب، ولمّا علِم النبيّ عن صداقِه قال له: ((بارَك الله لك))(4)[4].
والمَهر حقٌّ للمرأة لا يجوز للآباء أو الأوليَاء اختصاصُهم به، قال سبحانه: وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].
وجمالُ المرأة في سترِها، وبهاؤها في حيائها، ورونقُها في عفافِها، والإسلامُ جاء آمرًا بسِتر المرأة، وبعضُ النّساء يقعنَ في المحرّمات في مواطنِ فرح، فتجوّز لنفسِها ما ضاقَ مِن المَلبس، وأخرى تلبسُ ما رقَّ منه ممّا لا يستر جسدَها، ومنهنّ من تُبدي شيئًا من ساقِها وفخذِها، ومنهنّ من لا تستُر أعلى جسدِها، يزيّن لهنّ الشيطان سوءَ عملهنّ.
والمرأةُ لا يحلّ لها أن تبديَ للمرأة إلاّ ما أبيح كشفُه أمامَ محارمِها مِن الرجال ممّا جرت العادةُ بكشفه في دارها مِن الرّأس واليدين والعنُق والقدَمين، ولا تبدِي المرأة عندَ النّساء أكثرَ من ذلك.
ومِن النّساء من تكشِف عورتَها لامرأةٍ أخرى لإزالةِ خوافي شعرِ جسدها، وهذا منكرٌ غليظ، فيه اطِّلاعٌ على العورات وخديعةٌ للزّوج وضياع لحقِّه في غيبته، عليها تهديدٌ من ربّ العالمين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أيّما امرأةٍ وضعت ثيابَها في غير بيتِ زوجِها فقَد هتكت سترَها فيما بينها وبين الله)) رواه الحاكم(5)[5].
والدّين وسطٌ في الإنفاق بين الإسراف والتقتير، يُعلن النكاحَ ولا يقَع في المحذور، ومِن النّساء من تتباهى في زينةِ الملبَس والتبرّج والتجمّل، تبدِّد الأموالَ وتهدر الأوقات بشهرةٍ زائفة أو رياءٍ ممقوت.
واحذري ـ أيّتها المرأة ـ مِن الخُيَلاء في الملبَس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((بينما رجلٌ يمشي في حلّةٍ تعجِبه نفسُه مرجِّلٌ رأسَه يختال في مشيَته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) متّفق عليه(6)[6].
والمرأة المسلمةُ متميِّزة بزينتِها وملبسِها وشعرها، بعيدةٌ عن تشبّهها بالرّجال أو غير المسلِمات، وتشبُّهُها بغير جنسِها يعرّضها للوعيد، فقد لعن رسول الله المتشبّهات من النّساء بالرجال(7)[7]، ولكلّ جنسٍ من الرّجال والنّساء خصائصُه وأحواله وملبسُه وزينتُه. المرأة تفخَر بأنوثتِها، والرّجل يعتزّ برجولتِه، وفي التّقليد ضعفٌ في النّفس وعدمُ رضًا بالخصائِص ونقصٌ في إدراكِ حكمةِ الخالِق.
وحواجبُ العينين زينةٌ مِن ربّ العالمين، وبعضُ النّساء تعمد إلى إزالةِ بهاء وجهِها وجمالِ عينيها بنتفِ حواجبها، وقد لعن الله مَن أزالت شعرَ حاجبها، يقول النبي : ((لعن الله النامصةَ والمتنمِّصة))(8)[8].
وبعض النّاس لضعفٍ في النّفس مولَع بالتّقليد، يضاهي غيرَه حتى في أفراحه، والرّجل محرّم عليه رؤيةُ المرأة الأجنبيّة في النكاح وغيره، ودخول الزّوج ليلةَ الزفاف على النساء الأجانب وجلوسُه على علوٍّ مع زوجتِه وهو يتطلّع إلى نساءِ المسلمين بكامِل زينتهنّ منكرٌ رذيل، يقول النبيّ : ((إيّاكم والدخول على النّساء)) متّفق عليه(9)[9].
