الاثنين, مارس 30, 2015
برامج
الوصف:
VSO ConvertXtoDVD هو برنامج لتحويل ملفات الفيديو إلى DVD ومشاهدتها على أي لاعب دي في دي. انها تسمح لتحويل لافي DVD و DivX إلى DVD، WMV إلى DVD، RM إلى DVD، يوتيوب لDVD الخ ... وحرق تلقائيا إلى DVD بعد تحويل الفيديو.. خلق أقراص الفيديو الرقمية من مختلف صيغ الفيديو لمشاهدتها على شاشة التلفزيون مع أي لاعب دي في دي.
الميزات:
VSO اوفيس يسمح لتحويل:
• AVI إلى DVD
• MKV إلى دي في دي
• MOV إلى DVD
• الافلام دي في دي
• WMV إلى DVD
• MTS وM2TS الى دي في دي
• MPEG إلى DVD، MP4 إلى DVD
• وأكثر من ذلك (انظر أشكال الدعم)
إنشاء القوائم والفصول، وأشرطة الفيديو قطع، والتخصيص الكلي مع المعاينة المباشرة.
تعديل مشروعك مع مختلف الإعدادات والميزات المدرجة أدناه. مشاهدة النتائج قبل تحويل!
• خلق القوائم مع أشرطة الفيديو والموسيقى
• مشغل فيديو مدمج لمعاينة حية
• قطع الأجزاء غير المرغوب فيها من الفيديو
• إضافة فصول - التلقائي أو العرف
• ملفات الترجمة *أيد*
• تحويل NTSC إلى PAL والعكس بالعكس
• دمج وظيفة - مثل لCD1 + CD2
• تدوير الفيديو، إضافة السطوع / التباين
المتطلبات:
نظام التشغيل: ويندوز XP، ويندوز فيستا، ويندوز 7، ويندوز 8، ويندوز 8.1 (32 بت و 64 بت).
الصفحة الرئيسية -
VSO ConvertXtoDVD 5.2.0.64 with Key
Description:
VSO ConvertXtoDVD 5 is a software to convert your videos to DVD and watch on any DVD player. It allows to convert Avi to DVD, DivX to DVD, WMV to DVD, RM to DVD, YouTube to DVD etc…and burn automatically to DVD after video conversion. With ConvertXtoDVD and in a few clicks you can backup your movies to DVD playable on any home DVD player. ConvertXtoDVD, the AVI to DVD converter software, has included a conversion advisor tool that will automatically apply the best quality settings based on the videos you have added to your project. Create DVDs from various video formats to watch them on TV with any DVD player. Add 1 or more video files, insert a blank DVD and your videos will be converted and burnt automatically on to DVD with chapters and an elegant DVD menu. No external codecs needed.
Best quality with the fastest conversions possible is the way VSO ConvertXtoDVD is developed to meet the needs of both beginner and advanced users.
Features:
VSO ConvertXtoDVD allows to convert:
• AVI to DVD
• MKV to DVD
• MOV to DVD
• Divx to DVD
• WMV to DVD
• MTS and M2TS to DVD
• Mpeg to DVD, MP4 to DVD
• and more (see supported formats)
Create menus and chapters, cut videos, total customization with live preview.
Edit your project with the various settings and features listed below. Watch results before converting!
• Create menus with videos and music
• Integrated video player for live Preview
• Cut unwanted parts of the video
• Add chapters – automatic or custom
• Subtitle files supported
• Convert NTSC to PAL and vice-versa
• Merge function – like for CD1 + CD2
• Rotate video, add brightness/contrast
Advanced settings for ultimate conversions:
• 2 pass encoding for enhanced quality
• Hardware decoding for faster conversions
• Video/Audio/Subtitle synchronisation
• Various audio output formats
• Image resize filters (lanczos, linear, cubic, etc . . .)
• Multiple encoding profiles
• Multi-core processor optimized
• Audio amplifier
• Padding and cropping
• De-interlacing
• Batch converter
• Multiple conversions processed simultaneously
• Quality advisor
Burn to DVD, create ISO file or store on PC.
Create DVD video standard videos (vob files) to guarantee compatibility with all home DVD players.
• Compatible with any disks (see supported format tab)
• ISO output available
• NTSC + PAL region formats
• 16:9 widescreen + 4:3 fullscreen
• Burn multiple copies
• VSO burning engine included
• Various SD resolutions available
• Custom output size
• Burn on DVD/USB key or store on PC
What's New in This Release?
– 0009647: [Bug] overflow with ssa subtitles (cedric) – resolved.
– 0009043: [Bug] falsely reports “Please insert media to continue” when there is a disc already in the drive.” (cedric) – resolved.
– 0009577: [Bug] burning a second project without restarting the program, the Burn Engine pops up grayish (cedric) – resolved.
– 0009636: [Bug] encoding option “automatic” is always used rather than users choice (cedric) – resolved.
– 0009639: [Bug] unchecking “don’t create title menu for single video” in treeview is not taken into account (cedric) – resolved.
Requirements:
OS: Windows XP, Vista, Windows 7, Windows 8, Windows 8.1 (32-bit, 64-bit).
HomePage - http://www.vso-software.fr
لتحميل البرنامج
الحمد
لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث
رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديهم
وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].
أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، هذه أمتكم الإسلامية عزت باستجابتها لله ولرسوله، وموتها في سبيل الهداية إلى الله، وتمسكها بما أنزل الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
فانظروا إن شئتم إلى تاريخ أمتكم كيف كانت يوم استجابت لدعوة الله واتبعت النور الذي أنزل على رسوله، واتخذته مصدراً لخلاصها، لقد أثمرت هذه الاستجابة في نفوس أسلافكم حقيقة راسخة أحيت القلوب والعقول، وأنقذت أصحابها من ضلالات الجاهلية والجهل، فأصبحت منارات للهدى، تسترشد منها البشرية إلى ما يسعدها في الدنيا للفوز بنعيم الآخرة.
وانبثق عن هذه العقيدة شريعة أسست لهذه الأمة نظاماً تنعم برحمته وتسير بعدالته ويحرر الإنسان من الخضوع لطواغيت الأرض، ليعيش حراً طليقاً في رحاب كرامته الإنسانية، التي ضمنتها قواعد وتعاليم الشريعة السمحاء الغراء، وضمنها الله تعالى دستوراً، ولم تفضل لوناً على لون، أو جنساً على جنس، إلا بمقدار الاستجابة والقرب من الله جل وعلا.
لقد وطّأت شريعة الإسلام ابن السوداء بقدمه على الكعبة الشريفة، هذه الشريعة الغراء التي أحيت أعراب الجاهلية وعباد الأصنام في جزيرة العرب، وجعلت منهم أمة واحدة من دون الناس، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، بنيان متلاصق في ظل أخوة الإيمان، في مجتمع المدينة المنورة التي شهدت مولد الدولة الإسلامية لأول مرة في تاريخ أمتكم.
استمرت الدولة الإسلامية بعد مرحلة النبوة يحكمها الخلفاء والأمراء والسلاطين، بمنهاج الله، الذي ازدهر في مرحلة النبوة، ورضيه الله ديناً لأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبهذا تمت النعمة، وازدهرت الحضارة التي أكرم الله بها أمتكم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تدعو إلى الخير وتعمل به، وتنهى عن المنكر وتجتنبه، وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فاتجه المسلمون إلى كل بقاع الدنيا، يحملون دعوة الإسلام للبشرية جمعاء، يدعونها بالحجة والبرهان، بعيداً عن الإكراه أو الإجبار، لأنه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.
وكانت أمتنا بهذا الدين رائدة الأمم، وغدت دولة المسلمين هي الدولة الأولى في العالم ردحاً من الزمان، لأنها تحكم بشرع الله، وتسير على هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، بهذا ظلت الأمم تعيش بعدل الإسلام، هذا المنهج الحق الذي يحمي هذه العدالة، فلا ظلم ولا قهر ولا غدر بكرامة الإنسان مهما اختلفت الأديان، فكانت الشعوب المقهورة ترحب بالمسلمين وتسارع في الانضواء تحت سلطة دولة الإسلام، التي رأوا فيها خلاصهم من البطش والظلم والقهر الذي عانته تلك الشعوب من القبلية والعرقية وتسلط الحكام.
