مفهوم الأمانة
-----------------------
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
في كتاب ربِّنا بيانٌ لأخلاق المؤمنين، بيانٌ لصفاتِهم الحميدة وأخلاقِهم الكريمة، وذاك دعوةٌ للأمّة المؤمنة أن تأخذَ بتلكم الأخلاق وتتَّصف بتلكم الصفات. فيذكر الله أهلَ الإيمان، يذكر أخلاقَهم وأعمالهم، وهو حثٌّ لنا جميعًا على الأخذ بها والعمل بمقتضاها، كما يذكر أخلاقَ المنافقين وصفاتِهم وأخلاقَ الكافرين، ليكونَ المسلم على علمٍ بتلكم الصفات والأخلاق، فيبتعد كلَّ البُعد عنها.
وأنت تقرأ كتابَ الله تمرُّ بك آية، وهي قول الله جلّ جلاله في صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون:8]. فوصف الله أهلَ الإيمان بأنّهم راعون لأماناتهم، حافظون لأماناتهم، وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ، فهم يرعَون الأمانَة حقَّ الرعاية، ويقومون بمقتضاها حقَّ القيام، تلكم الأمانةُ التي عرضها الله على السموات السَّبع والأرضين السّبع والجبال، عرضها عليهم لا عرضَ إلزام، فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا، لا عصيانًا لله، ولكن إشفاقًا من حملها، إلا أنَّ الإنسان حَملها لظلمِه وجهله، وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
فالأمانةُ التي كُلِّفتَ بها والتي طُولبَ منك رعايتُها أمانةٌ عامّة فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين أمانةٌ شاملةٌ لخيرَي الدنيا والآخرة، شاملة لمصالح الدين والدنيا معًا، فالمؤمن في هذه الحياة يحمِل أعباءَ هذه الأمانة، ويرعاها حقَّ الرّعاية، ويقوم بها خيرَ قيام، طاعةً لله وتقرّبًا إلى الله.
فالعباداتُ الشرعيّة أمانةٌ عندك بأن تؤدِّيها إخلاصًا لله، وموافقةً لشرع الله، لا تبتدِعُ فيها، لا تزيدُ فيها، ولا تنقصُ منها، وإنما تؤدّيها على وفقِِ ما شرع الله ورسوله، فأنت مخلِصٌ لله في عبادتك، في توحيدِك لله مخلصٌ في ذلك، معتقد حقًا أنّ الله المعبودُ بحقّ، وأنّ ما سواه معبودٌ بالباطل، معتقدٌ اتباعَ سنّة محمّد ، وأنّه عبد الله ورسوله الذي أرسله الله ليقيمَ حجَّته على العباد، وأنَّ الواجبَ اتباعُه والعمل بشريعته.
فأنت مؤتَمَنٌ على هذا الأصل العظيم، فأنت تؤمِن بذلك إيمانًا ظاهرًا وباطنًا، تنطِق بكلمةِ التوحيد "لا إله إلا الله"، تنطق بها بلسانك، معتقِدًا معناها بقلبك، عاملاً بمقتضى ما دلَّت عليه، تنطِق شهادةَ أنَّ محمدًا رسول الله مخلِصًا لله في ذلك، قولاً وعملاً واعتقادًا، تعتقِد أنّه رسول الله حقًا، فتتبع سنّتَه، وتسير على نهجه ظاهرًا وباطنًا، تؤدِّي عبادةَ الله من صلاةٍ وزكاةٍ وصوم وحجٍّ وبرّ وصِلة، وكلّ الواجبات الشرعيّة تؤدّيها بإخلاصٍ لله، واتّباع لشريعة محمّد ، فإنّ الله لا يقبَل العملَ إلا إذا كان خالصًا له وكان على وفق ما شرع الله، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
ففيما بينك وبين الله في عبادتِه الإخلاصُ والاتّباع.