وجلوسُ الزّوج مع زوجته أمامَ النّساء تقليدٌ مقيت، دافعه الهوى، وظاهرهُ الخُيَلاء، وثمرتُه الشّقاء، فما حالُ الزّوجين أمام النساء وهنّ ينظرنَ إليهما؟! والناظر للزّوجين مِن الحضور ما بين شامتٍ في الخِلقة، وما بين حاسدٍ على النعمة، تقول فاطمة رضي الله عنها: (خيرٌ للمرأة أن لا ترى الرجالَ ولا يراها الرّجال)(10)[10].
وإرخاءُ ذيلٍ طويل يُحمَل خلفَ الزّوجة ليلةَ زفافِها تشبّهٌ بغير المسلمين، حرامٌ عليها فعلُه.
والمعازِف والغناءُ لا تدني من الربّ، ومن أسبابِ قسوةِ القلب، حجابٌ كثيف عن الرحمن. وما يفعله بعضُ النّاس من المعازف ليلةَ النكاح جحودٌ لنِعمة الله وعصيانٌ له، ومِن السّرف استئجار عازفةٍ للغناء لعصيان ربِّ العالمين في دُجى السَّحَر زمنِ نزول العظيم جلّ جلاله إلى السّماء الدنيا، والعُبّاد في محاريبهم.
والمسلمُ حرامٌ عليه حضورُ مناسبةٍ فيها منكر، يقول الأوزاعي رحمه الله: "لا تدخلْ وليمةً فيها طبلٌ ومعازف".
وفي أحكام الإسلام غنيةٌ عن الحرام، ودينُنا أباح ضربَ الدفّ للنّساء خاصّة في وقتٍ مِن اللّيل بكلامٍ لا محذورَ فيه.
والتّصوير مِن كبائرِ الذّنوب، موجبٌ للّعنة والغَضب، قال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله المصوِّرين والمصوِّرات))(11)[11]. والمصوّر أشدّ الخلقِ عذابًا، قال : ((أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون)) متفق عليه(12)[12].
وتصويرُ النّساء يجني مفاسدَ وخيمة، وقد تسري صوَرُ النّساء إلى غير المحارم من الرّجال، فتنهار بذلك بيوت، والأبُ اللّبيب من يمنعُ زوجتَه وبناته من ورود أماكنِ التّصوير.
والعدلُ في المأكل والمَشرب وعدم البذَخ فيه دأبُ الفضلاء، سنّةُ خيرِ البشر، تصِف صفيّة رضي الله عنها وليمتَه بقولها: أولمَ النبيّ على بعضِ نسائِه بمدَّين من شعير(13)[13].
ومِن مجانبةِ الصّواب أن تكونَ مبذِّرًا في الزّواج، شحيحًا في البذل في أوجُه الخيرات.
وتكرار ولائِم مناسبات النّكاح في ظاهرها أفراح، وفي حقيقتِها على الزّوج أتراح، للخطبةِ وليمةٌ، وفي يوم إلباس المخطوبة خامًا من قِبل خاطبِها مأدُبة، ومسّ يدها محرّم، وليلة عقد النكاح دعوة، وفي ليلةِ الزّفاف مآكل ومشارب متنوّعة، إرهاقٌ لمؤونَة الزّوج، هل مَن يسعى لبِناء بيتِ زوجيّة مُحاطٍ بالسّتر والعفاف تُستنزَف أمواله أم تخفَّف عنه الأعباء لإضافةِ لبنةٍ صالحة في المجتمع؟! والاكتفاءُ بوليمة واحدةٍ ليلةَ الزفاف أحبّ للزّوجين وأسلم وأكملُ وأوفق.
والله عزّ وجلّ جعل الليلَ لباسًا والنومَ سُباتا، والنبيّ كان يكرَه النومَ قبل العشاء والحديثَ بعدها. متفق عليه(14)[14].