فمنذ تركت الأمة الإسلامية العودة إلى الله والاستجابة لرسوله أصابتها المصائب، وحلت عليها الأهوال، وتوالت عليها النكبات، وكان من أعظم مصائب أمتكم تنحية النظام الإسلامي عن سدة الحكم والاحتكام إلى الكفر والطاغوت وقوانين البشر الأرضية، فإنَّ أظلمَ الظلم تركُ شريعة الله والاحتكام إلى الأهواء، فالله يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليه عدوهم فاستنقذوا بعض ما في أيديهم))(1)[1].
وها هي الأمة تعاني تسلط الأعداء على أرضها، وجنودها وثرواتها، ويستنقذون كل ما في أيديها، بتواطؤ من ولاة أمورها، من صنائع الاستعمار، الذين ساهموا في تمزيق الأمة، هم عطلوا حكم الله واحتكموا إلى الطاغوت، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد وقفوا حجر عثرة في سبيل نهضة الأمة التي راحت تتلمس طريق خلاصها، بالاستجابة لله ولرسوله، وتسعى إلى الحياة الإسلامية الكريمة، لذلك تعمل دوائر الكفر على اختلاف مسمياتها على محاربتها، لمنع المد الإسلامي ـ القادم لا محالة ـ رغم كل الويلات التي نزلت بالأمة جراء الشعارات الخادعة والريات الزائفة.
لقد تكفل الله بظهور هذا الدين، ووعده أن ينصره على امتداد تاريخ هذه الأمة، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فإن الويلات والنكبات نزلت بالأمة منذ توقفت عن الاستجابة لله ورسوله، بعد إلغاء الحكم الإسلامي والاستعاضة عنه بالأحكام الوضعية التي جلبها المستعمر في العقود الأولى من القرن العشرين لحكم هذه الأمة، وقد مزقت أرض الدولة الإسلامية تحت مسميات من الأقاليم والدويلات، بأعلامها وجنسياتها وحدودها التي غدا المسلم غريباً فيها، حتى بعد الاستقلال المزعوم ورحيل المستعمر مخلفاً على البلاد والعباد من ينفذ خططه وينشر ثقافته، ويكيل بمكياله، بدعم من بني جلدتنا وأبناء قومنا.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لعل من أكبر الشواهد النكبات التي حلت بالأمة، نكبة هذه الديار، نكبة هذه الديار المباركة المقدسة، التي بارك الله في مسجدها وقدسها، هذه النكبة التي بدأت بوعد من المستعمر بمنح من لا يملك لمن لا يستحق.
وفي ظل هذا الوعد الذي أصدرته سلطات الاحتلال والاستعمار البريطاني، ودعمته لاحقاً هيئة الأمم، وقعت نكبة فلسطين الأولى التي شرد أهلها إلى الديار المجاورة، وإلى سائر بقاع الأرض، تحت سمع وبصر الأنظمة الرسمية القائمة في دول العروبة والإسلام يومذاك، والتي رفضت قرار الأمم المتحدة بتقسم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى عبرية، على أمل التحرير والمحافظة على الأرض الفلسطينية عربية إسلامية.
ولم يمضِ أكثر من عقدين من الزمان حتى وقعت النكبة الثانية، أو ما اصطلحت عليه الأنظمة العربية بالنكسة، التي وقعت في الخامس من هذا الشهر(يونيو ـ حزيران) عام 1967م فيما عرف بحرب الأيام الستة.
وكانت الأرض الفلسطينية ودُرة جبينها، القدس، ضحية هذه النكبة أو النكسة التي مضى عليها ستة وثلاثون عاماً. ومعها أراضي عربية في سيناء والجولان ولبنان.
هذه النكبة التي ما زال شعبنا المرابط يتجرع ويلاتها، ويقف في مواجه الاحتلال والاستيطان والتهويد الزاحف بسرعة نحو مدينة القدس بحضارتها ومعالمها، التهويد الزاحف بالاستيطان في كل الأرض الفلسطينية، ويقسمه المحتل إلى استيطان شرعي وغير شرعي.
بعد هذا كله راح العرب ومعهم دول المؤتمر الإسلامي يبحثون عن حل لهذه القضية عن طريق المفاوضات والمهاترات واستقبال المستعمر الجديد والاحتلال الأمريكي الحديث، الذي صنع نكبة أخرى في أرض الرافدين، حظيت بموافقة مجلس الأمن الدولي عليها.
أيها المرابطون في ديار الإسراء والمعراج، إن عزة الأمة والتخلص من كل ويلاتها ومصائبها يكمن في استجابتها لله ورسوله، بالعودة الصادقة لتحكيم شرع الله الذي يوحد الأمة تحت راية الحق، هذه الراية التي انتصر تحت لوائها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومن سار على نهجهم من السلف الصالح، من القادة والحكام العظام، الذين أعادوا مجد الأمة وعزتها بعد انتكاستها أو تراجعها، يقول ابن عمر رضي الله عنه: (منكان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدى المستقيم).
ورحم الله الفاروق عمر رضي الله عن إذ قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر (3315)، وقال الألباني: صحيح لغيره. صحيح الترغيب (2187)، وروى نحوه ابن ماجه في السنن (4009).
(1/2793)
الحمد
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى
رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
اتّقوا الله حقَّ تقاته، واحمدوه على آلائه، واسألوه المزيدَ من نعمائه، واصبِروا على مُرِّ قدَره وقضائه، وحاذروا أن تزلَّ بكم قدَم، ومَن هَدمَ دينَه كان لمجدِه أهدَم.
لا تزال حلقاتُ الكيدِ بالمسلمين تتتابَع، ومكرُ المتربِّصين يتسارع، وقِوى الحقّ والباطل تتصارع، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112].
وتأتي على الأمّة الفواجعُ والزّوابع لتُظهر دخيلةَ أهل النفاق والشّقاق وسوءَ طويَّتهم، وتكشفَ رداءَ المداوَرة، وتمزِّق ثوبَ المراوغة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:29، 30].
ويأتي الهجومُ المعلَن والعداء المبطَّن على الإسلام وعلمائه وأهله وأسُسِه وثوابته ومناهجِه وبلاده مِن ذوي الفكر المقبوح والتوجُّه المفضوح؛ ليؤكِّد بجلاءٍ أنَّ مِن بين صفوف الأمّة أدعياء أخفياءَ، كاذبون في الولاء والانتماء، سلكوا مسالكَ عدائيّة، وطرحوا في تضاعيف الصّحف أفكارًا علمانيّة لا دينيّة. شمَخَ كلُّ واحدٍ منهم بأنفٍ من الجهل طويل، واحتسى مِن قيح الخُبث وقبيح الأباطيل، ونطق بالزّور وافترى الأقاويل. قومٌ بُهت دنَّسوا وجهَ ما كتبوا عليه من قِرطاس، ولطَّخوه بعقائدِ الشكِّ والجُحود والوسواس. مقالاتٌ شوهاء وكلِمات عرجاء وحماقاتٌ خرقاء، تبَّت يدا من خطَّها وتَبّ، ما أقبحَ فعلَه وما كسَب. ألسنةٌ شأنُها الإفك والخطَل، وقلوبٌ أفسدَها سوءُ العمل، يريدونَها فتنةً عمياء، ويبغونها حياةً عوجاء، نقدٌ بلا عِلم، وحوار بلا أدب، ومعالجة بلا فهم، غثٌّ فارغ واستخفاف ماكر. أسافل قد علَت لم تعْلُ مِن كرَم، وأقزامٌ تطاولت، وأقلام مأجورَة تهافَتت على الزور وتعاهدت، فكان حقًا على كلِّ مسلم أن يكشفَ ضلالَهم، ويدفعَ باطلهم. شراذمُ قاصرون وشذّاذ أفّاكون جاؤوا ببضاعة غربيّةٍ اسمُها العلمانيّة، وحقيقتها اللادينيّة، وهدفُها إزاحة الإسلام عن الحياة بالكليّة، يدعون أمَّتهم إلى مذاهبِ الغرب في الحُكم والإدارة، وسلوك مسالكهم في الوضع والتشريع، يعشقون حياةَ الفجور والفسوق والانحراف، ويُبغِضون حياةَ الطّهر والعفاف، يهاجِمون الحجابَ والجلباب، ويطالبون بالسّفور والاختلاط، وينادون بمساواة الرّجل بالمرأة وعملِ المرأة وحريّة المرأة. فأيَّ مساواة يريدون؟! وأيّ عمل يقصدون؟! وأيّ حريّة ينشدون؟! أهي المساواة التي تتوافق مع الفِطرة وتتناسق مع طبيعة المرأة، أم هي مساواة الشذَّاذ؟!