إنّك تتوضّأ للصلاة، والوضوء الذي هو شرطٌ لصحّة الصلاة أنتَ مؤتمنٌ عليه في إسباغ الوضوء وإتمامِه وعدمِ الإخلال بشيء منه، رأى النبيّ بعضَ أصحابه وقد تركُوا غسلَ بعض القدم، فنادى فيهم: ((ويلٌ للأعقاب من النار))(1)[1]، وقال: ((أسبغ الوضوءَ، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكونَ صائمًا))(2)[2]. فالوضوء أمانةٌ تؤدِّيه كما أمرَ الله صادقًا مخلصًا، وما ائتمَن الله عبدًا على شيء ما ائتمنَه على غسل الجنابة.
تؤدّي الصلواتِ الخمس بأمانة، بأن تؤدِّيَها في الوقت الذي عيَّنه الله لأدائها، تؤدّيها في وقتِها، فأنت مؤتمنٌ على وقتِها، فلا تؤخِّرها عن وقتها بلا عذر شرعيّ، فإنّ الله وقَّتها بأوقات، طالبنا بأن نوقعَها فيها، إِنَّ الصلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً [النساء:103]. تؤدّيها بأمانة، فلا تخِلُّ بأركانها ولا بواجباتها ولا بشيء مطلوبٍ فيها، ولذا لمّا رأى النبيّ المسيءَ في صلاته الذي لا يُتمّ الركوعَ والسجود قال له: ((صلِّ فإنّك لم تصلِّ))، فلمّا قال الرّجل ثلاثَ مرّات: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ نبيًّا ما أحسنُ غيرَ هذا فعلِّمني، فعلّمه رسول الله صفةَ أداء الصلاة، وأمره بالطّمأنينة في كلِّ أركانها وواجباتها(3)[3].
وأنت مؤتمَنٌ على زكاةِ مالك، فالله سيحاسبك على ذلك، فاتّق الله في أدائها وإخراجها على وفق ما شرع الله، على وفق ما أمرك الله به، وأحصِها وأخرِج زكاتها طيِّبة بذلك نفسُك، فإنّك أمين، والله يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
والصومُ أمانةٌ والحجّ أمانة، كلّ هذه الأركان الإسلاميّة أمانةٌ عند المسلم، يؤدّيها كما شرع الله.
البرّ والصّلة والواجبات الشرعيّة كلّها يؤدّيها المسلم؛ لأنّه مؤتمنٌ على أدائها، فلا بدّ من الأداء.
واعلم أنّ الله مطَّلع عليك وعالم بسرِّك وعلانيتك، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
تتركُ المحرّمَات طاعةً لله في موضع لا يراك إلا الله، إنّما ذلك خشية من الله، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:13].
وإنَّ أمانتك فيما بينك وبين الخلق تعاملُهم بما تحبّ أن يعاملوكَ به، تعاملهم بالصِّدق والأمانة كما تحبُّ أن يعاملوك به، فلا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه. فلا تكن غاشًا لهم، ولا خائنًا لهم، ولا ساعيًا في المكائد لهم، وإنما تعاملهم بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك به، فتلك الأمانة في التعامل مع العِباد.
وإنّك مؤتمنٌ في أحوالك كلِّها، ففي البَيع والشّراء مؤتمنٌ على بيعك، بأن يكون بيعك بيعًا صادقًا، لا غشَّ ولا خيانة، لا تدليسَ ولا خِداع، ولكن بيعُ المؤمن الصادِق، يعرض سلعتَه فلا كذب ولا أيمان فاجِرة يروّج بها سلعتَه، ولكن الصدق والبرّ خلقُ المؤمن. وأنت ـ أيّها المشتري ـ أمين أيضًا في إعطاء الناس حقوقَهم وعدم المماطلة وعدم الكذب والغشّ والخداع. وأنت ـ أيّها المؤمن ـ مؤتمنٌ في بيعك وشرائك، مؤتمنٌ فيما تعامِل به النّاس، فيما اؤتمِنتَ عليه، فأنت ـ أيها المستأجِر للدّور ـ مؤتَمن على ما استأجرتَه بأن تسلِّم ما استأجرتَه من غير إخلال ولا إلحاق ضرَر بما استلمتَه من ذلك العقار، استأجرتَ مسكنا تسكنه فأدِّ أمانتَه بأن تسلِّمه لمؤجِّره من غير نقصٍ لحِق به، من غير إخلال بذلك.