ولحظات الفرَح يُظهر التعبير عنها من غير سهَر فاحِش، وإعلانُ النكاح لا حاجة إلى امتداده إلى السَّحر، وساعاتٌ في الليل غنيةٌ عن جميعه.
وبعد: أيّها المسلمون، فمَن أسّس بنيانَه على التّقوى أزهى وأربى، ومن أحاطه بالمحرّمات أذِن بحلول الشّقاء، والزّوجان يستويان في لظى العِصيان ليلةَََ زفافِهما، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "إنّي لأعصِي الله فأرَى ذلك في خلُق امرأتِي ودابّتي"(15)[15].
والمرأةُ الحاذِقة لا تزلزل بيتَها بمعصيةِ الله أوّلَ ليلتِها، فالذّنوب تعسِّر الأمورَ، وتوحِش القلبَ بين الزّوجين، وكلّما كان الزّواج أقربَ إلى الصّواب كانَ أحرى بالتّوفيق.
وجملة المخالفات في النّكاح داعيها عُقدةُ الشّعور بالعَجز والنّقص، وبعضُ النّاس قد لا يدرك حقيقةَ النّكاح، يظنّ أنّ مِن مستلزماتِه البذخ والتفنّن في المآكل والتّباهي في الملابس، وليس الأمر كذلك، بل النّكاح عقدٌ موثَّق غليظ بين زوجين، لا يُشاب بخطيئةٍ، ولا يعرَّض للانهيار بمعصية.
وعلى الآباء أن لا يُرخوا العنانَ للنّساء لارتكاب المعاصي بما يزيد النّكاح عقبات. والمرأةُ مستضعَفةٌ، إن لم تُؤخذ بِيَد وليِّها جنحت مع نفسِها لهواها، وعلى النّساء الإذعان لأوامِر الله وعدمُ الوقوع في المحرّمات، وعلى المرأة أن تشتغل بمعالي الأمور لإصلاح قلبها في طاعة ربّها، فموطنُها أمٌّ وراعية أسرةٍ وموجِّهة، ينبغي أن تُعليَ مِن فِكرها، وترقَى باهتماماتِها، فاليومَ عملٌ ولا حِساب، وغدًا حسابٌ ولا عمَل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
الإسلامُ هو منبَع الحضارةِ والسُّؤدَد، والتمسُّك بِه يثمِر الرُّقيَّ والتقدّم، يبني الأمَمَ، وينشئ الأجيالَ بأمثل السّبُل، يسَّر مسالكَ النّكاح ودروبَ المودّة بزواج سعيدٍ يبهج الزوجَين وأهلهما، ويسرُّ المجتمع بأكملِه.
يختار الزوج امرأةً ذات دين وخلقٍ راق وأدبٍ رفيع، وإذا تقدّم خاطبٌ كفءٌ متَّسمٌ بالدين والخلُق لم يردّ، وبعدَ استشارةٍ لذوي النّهى واستخارة وعزمٍ على الاختيار يرى الخاطبُ مخطوبتَه بحضورِ محرمِها. ومع انشراحِ صدرٍ وتوكُّل يُعقد النّكاح، وفي ليلةِ الزّفاف فرحٌ معتدِل، لا مباهاةَ فيه ولا مفاخرة، يُعلَن فيه النّكاح ويدعَى إليه ويصنَع طعامٌ بقدرهم، لا إسرافَ فيه ولا تبذير، وتُزَفّ المرأة إلى زوجها، والمرأةُ الواعيَة ذات العقلِ الرّاجح والروح السامية تسعى إلى منعِ المحرّم في زواجِها لعلمِها أنّ المعصيةَ لها أثرٌ على حياتِها مع زوجها. والإسلامُ يسَّر النكاحَ وسهّل أبوابَه على الشّباب، النبيّ تزوّج صفيّةَ وهو في سفر، يقول أنس رضي الله عنه: حتّى إذا كان بالطّريق جهَّزتها له أمّ سليم، فأهدتها له في اللّيل، فأصبح النبيّ عروسًا(16)[1].