إنّ المساواةَ عندهم هِي أن تكونَ المرأة سلعةً في يدِ عُبَّاد المادّة والمال، مستعبدةً في يد الرجل، يستمتِع بها ويستذلُّها ويدنِّسها ويهين كرامتَها وينتهِك عِرضَها وشرفها، ثمّ يلفظها لفظَ النّواة. المرأةُ عندهم عارضةٌ في دور الأزياء، راقصة في دور البِغاء، غانية في دور الدّعارة والتمثيل، عامِلة برجلَيها وثديَيها، ندٌّ للرّجل ومماثلة له ومتصارعة معه ومزاحمة له. هذه هي المساواة عندَهم.
أمّا المساواةُ في الإسلام فأرِع سمعَك لقول الله عز وجل: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقوله : ((إنّما النّساء شقائق الرّجال)) أخرجه أحمد والترمذي(1)[1]. فالمرأة شقيقة الرّجل، تكمِّله ويكمِّلها، هو رجلٌ برجولته وقوامَته، وهي امرأة بأنوثتها وعفّتها.
المرأة عندهم بغيٌّ من البغايا وأمة من الإماء، والمرأة عندنا أمّ رؤوم وزوجٌ حنون وأختٌ كريمة، طهرٌ وحشمة وعفاف، وحياء وشرف وإباء، مربِّية أجيال، وصانعة أبطال، وغارسة فضائل، ومرضعة مكارم، وبانية أمَم وأمجاد. هذه هي المرأة عندنا فلينهلِ العالم الكافر من نظام الإسلام وعدله وحكمتِه ورحمته، إنّا ندعو العالمَ أن يزيحَ الظلمَ الذي أوقعَه على المرأة يومَ استعبدَها وأشقاها وأضناها وأشقى البشريّة معها.
وتمتدّ الهجمة الحاقدةُ من أهل العلمنَة والنّفاق لتُحارِب عقيدة الولاء والبراء التي هي أوثق عُرى الإيمان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لأبي ذر: ((أيّ الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال : ((أوثقُ عُرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحبّ في الله والبغض في الله)) أخرجه الطبراني وله شواهد يقوى بها(2)[2].
فلماذا يحاربون الولاء والبراء؟! ولمن يريدون أن يكونَ الولاء والبراء؟! نوالي من؟! ونعادي من؟! نحبُّ مَن؟! ونبغضُ من؟! إنّهم يحاربون الولاءَ والبراء ليوقِعونا في ولاءٍ وبراء، ولاءٌ لمن يحبّون، وبراء ممّا يكرهون، فلا ولاءَ حينئذ لما يحبُّ الله ورسوله ، ولا براءَ ممّا يبغضه الله ورسوله ، يريدون أن نبرأ مِن عقيدتِنا وأخلاقِنا وقِيَمنا وتاريخنا وأمجادِنا؛ لنواليَ عقيدة الكفر والجحود وأخلاقَها وقيمَها وحياتها. يلمِزون العلماءَ والصّلَحاء، ويسخرون ويستهزئون، ويحاربون أهلَ الحسبة ورجالَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلفّقون التُّهمَ ضدَّهم، ويضخِّمون أخطاءهم، وينتهكون أعراضَهم، ويكتمون إنجازاتِهم، ويسكتون عن حسناتِهم. سلِمت من ألسنتهم وأقلامهم القنواتُ الفضائية الخليعة والمجلاّت الهابِطة ودورُ الأفلام والغناء مع أن عددَ ضحاياها لا يُحصى، وعددَ قتلاها لا يستقصى، ولم تسلم منهم كتبُ التوحيد والعقيدة والمواد الشرعيّة، فطالبوا بتقليصها وتقليل نصابها، مع أنّه لا يوجد على وجهِ الأرض مناهجُ ترعى الحقوقَ وتحقّق الأمن والعدلَ كما تراه جليًّا في مناهجنا المستمدَة من كتاب الله وسنّة رسوله . تخبُّطٌ ظاهر وظلمٌ جائر، وانتكاسة جليّة وحرب عقديّة، يدعون إلى التّسامح وهم يسلكون مسالكَ عدائيّة، ويطرحون أفكارًا تبعَث على الإثارة والشحناء، ويكتمون الرأيَ الآخر ويعادونه ويصادرونه، ويدعون إلى الوسطيّة بأبشع ما ترى من تطرُّف وغلوّ وشذوذ وانحراف وشطَط، ينظرون إلى أمّتهم بازدراء، وإلى تاريخها باحتِقار، وإلى قيَمها وأخلاقها بإهانةٍ واستصغار، وذلك يحكي واقعَ الذلّ والخنوع والانصهار والذّوبان الذي يعيشونه مع الغرب، ويريدون أن تعيشَه الأمّة مثلهم. يدَّعون الصدقَ والإصلاح والتجديد، ويرمون غيرَهم بالرجعيّة والتعصّب والجمود والتطرّف والإرهاب، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107]، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
لقد زُرعت هذه النّبتةُ الخبيثة والشّجرة الملعونة في بلاد الإسلام، وامتدّت أغصانها وسُلِّمت لها قيادةُ التعليم والإعلام والاقتصاد والجيش والإدارة والتشريع لأكثر مِن قرن ونصف القرن، فماذا كانت النّتيجة؟! سوءٌ في الاقتصاد، وتخلّف في التكنلوجيا، وفسادٌ في الإدارة، وانحرافٌ في الإعلام والأجيال، وهزائمُ متتابعة في ميادين القتال.
هؤلاء هُم العلمانيّون، وهذه نتائجُهم، وتلك ثمارُهم، قومٌ مارقون، من جادَل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام. فاحذروهم ولا تقعوا في شراكهم وشباكهم، ولا يصدّونكم عن دينِكم بشبهِهم وزُخرف قولِهم، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان النّاس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، إنّا كنّا في جاهليّة وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال: ((نعم))، قلت: هل بعد هذا الشرّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن))، قلت: وما دخنُه؟ قال: ((قومٌ يهدون بغير هديي، تعرفُ منهم وتنكر))، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((هم من جلدتِنا ويتكلّمون بألسنتِنا)) أخرجه البخاري(3)[3].
إنّ كلَّ من شذَّ عن دين الله تعالى أو بغى فيه بعِناد أو سعى فيه بفسادٍ فهو الشانئ الأبتَر والعدوّ الأصغَر والأحقر، أمرُه إلى وبال وفكرُه إلى سفال، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]. ومن سبَّ الله أو سبَّ رسوله أو تنقَّصه أو أتى بقولٍ أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين أو استهزأ بالقرآن أو أسقط حرمته أو تكرَّرت وردّته فلا يجهل أحدٌ حكمَ الله فيه، ولا يُرجَى منه لأمّته خيرٌ ولا صلاح ولا إصلاح.
إنَّ أيَّ مشروع للإصلاح لا ينبُع من عقيدة الأمّة وكتاب ربّها وسنّة نبيّها محمّد وتوجيه أهلِ العلم والصلاح فيها هو إصلاحٌ موهوم وافتيات موخوم وتغيير مذموم وإفساد معلوم، يقول أبو بكر بن عيّاش رحمه الله تعالى: "إنّ الله بعث محمّدًا إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمّد ، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمّد كان من المفسدين في الأرض".
، مَن رام هدًى في غير الإسلام ضلّ، ومَن رام إصلاحًا بغير الإسلام زلّ، ومَن رام عِزًّا في غير الإسلام ذلّ، ومن أراد أمنًا بدون التوحيد ضاع أمنه واختلّ، (نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، فمتى ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله)(4)[4].