أنتَ مؤتمنٌ على ما وُكِل إليك من أعمال، فيا من هو وكيلٌ على أموال الأيتام، اعلم أنَّ الله سائلك عمّا ائتمنك عليه، ويناقشك الحسابَ يوم القيامة، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]. المسؤول عن قِسمة المواريث مؤتمنٌ في الإحصاء وضبطِ الأمور وإعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه. المسلم مؤتمنٌ إن كان مسؤولاً عن وصايا وأوقاف أن يتّقي الله فيما اؤتُمن عليه، فلا يخون ولا يكذب ولا يلبِّس، وإنّما يُظهر الصدقَ ويؤدِّي الأمانة فيما اؤتُمن عليه.
أنت مُؤتمنٌ على زوجتِك من حيث النصيحة، من حيث التوجيهُ والقيام بالواجب وإعطاؤها حقَّها المشروع وعدم الإضرار والمماطلة بذلك، كما أنتَ مؤتمنٌ على أخلاقِها وأعمالِها لأنّك راعٍ والله سائلك عن رعيّتك، كما أنَّ المرأةَ المؤمنةَ مؤتمنةٌ على بيتها ومال زوجها وفراش زوجها، فتؤدِّي أمانتَها على الوجه المرضيّ.
أمانتُك تصحبُك أيضًا في أولادك من بنين وبنات، أنت مؤتمنٌ على الأولاد من بنين وبنات، تربيةً وتعليمًا وتوجيهًا وحملاً على الخير وتحذيرًا من أسبابِ الشّرّ، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فإنّك مؤتمَن على أولادك، أن تربِّيَهم التربية الإسلامية، أن تكون قدوةً لهم في الخير وأسوةً لهم في الهدى ليقتدوا بك ويتأسَّوا بك في أعمالِك الطيّبة، فما مِن مولود إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.
أنت مؤتمنٌ عليهم في تأليف قلوبِهم وإصلاح ذاتِ بينهم، فلا تفضِّل أحدًا على أحد، ولا تجعَل لأحدٍ فضلاً على أحَد، بل اتَّق الله واعدِل في أولادك في العطاء والهبات، حتى يكونوا لك قلبًا واحدًا، واحذَر أن توقِد بينهم نارَ العداوة والبغضاء بأن تفضِّل بعضًا على بعض، تقرِّب ذا وتُقصي ذا، وتترك النّار تشتعل في نفوسهم، فتكون سببًا للقطيعة بينهم والعياذ بالله.
أنت مؤتمنٌ فيما توصي به من وصايا، فلا تكُن وصيتُك وصية جَور وظلم، بل تكون وصيةً عادلة، متَّقيًا الله فيها، إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، لا تحابِ ولا تجُر ولا تفضِّل أحدًا بأيّ طريقة سلكتَ، فإنّ الله مطّلع عليك وعالم بسرّك ونجواك.
أنت مؤتمَن على البنات فتختار لهنّ مَن فيه خير لهنّ في أمرِ الدين والدنيا، لا تردَّ كُفئًا تقدَّم إليك تعلم خيرَه وصلاحَه، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))(4)[4]. وكم من معوِّق لزواج الفتيات لمصالحَ يريدها منهم، إمّا اكتسابٌ من راتبهنَ أو طمعًا في خدمتهنَ أو نحو ذلك، ويردّ الكفءَ في الصلاح والدين لمصلحة دنيويّة حقيرة، فتلك خيانة لأمانتِك أيها المسلم.
إنَّ الشهادةَ التي تؤدّيها أنت مؤتمن عليها، فتتَّقي الله، وتصدق في شهادتك، وتؤدِّي الشهادةَ على علم وبصيرة، لا على ظنٍّ ومجاملة، قال الله جلّ وعلا في كتابه العزيز: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وحذَّرنا من كتمان الشهادة، وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]. فلا تشهَد إلا بما تعلم، ولا تشهَد بلا علم ولا لمجاملة، فإنّ الشهادة أمانة عند الشاهد، أن ينطق بالحقّ لا يخاف في الله لومةَ لائم.
القاضي في محكمته مؤتمنٌ على القضايا، ومؤتمنٌ على ما يسمعه من الخصوم، فإن اتَّقى الله في أمانته وسمع من الجميع وأدَّى الحقَّ الذي أوجب الله عليه كان من الناجين يوم القيامة.