ومِن قبائِح الصّنائع تأخيرُ الأبِ تزويجَ ابنته مع تقدُّم الكفءِ لها، أو حجرها على ابن عمّها، واعلم ـ أيّها الأب ـ أنّ ابنتَك مستضعفة في دارِك، منعَها حياؤها من إبداء مكنونِ نفسها، تصبِح أسيفةً وتمشي حزينة، تتألّم من دخول بوّابة العنوسة، والمرأةُ زهرة لها زمن قصيرٌ ثمّ تذبُل، ومِن الهدي القويم تزويجُها في سنّ مبكِّرَة، ولا غضاضة في عَرض الرّجل ابنتَه أو أختَه على الرّجل الصالح، وهذا من تمام الرّعاية والقيام بالولاية، وعمرُ الفاروق رضي الله عنه عرض ابنتَه حفصة على عثمان فردّها وما غضِب، فعرضها على أبي بكر فردّها وما أيِس، فعرضها على النبيّ فتزوّجها. رواه البخاري(17)[2].
ومنعُ الآباء الخاطبَ ذا الدين والخلُق مخالفٌ لأمرِ الشّريعة، يقول النبيّ : ((إذا جاءكم مَن ترضون دينَه وخلقه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي(18)[3].
فالرَشَد في اتِّباع الهُدى، واللّبيب من رجَا السعادةَ من أبواب الطاعة.
ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح (5065، 5066)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرج أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي : ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (96). تنبيه: هذا الحديث لم يخرجه مسلم، والله أعلم.
(3) أخرجه أحمد (6/145)، والنسائي في الكبرى (5/ 402)، والبيهقي في الكبرى (7/235) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (2/ 178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو، ولذا ضعف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (1117).
(4) أخرجه البخاري في النكاح (5155، 5167)، ومسلم في النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد (6/41، 173، 198، 267، )، وأبو داود في الحمام (4010)، والترمذي في الأدب (2803)، وابن ماجه في الأدب (3750)، وأبو يعلى (4680)، والطبراني في الأوسط (4743)، والحاكم (7780، 7781)، والبيهقي في الكبرى (7/308) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3021).
(6) أخرجه البخاري في اللباس (5789)، ومسلم في اللباس (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه البخاري في اللباس (5885) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(8) أخرجه البخاري في اللباس (5931، 5939، 5943، 5948)، ومسلم في اللباس (2125) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
(9) أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(10) 10] أخرجه البزار في مسنده (526) بنحوه، قال الهيثمي في المجمع (4/255): "فيه من لم أعرفه، وعلي بن زيد أيضا".
(11) 11] لعنُ المصوّرين أخرجه البخاري في الطلاق (5347) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
(12) 12] أخرجه البخاري في اللباس (5950)، ومسلم في اللباس (2109) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(13) 13] أخرجه البخاري في النكاح (5172).
(14) 14] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (547، 568، 599)، ومسلم في المساجد (647) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.
(15) 15] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/109) بنحوه، وانظر: صفة الصفوة (2/238).
(16) أخرجه البخاري في الصلاة (371)، ومسلم في النكاح (1365).
(17) أخرجه البخاري في النكاح (5122).