لن يكونَ للباطل نماء ولا لأهل الزيغ بقاءٌ ما دُمنا للحقّ دعاة وللعالَم هداةً وللخير بناة، ومتى كنّا آمرين بالمعروف صِدقًا ناهين عن المنكر حقًا فإنّ الباطلَ إلى اندحار، وأهلَه إلى انحدار، والحقّ إلى ظهور وانتشار، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
الثباتَ الثباتَ أمام ملتطَم العاديات ومستنقَع المتغيّرات، يقول رسول الهدى : ((إنّ مِن ورائكم أيّام الصبر، الصبرُ فيه مِثل قبضٍ على الجَمر، للعامِل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثلَ عمله))، قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)) أخرجه أبو داود وابن ماجه(5)[5].
فحثّوا المطيّ، وأرخوا من أزمَّتها، وانزعوا إلى دار لا ينصرِم نعيمُها ولا يحيل مقيمُها، واستمسِكوا بدينكم، وعضّوا عليه بنواجذكم، وانقادُوا لحُكمه، واخضَعوا لإرشادِه، تسلموا مِن الفتن، وتنجوا من المِحن، وتعيشوا سعداء، وتموتوا لدينكم أوفيَاء.
في زمن القَحط والجفاف والفرقة والخلاف وانتشار الفساد والانحرافِ يبحَث المسلم عمَّا يكون له أُنسًا عند الوَحشة وجلاءً عند الشّبهة وضياءً عندَ الظلمة ومورِدًا عند اللّهفة، وليسَ غيرُ الكتاب والسنة بفهم سلفِ الأمّة حصنًا من المخاطر وحِرزًا من المعاثِر، فاستمسكوا بهما، واعتصِموا بما فيهما، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كتابُ الله هو حبل الله، من اتَّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة)) أخرجه مسلم(6)[1]، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تركتُ فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتُم بِه: كتاب الله)) أخرجه مسلم(7)[2]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّي قد تركتُ شيئين لم تضلّوا بعدهما: كتاب الله وسنّتي، ولن يتفرَّقا حتّى يردا عليّ الحوض)) أخرجه الحاكم(8)[3].
العلماءُ هم حرّاس الأمّة، الصادقون في نصحِها، العارفون بمصالِحها، العالِمون بأدلّة الشريعة وبراهينها ومقتضيات العقيدة ولوازِمها، وهُم أقدر النّاس على استنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، نظرُهم عميق، ورأيهم وثيق، وفكرُهم دقيق، فيه علامة التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائع والتجاربُ مكنونَ المآلات والعواقب، فاسألوهم عمَّا أشكل، وشاوِروهم عمّا أقفل، واعرضوا عليهم ما حلّ ونزل، وإيّاكم والتفرّد بالرّأي أو سؤال كلِّ منكَر في العلم أو غريب، ليس له حَوْزٌ ولا نصيب، واسألوا اللهَ الهداية، واستعيذوا به من الضلال والغواية، وصُونوا ألسنتَكم عمّا لا فائدةَ منه من القول، وإيّاكم والجدال والمراءَ فإنّهما رأيُ الفتنة وحبائل الفُرقة، و((المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده))(9)[4]، و((مَن يُحرم الرفقَ يُحرم الخيرَ كلّه))(10)[5]، و((إنّ الله يعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))(11)[6]، و((ما كان الرّفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه))(12)[7]، فاحذَروا الإقدام على أفعالٍ تضرّ ولا تنفع، وتفرّق ولا تجمَع، وتجلب الشرَّ ولا تدفع، وتراحَموا وتكاتفوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. حفظنا الله مِن الفتن، وأدام علينا النِّعم والمِنن.
وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
__________
(1) أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح سنن الترمذي (98)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2863).
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (11/215) من طريق حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني: "هذا سند ضعيف جدًا، حنش متروك". وفي الباب عن البراء بن عازب رضي الله عنه أخرجه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة (7/80)، وأحمد (4/286) وغيرهم، قال الهيثمي في المجمع (1/90): "فيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر". وفي الباب أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الطيالسي (376)، وابن أبي شيبة (10492)، والطبراني في الكبير (10531) وغيرهم، وصححه الحاكم (2/480)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عقيلا الجعدي قال عنه البخاري: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم في العلل (1977): "ونفس الحديث منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابيًا". وأخرجه الطبراني في الكبير (10357) من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده ابن مسعود. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (998، 1728): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".
(3) أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847).
(4) هذا من كلام عمر رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208)، وهو في صحيح الترغيب (2893).
(5) أخرجه أبو داود في الملاحم (4348) ، والترمذي في التفسير (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه ابن حبان (1850)، والحاكم (4/358)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (494).
(6) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2408).
(7) أخرجه مسلم في الحج (1218).
(8) أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا (1661)، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/93) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "هذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
(9) أخرجه البخاري في الإيمان (10، 11)، ومسلم في الإيمان (40، 42) من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي موسى رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم أيضا في الإيمان (41) من حديث جابر رضي الله عنه.
(10) أخرجه مسلم في البر (2592) من حديث جرير رضي الله عنه.
(11) أخرجه مسلم في البر (2593) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(12) أخرجه مسلم في البر (2594) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/2794)
الحمد
لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، أشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه
وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
إنَّ من فضل الله علينا وكرمه وجوده ما أخبرنا به نبيّنا في ذلكم الحديث القدسي الذي رواه نبيُّنا عن ربّنا جلَّ جلاله. حديث عظيمٌ ابتُدئ بتنزيه الله عن الظلم، وخُتم بكمال عدلِ الله الذي يستبين للخلائق في أعظم موقفٍ عظيم يومَ وقوفِهم بين يدَي ربّهم. حديثٌ إذا تأمَّله المؤمن وجد أنّه حديث يملأ قلبَ المؤمن يقينًا بالله وثِقة بالله واعتمادًا على الله، ويعلِّق رجاءَه وأملَه بالله وحدَه. حديثٌ يبيِّن الله فيه كمالَ غِناه عن خلقه وكمالَ افتقار الخلق إليه، يبيِّن فيه ربّنا جلّ وعلا أنّ طاعاتِ العباد منفعتُها لأنفسهم، وأنّ ضررَ المعاصي يعود عليهم، فلا تزيد طاعاتهم في ملك الله، ولا تنقص معاصيهم من ملك الله. حديثٌ فيه بشرى للتائبين وتحذير للمعرضين، فسبحان الحكيم العليم.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، عن رسول الله فيما يرويه عن ربّه تعالى أنّه قال: ((يا عبادي، إنّي حرّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا. يا عبادي، كلّكم ضالّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي، كلّكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعِمكم. يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخرَكم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلبِ رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلاًّ مسألتَه ما نقصَ ذلك مِن ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخِل البحر. يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصِيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه))(1)[1].
ما أعظمَها من جُمل، وما أعظمَ فوائدَها، فالظلمُ الذي هو وَضع الشيء في غير موضعِه نقصٌ في حقّ البشر، والله جلّ وعلا منزَّه عن العيوب والنقائص، مع قدرتِه على ذلك لكنّه جلّ وعلا حرَّمه على نفسه، وأوجب على نفسِه العدلَ: ((إنّي حرمتُ الظلمَ على نفسي))، والله يقول لنا: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، ويقول جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، ويقول: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف:160]، ويقول: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فحاشاه ظلمَ العباد، ويقول: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]. فهو جلّ وعلا أعدلُ العادلين، والظلم غيرُ لائق به، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وفي الكتاب الذي كتبه ربّنا فوقَ العرش: ((إنّ رحمتي سبقت غضبي))(2)[2].
وحرّم الظلمَ بين العباد، وجعله بينهم محرّمًا، والظلمُ أعظمه الشرك بالله بعبادةِ غيره، فإنّ هذا أعظمُ الظلم إذ وُضِعت العبادة لغير مستحقِّها، وظلمُ العبد لنفسِه بانتهاكِه ما حرَّم الله عليه أو ترك ما أوجب الله عليه، فإنّ هذا مِن ظلم العبد لنفسه بتركِ واجب أو بفعل محرم، فهذا ظلمٌ منه لنفسه، وظلم العباد فيما بينهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي الحديث: ((اتّقوا الظلمَ، فإنّ الظلمَ ظلمات يوم القيامة))(3)[3]، وفيه: ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته))، ثم تلا قوله تعالى: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ [هود:102](4)[4].