المسؤولون عن التّحقيق في كلِّ المجالات، سواء مروريّة أو غيرها، هم مسؤولون أمام الله، إن اتَّقوا الله فيما حقَّقوا وفيما كتبوا كانوا أمناء، وإن خانوا وخدَعوا وجاملوا كانوا من الخائِنين.
كلّ صاحب وِلايةٍ ما من ولايات الأمّة المسلمة قلَّت تلك الولاية أو كثرت صغُرت أم كبرة، فكلُّ مسؤول مؤتمَنٌ على مسؤوليّته، والله سائله يوم القيامة، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ [النساء:58]. وحذَّرنا الله من خيانة الأمانة فقال: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
السرُّ بينك وبين من ائتمنك على سرِّه أمانةٌ فلا تفشِ ذلك، ما بين الرّجل وبين امرأتِه فيما يجري بينهما أمانة، حرامٌ عليها أن تفضيَ للناس ما بينها وبين زوجها، أو أن يفضيَ هو الناسَ ما بينه وبين امرأته.
الأبوان أمانة عند الأولاد لا سيّما في كبر سنِّهما وضعفِهما، فالأبناء مسؤولون جميعًا عن آبائهم وأمّهاتهم، البرّ والإحسان والقيام بالواجب، فإنّ الأبوين أمانةٌ عند الأبناء.
فليتَّق المسلم ربَّه، وليراقِب اللهَ فيما اؤتُمن عليه، فإنّ المسلمَ إذا أدَّى الأمانةَ كان من المؤمنين حقًا، ولا دينَ لمن لا أمانة له، فالأمانةُ من الإيمان، تكون أمينًا على حقوق الناس بَرِّهم وفاجرهم، فاتّق الله فيما اؤتمنتَ عليه، واعلم أنّ الأمة المسلمة اللهُ كلّفها وأوجب عليها حفظَ هذا الدين، والقيام بواجب هذا الدين، دعوة إلى الله ونصيحة للأمة والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحقّ أطرًا، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانةٌ في أعناق الأمّة، ((لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد الظالم، ولتأطرنَّه عن الحقّ أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنُكم كما لعنهم))(5)[5]، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
إنّ من خصال المنافق خيانةَ الأمانة، ولذا يقول : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان))(6)[1]، فلمّا فقد الإيمانَ كان خائنًا لأمانته فيما بينَه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله. كم خان المنافقون أماناتِهم، وكم شمَتوا بالمسلمين، وكم أرجفوا برسول الله وصحابتِه الكرام، وكم قالوا وافترَوا، ولكنّ الله لهم بالمرصاد؛ لأنّهم أظهَروا الإيمانَ وأبطنوا الكفرَ المحض، فالخيانة من أخلاقهم، أمّا المؤمنُ فبعكس ذلكَ، الأمانة خلقُه، والخيانة بعيدٌ عنها كلَّ البعد، فلنتّق الله فيما اؤتمنَّا عليه.
إنّك أمين على ما تقول، وعلى ما تلقِي من دروس، وعلى ما توجِّه به النشء، فالمعلم والمعلّمة أمناء على التلاميذ جميعًا بالتّوجيه والقيام بالواجب والدّعوة إلى الخير والطّريق المستقيم، ليكن المعلّم ولتكن المعلّمة كلّ منهما حريصًا على الخير وساعيًا في تثقيف الأمّة وتوجيهها وإبعادها عن كلِّ ما يخالِف شرعَ الله، من غلوّ غالٍ وجفاء جافٍ وإفراط مفرّط وبعدِ من بَعُدَ عن الهدى.
إنّ نبيّنا قال: ((الخازنُ المسلم الأمين الذي يؤدِّي ما أُمر بأدائه موفَّرا طيّبةً بها نفسه أحدُ المتصدّقَين))(7)[2]، فجعل الأمانة مع القيام بالواجب نوعٌ من الصّدقة وإن كان ذلك عملَه، وتلك وظيفته، لكن لمّا اتقى الله وأدّى الأمانة التي حُمِّلها ودفع ما أُمِر بدفعِه طيّبةً بذلك نفسه صار أحدَ المتصدّقَين، فالحمد لله على فضله. فاتّق الله فيما اؤتُمنت عليه من قليل أو كثير، اتّق الله في أمورك كلّها، فإنّك حامل لتلك الأمانة، فاسعَ في حفظِها، لتلقى الله وأنت من المحافظين عليها، لتلقى الله وأنت من أهل الأمانة الصّادقة.