(18) أخرجه الترمذي في النكاح (1084)، وابن ماجه في النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164- 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
(1/2810)
فلا يعلم الماضي والحاضرَ والمستقبل إلا ربُّ العالمين
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
عبادَ الله، إنَّ مِن رحمة الله بهذه الأمّة أن حفِظ عليها مصدَرَ تشريعها، وهو كتابُه العزيز الذي تكفَّل بحفظِه ولم يكِل حفظَه لسواه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
بيَّن فيه الحلالَ والحرام، قصَّ القصصَ والأخبارَ، ذكرَ فيه الحدودَ وحرَّم التعدّيَ عليها، ذكر الحدودَ في الاعتقاد والقول والعمَل، حفِظ هذا الكتاب العزيزَ بأنواعٍ من الحفظ، حفِظه في اللّوح المحفوظ بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج:21، 22]، حفِظه في الأرض، فهيَّأ له من جَمَعه وكتبَه واعتنى به، حفِظه في صدورِ الرجال بَلْ هُوَ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، حفِظه حين وَحيِه وتنزيله، فلم تستطِع أيدي شياطين الجنّ والإنس العبثَ به، لقد كان الجنُّ قبل مبعثِ محمّد يسترِقون السّمع، فيسمعون شيئًا ممّا تقوله الملائكة مِن أوامر الله، فيسمَع الكلمةَ مسترقُ السمع، فيرسلها إلى أخيه الكاهن مِن الإنس، فيكذِب معها مائةَ كذبة، فيُظنّ صدقه على ما يقول، ولمّا اقترب مبعث محمّد حرس الله السماءَ بالشهب، فلم يستطيعوا الوصولَ إلى شيء من ذلك، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]. رُميت الشياطين بالشّهب قبلَ المبعث النبوي، فأصاب الناسَ ذهول ممّا رأوا، فالإنس مِنهم مَن أيقن بهلاكه، فترك بهائمَه وهَام، والجنّ بحثوا ما مصدرُ ذلك؟ حتّى وجدوا النبيَّ يقرأ القرآن، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ الآية [الأحقاف:29].
أيّها المسلمون، فحرس الله السمواتِ بالشّهب، وحفِظ الغيبَ فلم تمتدَّ إليه أيدي العابثين، لا من الجنِّ ولا من الإنس، فالغيبُ ممّا يجري في ملكوتِ السموات والأرض علمُه عند الله، فلا يعلم الماضي والحاضرَ والمستقبل إلا ربُّ العالمين أو مَن أطلعَه الله على شيء من ذلك كما قال جل وعلا في كتابه العزيز: إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:27].
أيّها المسلمون، لقد زاغَ قومٌ عن الهداية وتنكَّبوا الصّراط المستقيمَ وارتكبوا الغواية، وزعموا أنّهم يعلمون الغيبَ، واستدلّوا بالحوادث الفلكية على ما يجري في الأرض، نظَروا في الأفلاك في اجتماعها وافتراقها ومنازلها، فاستدلّوا بذلك على ادِّعائهم علمَ الغيب، وادّعاء علمِ الغيب إنّما هو تكذيبٌ لله ورسوله، وكفرٌ ومنازعة لله في سلطانِه.
أيّها المسلم، تأمَّل قولَ الله جلّ وعلا: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، فأخبَر تعالى أنَّ الغيبَ في السموات والأرض لا يعلمه إلا الله، والمؤمنون يؤمنون بالغيبِ وبما أخبرَ الله مما غاب عنهم يؤمنون به، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
تأمَّل قولَ الله تعالى: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]. هذا نبيُّنا يأمره الله أن يقول: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، ويقول جلّ وعلا له أيضًا: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوء [الأعراف:188].
أيّها المسلم، إنَّ هناك منكرًا عند بعض الناس، وهم أولئك الذين يدَّعون علمَ الغيب، فيستدلّون بالطوالع والبروج على ما يقولون، فيربطون بينها وبين ما يقَع من نفع أو ضرّ أو سعادةٍ أو شقاء للبشرية، على ما يدَّعونه من علم الغيب، وكذبوا والله، والغيبُ لا يعلمه إلا الله.
أيّها المسلم، إنَّ نبيّنا يقول: ((مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفَر بما أُنزل على محمّد))(1)[1]، ويقول : ((مَن أتى كاهنًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا))(2)[2].
أيّها المسلم، إنَّ ما يخبر به أولئك من المغيَّبات التي لا يعلمُها إلا الله، يقولون: سيحصل في هذا الشهر وفي هذا العام في هذا اليوم في تلك الليلة حوادثُ كذا وكذا، فإذا وقع أمرٌ ما قالوا: نحن قد علِمنا وأخبَرنا وتوقَّعنا ما يجري، وكلّ هذا من المغالطات، كلّ هذا من ادِّعاء علم الغيب، كلّ هذا من الكذِب والافتراء، هذا مذهبُ الفلاسفة والمجوس والصابئة الذين هُم كَفَرة بما جاءت به الأنبياء.