ومظالمُ العباد يومَ القيامة يُقتصّ من الظالمِ لمن ظلمه، حتّى إذا لم يبقَ من حسناتِه شيء أخذَ مِن سيّئات مَن ظلمهم فحُملت عليه ثمّ طرِح في النار، يقول : ((أتدرون من المفلس فيكم؟)) قالوا: المفلسُ فينا من لا دينارَ له ولا متاع، قال: ((ولكنّ المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمالٍ أمثال الجبال، يأتي وقد ضرَب هذا وشتمَ هذا وسفك دمَ هذا وأكلَ مالَ هذا، فيأخذ هذا من حسناتِه، ويأخذ هذا من حسناتِه، فإن قضي ما عليه وإلاّ أخِذ من سيّئاتهم فطُرحت عليه ثمّ طرح في النّار))(5)[5]. ونهانا ربّنا بقوله: ((فلا تظالموا)) لا يظلِم بعضكم بعضًا في دم أو مالٍ أو عِرض، وفي الحديث: ((من اقتطَع قيدَ شِبر من أرضٍ طُوِّقه يومَ القيامة من سَبع أرضين))(6)[6].
وأخبرنا تعالى أنّ هداية قلوبنا بيده جلّ وعلا، يهدي من يشاء بفضله، ويضلّ من يشاء بعدله، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، قال تعالى: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، فهو يهدي من يشاء فضلا وكرمًا، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:83]، فاسألِ الله الهداية، فهو القادر عليها، يهدي قلبَ من يشاء فيحبّ الخيرَ ويألفه، ويحول بين قلبِ من يشاء، فينصرف عن الخير فلا يقبَله.
وكلُّ ما بِنا من خير فمن الله فضلا وكرمًا وجودًا، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60]. فطعامنا وكسوتنا كلّها من الله فضلا علينا، فإن شاءَ تفضّل، ولو أراد غيرَ ذلك لم يمكنكَ الحصولُ على أيِّ شيء، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ.
الرسلُ وأتباعهم وظيفتُهم هداية التوضيح والبيان، وأمّا قبول الحقّ من عدمِه فالأمرُ بيد الله، يقول الله لنبيّه في شأن عمّه أبي طالب لمّا لم يقبل الهدى: إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56].
وأخبرنا ربّنا أنّنا نخطئ في ليلنا ونهارنا، فالعبادُ مهما يكن حالهم فالأخطاءُ صادرة منّا، قوليّة أو فعليّة، والمعصوم من عصَم الله، نخطئ في ليلنا ونهارنا، فكم أخطاء منّا ننساها ونتجاهلها، والله محيط بها وعالمٌ بها، ولكنّه تعالى جعل لنا ملجأً في محوِ الذنوب والخطايا أن نستغفرَه ونتوبَ إليه: ((يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم))، قال تعالى: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. مهما عظُم الذنب، ومهما كثرت الخطايا وتجاوز الحدود، إذا تُبتَ إلى الله منها بإقلاعِك عن الخطأ وعزمك أن لا تعودَ وندمِك على الماضي فستجدُ الله توّابًا رحيمًا، يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، وهو يحبّ من عبده أن يتوبَ إليه، وهو يفرَح بتوبة عبده وإنابتِه، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221].
ويبيّن لنا تعالى أنَّ العبادَ لن يستطيعوا أن يلحِقوا به ضررًا، ولا أن يوصِلوا نفعًا، فهو غنيّ عنهم، وإنّما ضرر الأمر إليهم، فالله غنيّ حميد، لا يستطيع العباد أن يوصِلوا إليه ضررًا أو يجلبوا نفعًا، فهو الغنيّ الحميد، والكلُّ عبيدٌ له وخاضعون لقدرته.
وأخبرنا تعالى أنَّ العبادَ كلَّهم لو أطاعوه وكانوا على قلب رجلٍ واحد في الطاعة والاستقامة فإنّ ذلك لا يزيد في ملك الله شيئًا، ولو اتّفقوا على المعصية ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، فلا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضرّه معصية العاصي، إنّما ضرر المعاصي على أهلها، ومنفعة الطائعين لأنفسهم، مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وأخبرنا تعالى عن كمال جودِه وسعةِ عطائه وإحسانه، وأنَّ الخلق كلَّهم لو اجتمعوا في صعيد واحد وكلٌّ سأل مسألةً غير مسألة الآخر أعطي كلاًّ مرادَه، فإنّ ملك الله لا ينقصه ذلك، ((يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، ألم تروا إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟!))(7)[7]، يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]، بل هو جلّ وعلا يحبّ من عباده أن يسألوه، يحبّ منهم أن يطلبوه ويلتجئوا إليه، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. كلّما دعوتَ ربَّك وكلّما سألته حاجة وكلّما اضطررتَ إليه أدناك وقرَّبك وأعطاك وحقَّق لك آمالَك، وكلّما تكبّرت عن دعائِه وأعرضتَ عن سؤاله أبغضَك وعاقبك، وابنُ آدم كلَّما احتجتَ إليه تكبّر عليك وبخل، وكلّما استغنيتَ عنه قرُب منك وأحبَّك، فلا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الفضلُ فضله والعطاء عطاؤه، يحبّ من عباده أن يسألوه دائمًا، يحبّ من عباده أن يتوبوا إليه، يحبّ من عباده أن يستغفروه، يحبّ من عباده أن يلتجئوا إليه، يحبّ من عباده أن يفوِّضوا إليه أمرهم، ويشكوا إليه بثّهم وحزنَهم، فإنّه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
ثمّ يخبرنا تعالى أنَّ أعمالَنا كلَّها محصاة علينا، وأنّه جلّ وعلا محصٍ علينا كلَّ أعمالنا، قليلها وكثيرها، وسيجازي المحسنين بالإحسان، نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بالتوبة النصوح، وأن يرزقَنا الالتجاء والاضطرارَ إليه، وأن يصلح قلوبَنا وأعمالنا، إنّه على كل شيء قدير.
يقول الله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه)).
ما خُلِقتَ عبثًا، خُلقتَ لعبادة الله، وما تركتَ سُدى، بل أُمرت ونُهيت، وأخبر الله جلّ وعلا عن كمال علمِه بأعمالنا دقيقها وجليلها، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].
علِم ما العباد الله عاملون قبلَ أن يخلقَهم، وكتب ذلك قبلَ خلق الخلائق بخمسين ألف سنة، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].
إنّنا محاطون أيضًا بأمور، أوّلا: أخبرنا الله أنّ هناك كرامًا كاتبين، يعلمون أعمالنا ويسجِّلون أفعالنا، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فيحاسب الله العبادَ يوم القيامة، ويوقَفون على حقائق أعمالهم، فإن أرادوا الإنكارَ والتكذيب فإنَّ الله يقول: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، ويقول الله عنهم: وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ [فصلت:21-23]. فأعمالنا في الدنيا محصاة علينا، وسنوقف عليها يومَ القيامة، وسوف تطير الكتب إمّا باليمين أو بالشّمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19، 20]، حتى الكافر يُجزَى في الدنيا عن حسناته ليلقى الله يومَ القيامة ولا حسنةَ له، ولا يدخل النارَ أحد إلا وهو موقِن بأنّ النار أولى بِه من الجنّة لكمال عدلِ الله، ولما يرى الخلائق من كمال عدل الله بخلقه وعِظم حسابِه لهم، مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان:28]، ((ما منّا أحد إلا سيكلّمه ربّه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النّار، فاتّقوا الله ولو بشقّ تمرة))(8)[1].