جعلني الله وإياكم ممّن أدّى الأمانة التي أُمر بأدائها، إنّه على كلّ شيء قدير.
أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
إنَّ مِن الأمانة إعطاءَ العمّال الضعفاء حقوقَهم، وعدمَ التلاعب والتهاون بذلك، فالعمّال الأجراء عندك هم [أمانة] تحت يدك، أنت مسؤول عن حقوقهم وواجباتِهم، فإن أخللتَ بشيء أو ماطلت بشيء أو حاولتَ التهرُّب أو النقص أو الإساءة فاعلم أن يد الله فوق يدك، واتق الله، ولا تبخَس الناسَ أشياءهم، وأعطِ الناسَ حقوقَهم، أعطِ العامل أجرَه، أعطه حقوقه وإيّاك والتهاونَ وعدم المبالاة بحجّة ضعفهم وقدرتِك على التهرّب وقدرتك على الروغان، اتّق الله في نفسك، وأعطِ الناس حقوقهم، فتلك أمانة اللهُ سائلك عنها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم (60، 96)، ومسلم في الطهارة (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الطهارة (142)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)،
(3) حديث المسيء في صلاته أخرجه البخاري في الأذان (757، 793)، ومسلم في الصلاة (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوّى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
(5) أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336) واللفظ له، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
(6) أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في الزكاة (1033) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(1/2772)
رغم البلاء واللأواء وتكالب الأعداء وخذلان الأشقاء
إلى متى يا أمتي؟!
-----------------------
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، لقد ذكرت كتب التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إلا أربع سنين)(1)[1].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نجوم القرآن فقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ(2)[2].
أيها الصابرون على البلاء واللأواء وكيد الأعداء، إنه القرآن الكريم خطاب رب العالمين لأمة الإسلام وأهل الإيمان، يقرع القلوب وينادي العقول لاتباع هدايات الله والعمل بذكره الذي بشر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفكم الصالح، وهو النور الذي بعث به نبيكم عليه الصلاة والسلام، يبدد جاهلية فسدت فيها العقائد وانحرفت فيها طبائع الإنسانية، وسادها الظلم والقهر والوأد والقتل لأتفه الأسباب، فما أن طرق داعي الله قلوبهم وملأ ذكر الله أسماعهم، حتى غدوا خير أمة أخرجت للناس، تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وتعيد للإنسان كرامته الإنسانية في ظل رسالة الإسلام الشاملة التي جعلها الله رحمة للناس جميعاًً وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما آن للمسلمين بعد طول غياب عن تحكيم كتاب الله في شؤون حياتهم من خلال دولة الإسلام التي يرعاها خليفة المسلمين وسلطانهم، أما آن لهم أن يعودوا إلى معين عزتهم ومصدر قوتهم ووحدتهم بعد أن رأوا بأم أعينهم ما جرت عليهم معصيته من ويلات، ببعدهم عن دينهم وتخليهم عن دستورهم الخالد وهداياته الباهرة، وصدق الله العظيم: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
والمتبصر بأحوال المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي يجد هذه الحقيقة القرآنية ماثلة للعيان، حين ابتعدت الأمة عن ذكر الله وهدايات كتابه العزيز أصابها الضعف واعتراها الهوان وطمعت بها أمم الأرض للسيطرة عليها واحتلال أرضها ونهب خيراتها وطمس حضارتها، بإلقائها في النهر كما فعل المغول، أو نهبها ومحاربة عقول علمائها كما فعل الاحتلال الأنجلو أمريكي في العراق اليوم، تحت ستار تحريره، بل تجريده من كل شيء.
يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومنذ نُحي الإسلام عن سدة حكم الأمة جربت أمتكم كثيراً من الشعارات التي طرحت في ساحة الأمة كالقومية والاشتراكية، وصنفت الدول العربية والإسلامية إلى أنظمة رجعية أو تقدمية، في ظل أنظمة وضعية صاغها الإنسان بعيداً عن أحكام دين الأمة التي تنبثق عن الشريعة، التي تنظم الحياة والأحياء في ظل حاكمية الله.