أيّها المسلم، إنَّ علمَ الغيب ممَّا اختصَّ الله به، فهو الذي يعلم ما كان وما يكون، إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
أخي المسلم، إنَّ أولئك الكهّان والمدَّعين علمَ الغيب علمَ ما سيكون وما سيجري يأتيهم الإنسانُ فيسألهم عن حالِه وعن مستقبلِه، ويأخذون منه الأموالَ الطّائلة، فيقول: حظّك كذا، يأتيك كذا، يتحقّق لك كذا، سيأتيك مالٌ سيأتيك كذا إلى آخره، ويظنّ هذا الظانّ أنَّ هؤلاء صادقون، وأنّهم يخبرون عن حقائق، وكذبوا والله، فلا علمَ عندهم، ولا معرفةَ عندهم، ولكنَّ الكذب هو المسيطر عليهم. وافق أمرُهم هوًى في بعض النفوس وضعفًا في الإيمان وقلّةً في العلم والمعرفة.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا قدَّر الأشياء، وعلِم ما العباد عاملون، وكتب هذا العلمَ قبل أن يخلقَ الخليقة بخمسين ألف سنة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكُن، إذًا فما الفائدةُ من أولئك؟! وما الفائدة من الاستفسار منهم؟!
أيّها المسلم، أخفى الله عنك الأمورَ الآتية، وحجب عنك علمَها، ويجري ما يجري بقضاء الله وقدره، لا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمِه وهو سريع الحساب. خُذ بالأسباب النافعة، واتَّق الأسبابَ الضارّة، واستعِن بالله في أمورِك كلّها، سلِ اللهَ الثباتَ على الحق والاستقامة على الهدى، خُذ بالأسباب التي أذِن الله لك بتعاطيها، مع الثّقة بالله، وقوّة اليقين والتوكّل على الله، وتفويضِ الأمر إلى الله، وكُن دائمًا ملتجِئًا إلى الله، سائلا اللهَ العفوَ والعافية في الدّنيا والآخرة، سائلا الله من خيره وفضله، مستعيذًا به من البلاءِ والشرّ، الجَأ إلى الله، وعلِّق بالله أملك، وقوِّ يقينَك وتوكّلك على الله، ثمّ لا يضرّك شيء بعد هذا، في الحديث: ((ولا يردّ القدرَ إلا الدّعاء))(3)[3]، فكثرةُ الدّعاء والالتجاء إلى الله والتضرّع بين يديه يدفع الله به عنك البلاءَ، ويحقّق لك الخير، والله أمَرك بدعائه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. أمّا أولئك الدجّالون الكذّابون فلا علم عندهم بحقائقِ الأمور، وليسوا صادقين فيما يقولون، تخرُّص وظنون وأكاذيبُ وافتراء.
فاتّق الله أيّها المسلم، وإيّاك أن تسألهم عن شيء، إيّاك أن تستفسرَ منهم عن أمر، الآتي علمُه عند الله، ولا يؤمِّنك من المخواف ولا ينجيك من المكاره إلاّ التجاؤك إلى الله، وثقتك بالله، وسؤالُ الله أن يجعلَ فيما قضى وقدّر لك خيرًا، وقل دائمًا: اللهمَّ ما قضيتَ من قضاء فاجعل عاقبتَه لنا رشدًا. فمن ألحَّ على الله والتجأ إليه، كفاه وعافاه، ومَن اتّكل على أولئك الكهّان والدجّالين ألحقوا به الأذى والضّرر، فإن أعطاهم من المال ما يرضيهم حسَّنوا له كلَّ المستقبل، وقالوا: يأتيك المال والولدُ والجاه وإلى غير ذلك، وإن قلّ ما يعطيهم أخافوه فقالوا له: سيأتيك كذا وكذا، فأدخَلوا على قلبه الخوفَ والرعب، ممّا يدلّ على كذبهم وتناقضهم في كلّ ما يقولون.