يومَ الحساب والجزاء يوم عظيم، يشهَد فيه الخلائق أعمالَهم خيرها وشرَّها، ذلك اليوم العظيم، يومَ تبلى السرائر، يومَ يُبعث ما في القبور ويحصَّل ما في الصدور، وتنشر صحائف الأعمال، والخزي العظيمُ خزي ذلك اليوم، حينما تبدو سرائر العباد، وتنشر أعمالهم، نسأل الله الثبات والاستقامة.
فعلى العبدِ أن يحاسبَ نفسَه، فعسى أن يوفَّق لتدارك الأخطاء في ظلمه لنفسِه، أو في ظلمه لعباد الله، ليلقى اللهَ يوم القيامة خفيفَ الحساب، وذلك يسير على من يسّره الله عليه. فلنأخذ حذرَنا، ولنستعدَّ للحساب يومَ القيامة، فذاك الحساب العظيم بينَ يدَي ربّ العالمين.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه مسلم في البر (2577).
(2) أخرجه البخاري في التوحيد (7422، 7453، 7554)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم في البر (2578) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(5) أخرجه ومسلم في البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(6) أخرجه البخاري في المظالم (2453)، ومسلم في المساقاة (1612) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7) أخرجه البخاري في التوحيد (7419)، ومسلم في الزكاة (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) أخرجه البخاري في التوحيد (7512)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه بنحوه.
(1/2795)
الحمد
لله ذي القوّة القادِرة والعزّة القاهرة، أسبَغ علينا نِعمَه باطنة
وظاهِرة، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمّدًا
عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والعِترة الطّاهرة.
اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوُثقى، واعلَموا أنّ أجسادَكم على حرِّ النّار لا تقوى، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:28، 29]. وتذكَّروا ـ غفر الله لي ولكم ـ أنّكم في دار عملٍ تُختَبرون، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأروا اللهَ مِن أنفسكم خيرًا بِه تُجزَون، ففي غدٍ حسابٌ وجزاء وجنّة أو نار. فارحمِ اللهمَّ قلوبًا لك قصدَت، وأنفسًا لرحمتِك رجَب، وافتَح علينا مِن بركاتك ورحمتِك وفضلِك ورزقك، واغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دقَّها وجِلَّها، لا إله إلاّ أنت، سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.
في مسيرةِ السّائرين إلى الله والحاثِّين خطاهم على منهاجه وسبيل هداه والدّاعين إلى دينِه القويم والتمسُّك بصراطه المستقيم، في سَيرهم ومسيرهم عقباتٌ كأدَاء وخصومٌ ألدَّاء ولأواء وأدواء، لا يخلص منها إلاّ مَن أراد الله له الثّبات.
وإنّ المتأمِّل في التّاريخ يرى في فتراتٍ منه غلبةَ الإسلام وظهورَه وعزَّ المسلمين، وفي فترات أخرى يرَى انحسارَ مدّه وهيمنةَ غير المسلمين، ويرى ضَعفًا داخِليًّا وهوانًا خارجيًّا، وتداعيًا من الأمم، وتسلُّطًا من الكفّار، كما هو واقعُ هذه الحِقُبة من الزّمن، حتى إنّه يكاد يتسلَّل اليأس والإحباطُ إلى نفوس بعض المسلمين، ويتساءل الحائر: ألم يكتُبِ الله العزّة والنصرَ لهذه الأمّة، والصّغار والذّلّة على الكافرين؟! وينسَى هذا المتسائلُ قولَ الله عزّ وجلّ: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وما يماثِلها من الآيات الكريمة التي تبيِّن أنَّ هذه الدار دارُ ابتلاء وامتحانٍ للمؤمنين، وليست دارَ جزاء وخلود، وأنَّ الأيّام دول والدّهر قُلَّب، وأنّ الفوزَ والفلاح ليس بتحصيل الرّخاء فحسب، وإنّما عملُك في الشدّة والرخاء والمنشَط والمكرَه، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20]، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: "إنّ في تمكين أهلِ الكفر والفسوق إيصالَ أولياء الله إلى الكمال الذي يحصُل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادِهم والإنكار عليهم والموالاةِ فيه والمعاداة فيه وبذلِ نفوسهم وقواهم له... إلى أن قال: فلولا خلقُ الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرِج خاصَّ العبوديّة من عبيده، ولم يحصل لهم عبوديّةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبِّ فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له" انتهى كلامه رحمه الله(1)[1].
وإذا كان قدَّر الله لجيل من الأمّة أن يعيشوا في مرحلةٍ مِن ضعفها وفترة من فتورها وظهور غيرِها عليها فإنَّ المتعيِّن التعلّقُ بما يثبِّتها على دينها؛ لأنّ الإسلام في زمان قوَّته كفيلٌ بذاتِه في ثباتِ أهله، أمّا في زمن الانكسار وعهدِ الانحدار فهذا هو زمن الابتلاء الذي يميِّز الله فيه الخبيثَ من الطيِّب والصادِقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق، وكلَّما زادَ الضّعف وكثرت الفِتن كلّما استطال عُنق النّفاق وظهر المنافقون، وربَّما جاهَروا بما في قلوبِهم وأظهروا خفَايا صدورِهم.
إنّ من أسباب الثّبات على دين الله تجديدَ الإيمان بهذا الدين وملْءَ القلب منه باليقين، نعَم اليقينُ التّام بصدق وأحقّيّة ما نحن عليه، والإيمان الجازم بصواب ما نعتقِده، فمَن امتلأ قلبُه إيمانًا بعقيدتِه وقناعةً بصحّة منهجه لم تزعزِعه الخطوب ولم تُثنِه الكروب، وهذا هو موقِف النبيّ في دعوتِه حين حارَبه الأقارب قبل الأباعِد، وطورِد وشرِّد، وحوصِر وقوطِع، وطُلِب للقتل، واجتمَع عليه الأحزاب، لكن ذلك لم يثنِه عن مرادِه حتّى بلَّغ دينَ الله.
وكذلك كان أصحابُه رضوان الله عليهم، قُيِّدوا بالحديد، وقُطِّعت أجسادُ بعضهم، وصُلب آخرون، وأوذوا، ومسَّتهم البأساء والضرّاء وزلزِلوا، فلم يزِدهم ذلك إلاّ صلابةً في دينِهم وثباتًا على منهجهم وصِدقًا في سيرهم إلى الله، حتّى لقوا ربَّهم على ذلك، مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا [الأحزاب:23]، وهذا نتاج الإيمان واليقين والقناعة والتّصديق والثقة بما هم عليه.
وكذلك كان السّلف الصالح بعدَهم، ويكفيك مثالا ثباتُ الإمام أحمدَ رحمه الله عند الفتنة، وما ذاك إلاّ للعقيدة الرّاسخة بما يؤمن به مِن صواب، أمّا أهلُ الخَوَر والشكّ وضعفِ الإيمان فهُم الذين إذا أصابَتهم مصيبة رجَعوا على دينهم باللاّئمة، يقلِّبون بحَيرةٍ في ثوابته، ولو كانوا يعقلون لتفقّدوا أنفسَهم كيفَ يَدينون، ولعلِموا أنَّ دينَ الله كامل، وأن لا صلاحَ حقيقةً بغيرة في كلّ زمان ومكان وفي كلّ الظروف بلا استثناء ولا تجزئة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
إلاّ أنَّ النّقصَ يحصل من أحدِ أمرين، إمّا جهل وعجزٌ عن تطبيقه التطبيقَ الصّحيح، أو لأجل شهوةٍ وهوًى يمنعان إرادةَ التّطبيق في أيّ تفاصيل الحياة مهما صغُرت أو كبرت، وعلى هذين المركبين الجهلِ والهوى أسرج بعض المنافقين بِغالَهم، فشدّوا على الإسلامِ وأهله، وأظهروا مكنونَ صدورهم وما كانت تُخفي قلوبُهم، في وقتٍ أحوَج ما تكون فيه الأمّة إلى تثبيتِها على دينها والمحافظة على إسلامها وهويّتها وتماسكِها ووحدتِها. ومِن فضل الله تعالى على بلادِ الحرمين الشّريفين أن يُعلنَ قادتُها في كلّ نازلة وأزمَة تمسّكَهم بدين الإسلام الصّحيح ورفض المساومةِ عليه وعلى مبادئه وتقديم النّفس والنّفيس دونه.
إنَّ المجتمعَ بجميع طبقاتِه بحاجةٍ إلى إعادة الاهتمام بتقرير أساسِ هذا الدّين مِن عقيدةٍ وتوحيد ودعوةٍ إلى تَبْصير الأمّة وتوحيدها بإرساد قضايا الإيمانِ بالله وشريعتِه، بعيدًا عن مظاهر الغلوّ والتطرّف أو التّساهل والتميُّع المفضي إلى الإرجاء أو بعضِ صورِ الإرجاء.
إنَّ ترسيخَ معاني الإيمان والاعتقاد واليقين والثّقة ينتجُ العملَ الصالح والولاء لهذا الدين والصبرَ عليه والثباتَ حتّى الممات مهما عصفت الفتنُ أو ادلهمّت الخطوب، ولقد مرّت بديار الإسلامِ أزمان شديدةٌ ونكبات عديدة، انتهت فيها الخلافة الرّاشدة وسقطت الدّولة الأمويّة والعباسيّة وغير ذلك، ومع كلِّ هذا فلم يورِث ذلك في نفوس المسلمين شكًّا في عقيدتِهم، ولم تدفعهم إلى التطلّع لما عند أعدائِهم من أفكارٍ ومبادئ وأساليبِ حياة وأنماط سلوك تُخالف شريعتَهم ويأباها دينُهم، ولم يرَوا الحقَّ إلاّ في دين الله عقيدةً وسلوكًا ونظامَ حياة، وهذا هو معنى الاستعلاء في قولِ الله عزّ وجلّ: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: أنّ العزّة والعلوّ بالإيمان والثّبات عليه، لا بالغلبةِ والظّهور.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].
ومِن عوامل الثّبات على دين الله الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، والتمسّك بما فيهما، واتّباع هديِهما، وحسبُكم في ذلك قولُ النبيّ : ((تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدًا: كتاب الله وسنّتي))(2)[1]، وقول الله عزّ وجلّ: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [النساء:59]، أي: الاحتكام إلى الكتاب والسنّة.
ويتبع هذا الأصلَ الاقتداءُ بسلفِ الأمّة الصّالحين مِن الصّحابة ومَن سار على نهجهم، وفي طليعتِهم الخلفاءُ الرّاشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ففي السّنن بسند صحيح: ((عليكُم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ))(3)[2].
يتلو ذلك الالتفافُ حولَ العلماء الصالحين والدّعاة الصادقين الذين عُرفوا بنصحِهم وسلامة منهجهم، فإنّهم ورثةُ الأنبياء ومصابيحُ الدُّجى، أهدى النّاسِ طريقًا وأقربُهم من الله توفيقًا، فاجعَل العلماءَ الربانيّين لك صَحبا ورفاقًا.
ومِن عواملِ الثّبات لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامهم واعتزالُ الفتنة، وهذه وصيّة النبيّ لحذيفةَ رضي الله عنه كما في الحديث المتّفق عليه(4)[3].
كما أنَّ التثبُّتَ في الأخبار والنّقل وتركَ الشائعات وهجرَ الخوضِ فيما لا يَعني مطلوب في كلّ وقت، وتعظم الحاجة لحفظِ اللّسان وصيانة السّمع والتثبّت في حالِ الفتنة، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكلّ ما سمع.
وأخيرًا من أسباب الثّبات دعاءُ الله وسؤالُه والإلحاح عليه بطلبِ الثّبات، فلا غنَى للعبد عن ربِّه، وفي الحديث الصحيح: إنّ أكثرَ دعاء النبيّ : ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقيل له في ذلك فقال: ((إنّه ليس آدميّ إلا وقلبُه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ))(5)[4].
ومِن ذلك أيضًا كثرةُ ذكر الله تعالى، فللذّكر أسرارٌ عجيبة، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
ثم صلّوا وسلِّموا على الهادي البشير والسراج المنير محمّد رسول الله، فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه مبتدِئًا بنفسه العليّة، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الكرام أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) طريق الهجرتين (ص202).
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1619) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الأسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
(3) أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(4) أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847) عن حذيفة رضي الله عنه.
(5) أخرجه أبو داود الطيالسي (1/224)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/113)، والإمام أحمد (6/294)، والترمذي في الدعوات باب منه (3522) من حديث أم سلمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (1/706)، وله شواهد كثيرة، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2091).
(1/2796)
الحمدُ
لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، أحمده سبحانه وأشكره على فضلِه
العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله القويّ المتين، وأشهد أنَّ نبيَّنا
وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الأمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك
ورسولِك محمّد، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
اعلَموا أنّه لا يكون شيءٌ في الأرض ولا في السّماء إلا بقضاءٍ من الله وقدَر، ولا يحدُث أمرٌ محبوب أو مكروه إلا بمشيئةِ الله وخلقِه، قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:49، 50].
فاللهُ هو الذي يدبِّر الأمور، وهو العليم بذاتِ الصّدور، قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبّرُ الأَمْرَ يُفَصّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2].
جعَل للسّعادةِ أسبابًا، وجعل للشّقاء أسبابًا، ورتّب المسبّبات على أسبابِها، فخلقَ الأسبابَ، وخلقَ آثارَ الأسباب، ولا يحكُم مشيئتَه وإرادتَه شيء، فلو شاء لخلَق وأوجدَ الشّيءَ بلا سبَب، قال تعالى: فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وقال تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
والدّعاءُ أكرَم شيءٍ على الله، شرَعه الله لحصول الخَير ودفعِ الشر، فالدّعاءُ سببٌ عظيم للفوز بالخيرات والبركات، وسببٌ لدفعِ المكروهات والشرِّ والكربات، وفي الحديث: ((لا يُنجي حذرٌ من قدَر، والدّعاء ينفع ممَّا نزل وممَّا لم ينزل))(1)[1].
والدّعاءُ مِن القدَر والأسبابِ النّافعة الجالِبة لكلِّ خَير والدّافعة لكلّ شرّ، وقد أمَر الله عبادَه بالدّعاء في آياتٍ كثيرة، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر:60].
وحقيقةُ الدّعاءِ تعظيمُ الرّغبةِ إلى الله في قضاءِ الحاجاتِ الدنيويّة والأخرويّة، وكشفِ الكربات ودفعِ الشّرور والمكروهات الدنيويّة والأخرويّة.
والدّعاءُ تتحقَّق به عبادةُ ربِّ العالمين؛ لأنَّه يتضمَّن تعلّقَ القلبِ بالله تعالى، والإخلاصَ له، وعدمَ الالتفات إلى غَير الله عزّ وجلّ في جلبِ النّفع ودفع الضرّ، ويتضمَّن الدعاءُ اليقينَ بأنّ اللهَ قدير لا يُعجزه شيء، عليمٌ لا يخفى عليه شيء، رحمَن رحيم، حيّ قيّوم، جوَاد كريم، محسِن ذو المعروف أبدًا، لا يُحَدُّ جودُه وكرمُه، ولا ينتهي إحسانُه ومعروفه، ولا تنفَد خزائن بركاتِه. فلأجلِ هذه الصفات العظيمة ونحوها يُرجى سبحانه ويُدعَى، ويسأله من في السّموات والأرض حاجاتِهم باختلافِ لغاتِهم.
ويتضمَّن الدّعاءُ افتقارَ العبدِ وشدّةَ اضطرارِه إلى ربّه، وهذه المعَاني العظيمةُ هي حقيقةُ العِبادة.
فمَا أعظمَ شأنَ الدّعاء، وما أجَلَّ آثارَه، ولِهذا جاءَ في فضل الدّعاء ما رواه أبو داود والترمذيّ من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبيّ قال: ((الدّعاءُ هو العِبادة)) قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"(2)[2]، وعن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((الدّعاء مخُّ العِبادة)) رواه الترمذيّ(3)[3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((ليسَ شيءٌ أكرَم على الله مِن الدّعاء)) رواه الترمذيّ وابن ماجه والحاكِم(4)[4].