عبادَ الله، للأسَف الشّديد أنَّ بعضَ المحطّات الفضائية يوجد فيها برامِج ما يسمّى بحظِّ الإنسان ومستقبَل الإنسان، ينتصِب لذلك أقوامٌ أهلُ كذِب ودجلٍ وباطل، يتّصل بهم الكثيرُ من النّاس، يسألونهم: ما هو مستقبلي؟ ما حظي؟ ماذا سأنال في السنين الآتية؟ ماذا سيكون وضعي وحالي وأولادي؟ ما ستكون ثروتي؟ ماذا سيكون جاهي؟ ماذا سيكون موقعي في الحياة؟ إلى آخر ذلك، ثم ينبري أولئك الكهّان الكذّابون الدجّالون فيقول للواحد منهم: حظّك كذا، يسأله: متى وُلدتَ؟ في أيّ البروج؟ في أيِّ الأعوام؟ في أيِّ الطّوالع كان مولدُك؟ فيقول: كذا، فيقول: هذا طالِع سعد وهذا طالِع سعادة وطالِع خير وطالع كذا، فهَذا كلُّه مِن الكذِب والباطل. يتَّصل بهم الكثيرُ من أولئك، يظنّون أنّ عند أولئك علمًا، لا وربِّي، لا علمَ عندهم، ولا معرفةَ عندهم، ولكنّ الكذِب والافتراء هو الذي يكون عندهم.
أيّها المسلم، يا أخي المسلم، ما الفائدة من الاتِّصال بهم؟ ماذا تستفيدُ منهم؟ إمّا أن يغروك بأشياء، ويعِدوك بوعود تعلِّق عليها أماني، والأمَاني رأسُ أموال المفلِسين، أو يدخلونَ عليك رعبًا وخوفًا فتصاب بالهموم والأحزان.
يا أخي، الجَأ إلى ربِّك، اسأل ربَّك من فضله وكرمه، خذ بالأسباب النافعة التي أذِن الله لك بتعاطيها، الجَأ إلى ربِّك وفوِّض أمرك إلى ربِّك، واسأله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، يقول نبيّنا لعمّه العبّاس: ((يا عم، سلِ الله العافيةَ؛ فما أعطِي أحدٌ بعد اليقين خيرًا من العافية))(4)[1]، فاسألِ الله العافيةَ في الدّين والبدن، كان من دعاءِ نبيّكم : ((اللهمَّ إنّي أسألك العفوَ والعافيةَ في الدّنيا والآخرة. أسألك ـ يا ربِّ ـ العافيةَ في ديني وبدني وأهلي ومالي. اللهمَّ استر عورتي، وأمِّن روعتي، واحفظني من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أعوذُ بعظمتك أن أغتال من تحتي))(5)[2]، وفي الدّعاء المأثور: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من جهدِ البلاء ودرَك الشقاء وشماتَة الأعداء وسوءِ القضاء))(6)[3]، ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك ومِن تحوُّل عافيتك ومن فجاءة نقمتِك))(7)[4].