ولمّا كان الدّعاءُ هو العِبادة فإنّه لا يكون إلا لله وحدَه، فلا يُدعَى من دون الله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيّ مرسَل، ولا وليّ ولا جنّيّ، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:68]، ومن دعَا مخلوقًا من دون الله نبيًّا أو ملكًا أو وليًّا أو جنّيًّا أو ضريحًا ونحوَه فقد وقَع في الشّرك الأكبر، قال الله تعالى: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال تبارك وتعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:106، 107]، وقال تَبارك وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:40، 41]، وقال تبارك وتعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ [الرعد:14].
المسلمُ في كلِّ ساعةٍ وفي كلّ وقتٍ مضطرّ إلى الدّعاء لحصولِ خيرٍ ينفعُه في الدّنيا والآخرة، ولدفع شرّ ومكروه يضرّه في الدّنيا والآخرة، فمَن وُفّق للدّعاء فقد فتح الله له بابَ خيرٍ عظيم، فليلزمْه، وليسألِ المسلمُ ربَّه كلَّ حاجةٍ له، صغيرةً أو كبيرة، كما قال النبيّ : ((ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجتَه حتّى شسعَ نعلِه))(5)[5].
ولو تفكَّر المسلمُ في كلّ نعمَة وحاجةٍ صغيرةٍ أو كبيرة لعلِمَ يقينًا أنّه لا قدرةَ له على إيجادها والانتفاعِ بها لولا أنَّ الله أوجدَها وساقها إليه بقدرتِه ومنِّه وكرمه، ومَن هوَّن شأنَ الدّعاء فقد بخَس نفسَه حظَّها من خيرٍ عظيم، وأصابَه من الشرّ بقدر ما زهد في هذه العبادة.
واعلَم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ الإجابةَ مَع الدّعاء، سواء كانت عاجلةً أو آجِلة، قال عمر رضي الله عنه: (إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، وإنّما أحمِل همّ الدّعاء، فإذا ألهِمتُ الدّعاءَ فالإجابة معه)(6)[6]، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((مَا على الأرضِ مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إيّاها، أو صرف عنه من السّوء مثلَها، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعةِ رحِم))، فقال رجل من القوم: إذًا نكثِر، قال: ((الله أكثَر)) رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"(7)[7]، ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: ((أو يدَّخِر له من مثلِها))(8)[8] يعني في الآخرة.
واعلَم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ الدّعاء عبادة عظيمَة.
أيّها المسلم، كُن دائمًا ملازمًا للدّعاء، متعلّقًا قلبك بالله تعالى، وارغَب إلى الله عزّ وجلّ لقضاءِ حاجاتِك كلّها؛ فإنّه على كلِّ شيء قدير، إذا أراد شيئًا خلقَ أسبابَه، أو أوجدَه بقدرتِه ومشيئتِه. وأشرِك ـ أيّها المسلم ـ في دعائك الإسلامَ والمسلمين بالدّعوة الصالحة، أئمّتَهم وعامَّتهم، بأن يعزَّ الله الإسلامَ وأهلَه في كلّ مكان، ويحفظَ الإسلامَ وأهلَه في كلّ مكان، ويخذلَ أعداءَ الإسلام، ويكفَّ شرَّهم، ويبطِل كيدَهم ومكرَهم، لا سيّما في هذا العصر الذي تعدّدت فيه مصائبُ المسلمين، وكثرَت همومهم وغُمومُهم، ووصلوا إلى حالةٍ لا يقدِر أن ينجيَهم إلا الله، اقتداءً برسولِ الله حيث أمره الله تعالى بقوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمّد:19]، وفي الحديث: ((من لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليسَ منهم))(9)[9].
قال الله تعالى: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
إنَّ دعاءَ المسلم بإخلاصٍ وتوجُّهِ قلبٍ أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ، والله يقول في كتابه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وقال تعالى: فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].
ويُستحَبّ للمسلم أن يتخَيَّر جوامعَ الدّعاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يستحِبّ الجوامعَ من الدّعاء، ويدَع ما سِوى ذلك. رواه أبو داود بإسناد جيّد(10)[1].
وليحرِصِ المسلم على حِفظ دعاءِ رسول الله بقدر استطاعتِه، فقد شرع عليه الصلاة والسلام لكلِّ حالٍ دعاءً وذكرًا.
ويستحَبّ أن يُقدِّم بين يدَي دعائه عملا صالحًا، ويُثني على الله ببعضِ ما أثنى به على نفسه، ويصلّي على نبيّه محمّدٍ ؛ لأنّ الدّعاءَ معلّقٌ بين السّماء والأرض حتّى يصلَّى عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، ويتوسّل إلى الله بأسمائِه الحسنى، وبالاسم الذي يناسِب حاجتَه من أسماءِ الله الحسنى، كقوله تعالى: وَقُل رَّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ [المؤمنون:118]، وكقولِه تعالى: وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114].
ويستحَبّ أن يتَحيّن أوقاتَ الإجابة مثل ثلث الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وأدبار الصلوات، وعندَ رؤيةِ البيت العتيق، وآخر ساعة من الجمعة.
إنَّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بِها عشرًا))(11)[2].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمَام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آله محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم...
__________
(1) أخرجه أحمد (5/234)، والطبراني في الكبير (20/201) من طريق إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (10/146): "شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز ضعيفة"، وهذا منها. وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند البزار (2165- كشف الأستار)، والطبراني في الدعاء (133)، والحاكم (1/492)، قال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1014). وله شاهد ثان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الترمذي في الدعوات (3548)، وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو متفق على ضعفه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، وهو ضعيف في الحديث، ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه". وله شواهد أخر في سند كلّ منها مقال.
(2) سنن أبي داود: كتاب الصلاة، باب: الدعاء (1479)، وسنن الترمذي: كتاب التفسير (2969)، وأخرجه أيضا أحمد (4/267)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3828)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وجوّد إسناده ابن حجر في الفتح (1/49)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1312).
(3) سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3371)، وقال: "حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة"، وضعفه الألباني في أحكام الجنائز (ص247) ثم قال: "لكن معناه صحيح بدليل حديث النعمان".
(4) أخرجه أحمد (2/362)، والترمذي في الدعوات، باب: ما جاء في فضل الدعاء (3370)، وابن ماجه في الدعاء، باب: فضل الدعاء (3829)، والطبراني في الأوسط (2544، 3718)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عمران القطان"، وصححه ابن حبان (870)، والحاكم (1/490)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3087).
(5) أخرجه الترمذي في آخر الدعوات (3612 – المستدرك في آخر الكتاب)، والطبراني في الدعاء (25)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/289) من طريق قطن بن نسير الصيرفي، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (866)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن النبي ، ولم يذكروا فيه عن أنس". ثم أورده من طريق صالح بن عبد الله، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن النبي ، وقال: "هذا أصح من حديث قطن، عن جعفر بن سليمان". ورواه البزار في مسنده (3135) عن سليمان بن عبد الله الفيلاني، عن سيار بن حاتم، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي ثم قال: "لم يروه عن ثابت سوى جعفر". وذكره الهيثمي في المجمع (10/150) وقال: "رجاله رجال الصحيح، غير سيار بن حاتم وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر في زوائد البزار، وانظر: السلسلة الضعيفة (1362).
(6) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/706).
(7) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: انتظار الفرج وغير ذلك (3573)، والطبراني في الأوسط (147)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه المقدسي في المختارة (317)، وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي (2827).
(8) مستدرك الحاكم (1/493)، وأخرجها أيضا أحمد (3/18).
(9) أخرجه الحاكم (4/320) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفي سنده إسحاق بن بشر ومقاتل بن سليمان، قال الذهبي في التلخيص: "ليسا بثقتين ولا صادقين". وأخرجه البيهقي في الشعب (7/361) من حديث أنس رضي الله عنه وضعفه. وأخرجه الطبراني في الصغير (ص188) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وفي سنده جعفر بن أبي عبد الله، هو وأبوه ضعيفان. وعزاه الهيثمي في المجمع (10/248) إلى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال: "فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو متروك". وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (309، 310، 311، 312).
(10) أخرجه أحمد (6/148)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1482)، والطيالسي (1491)، والبيهقي في الدعوات (276). وصححه ابن حبان (867)، والحاكم (1/539)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1315).
(11) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/2797)