أيّها المسلم، فالاتِّصال بأولئك ومحادثتُهم ومحاولة استكشافِ ما عندَهم هذا كلُّه من الجهل، كلّه من الخطأ، كلّه من ضَعف الإيمان وقلّة اليقين، أن تظنَّ بأولئك الضالّين خيرًا، أو تحسنَ الظنّ بهم، أو تظنّ أنّ عندهم علمَ الغيب، حُجب علمُ الغيب عن أنبياء الله وخير خلق الله، أفيكون عندَ أولئك خير؟! إنّ أولئك ليسوا بعلماء، وليسوا بأهلِ علم وفضلٍ، ولكنّهم أهل دجل وكذب، استطاعوا بكذبِهم وبهرجهم أن يخدَعوا عقولَ بعض الناس، فيزعمون أنّهم يحدِّدون مستقبلَهم، ويعلمونهم بما سيأتيهم، وكلّ هذا من الخطأ، هذه الأمورُ استأثر الله بعلمها، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3]، في الحديث: ((لن تموتَ نفسٌ حتّى تستكملَ رزقها وأجلَها))(8)[5]، فالأرزاق والآجالُ علمُها عند الله، إذا بلَغ الجنينُ في بطنِ أمّه أربعةَ أشهر جاءَ الملك فكتَب رزقَه وأجلَه وعمله وشقيّ أم سعيد، كلّ ذلك مكتوب، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3]، فما بالُنا ندَع الالتجاءَ إلى الله ونتّكل على أولئك الكهان وتوقّعاتهم السيّئة؟! وإن كانوا يدّعون أنهم أهلُ حضارةٍ وعِلم، لكِن الكهانةُ في أولئك كثيرة، فلا تثق بهم، ولا تطمئنّ إليهم، ولا تحاول سؤالَهم ولا استطلاعَ ما وراءهم. كن واثقًا بربِّك متَّكلا عليه معتمِدًا عليه مفوِّضًا أمورَك إليه، وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
واعلموا ـ رحِمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه البزار (3045 ـ كشف الأستار) من حديث جابر رضي الله عنه، وجوَّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف البخاري هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيفَ البغوي وابن سيّد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
(2) أخرجه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي بنحوه.
(3) أخرجه أحمد (37/68) (22386)، وابن ماجه في المقدمة (90) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد: "سألت شيخنا أبا الفضل العراقي عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وأخرجه الترمذي في القدر (2139) من حديث سلمان وقال: "حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
(4) هذا النص مركّب من حديثين، الأول: حديث العباس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أدعو به، فقال: ((سل الله العفو والعافية))، قال: ثم أتيته مرة أخرى فقلت: يا رسول الله، علمني شيئا أدعو به، قال: فقال: ((يا عباس، يا عم رسول الله ، سل الله العافيةَ في الدنيا والآخرة))، أخرجه أحمد (1/209)، والبخاري في الأدب المفرد (726)، والترمذي في الدعوات (3514)، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه الضياء في المختارة (8/378-380)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2790). والثاني: حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: قام رسول الله عامَ الأوّل على المنبر ثم بكى فقال: ((اسألوا الله العفو والعافية؛ فإنّ أحدا لم يعطَ بعد اليقين خيرا من العافية))، أخرجه أحمد (1/3)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجة في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، والبزار (75)، والطيالسي (5)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/156)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
(5) أخرجه أحمد (2/25)، والبخاري في الأدب المفرد (1200)، وأبو داود في الأدب (5074)، والنسائي في الكبرى (10401)، وابن ماجه في الدعاء (3871)، والطبراني في الكبير (10/343) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، وصححه ابن حبان (961)، والحاكم (1902)، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (659).
(6) أخرجه البخاري في الدعوات (6347)، ومسلم في الذكر (2707) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
(7) أخرجه مسلم في الذكر (2739) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(8) أخرجه البزار (2914) من حديث حذيفة رضي الله عنه بنحوه، وقال المنذري في الترغيب (2/340): "رواته ثقات إلا قدامة بن زائدة بن قدامة، فإنه لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال نحوه الهيثمي في المجمع (4/71)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1702). وفي الباب عن جابر رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه في التجارات (2144)، والطبراني في الأوسط (9074)، والقضاعي في مسند الشهاب (1152)، وصححه ابن حبان (3239، 3241)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1743). وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أخرجه الطبراني في الكبير (8/166)، وأبو نعيم في الحلية (10/27)، قال الهيثمي في المجمع (4/72): "فيه عفير بن معدان، وهو ضعيف". وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1151)، وعزاه الحافظ في الفتح (1/20) لابن أبي الدنيا في القناعة، وقال: "صححه الحاكم".
(1/2811)
من يتوكل على الله حقَّ توكله فإنه يكفيه ما أهمه وما أغمه