وفي ظل هذه الأنظمة فقدت الأمة وحدتها، وضعفت العقيدة في نفوس أبنائها، وتراجعت فكرة الدفاع عن أرض الأمة في ظل التمسك بالحدود الإقليمية والنزعة الضيقة بالانتساب إلى الجنسيات المتعددة التي أفرزتها الحدود الاستعمارية بأرض المسلمين، حتى غدا المسلم غريباً في ديار الإسلام.
في ظل هذه الشعارات هُزمت الأمة، وحلت بها النكبات بعد أن رُزئت الأمة بإلغاء نظام الحكم الإسلامي الذي كانت ترعاه الخلافة، فكانت نكبة ديار الإسراء والمعراج التي سلب شعبها من أرضه لاجئاً في سائر بقاع العالم، واكتمل احتلال هذه الديار في نكبة أو في نكسة عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، كما احتلت أراض عربية أخرى في سيناء والجولان ولبنان، وفي ظل غياب الأمة عن هدايات الله والجري وراء السراب الخادع للنهضة تحت شعارات العلمانية والديمقراطية التي تسوقها أنظمة الكفر في حملة العولمة وفق نظامها وتطوراتها، ويحاول حكام أمتنا المهزوزة تطبيقها على واقع الأمة وغرسها في تربة لا تعيش فيها، وقد فقدت الأمة مع هذا الواقع أدنى مقومات التعاون وعوامل الوحدة، وفرط عقد الدفاع المشترك التي أقرته جامعة الدول العربية إحدى إفرازات الاستعمار القديم، مما حدا بالكثير من أعضاء هذه الجامعة أن يكونوا عوناً للغازي المستعمر بتسخير أرضهم ومياههم وأجوائهم لاجتياح بلاد الرافدين مهد الحضارات الإسلامية وحاضرة حواضر الخلافة الإسلامية، يوم تنكرت أنظمة عربية لتاريخها وحضارتها وعزة أمتها وكرامة شعوبها، وراحت ترى في الاحتلال والاستعمار مخلصاً لها من أخطار محتملة، لتكون الأمة فريسة لأخطار محققة من قبل المستعمرين القدامى، والجدد من البريطانيين والأمريكيين الذين يعملون على رسم خارطة جديدة للمنطقة العربية والإسلامية وفق أهدافهم ومخططاتهم، هذا إذا بقيت شعوب الأمة تغطُّ في سبات عميق، يرعاه حكامها وولاة أمورها تحت ذرائع العجز والضعف المفضي إلى الذل والعار الذي تسعى إليه بعض شعوب الأمة أو بعض أبناء فلذاتها، الذين يتكلمون بألسنتنا، وينفذون مخططات أعدائنا بتمكينه من ناصية الأمة في زمن زادت فتنه، وليل اشتد ظلامه، وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يطل على الأمة في ذكرى مولده يحذر الأمة من هذه الفتن بقوله: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا))(3)[3] أو كما قال.
من الحق الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام واستجاب له المؤمنون وعملوا على تطبيقه قول الله تعالى: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:153]، وقوله تعالى: وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، وقوله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فحياتكم أيها المسلمون في اتباع كتاب الله وسنة رسوله.
أن تخشع قلوبكم لهذا الذكر الحكيم والهدي المبين والحق اليقين الذي عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفكم الصالح، فدانت لهم الدنيا ونشروا رايات الحق خفاقة في ربوع العالم، يهدون إلى الخير، وبه يعملون، وينبذون الشر، وعنه يعدلون، أيام كان المسلمون بحالة مرهوبة، والعود صلب المكسر، أيام كان الدين ملأ نفوسهم، وأتوا على كسرى العظيم وقيصر، فهلا نهج المسلمون اليوم نهج الألى سبقوا والتفوا حول قرآنهم وسنة نبيهم، فهو القائل: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي))(4)[1] إذاً لا مخرج للأمة مما تعانيه إلا الرجوع إلى دينها والحكم بما أنزل الله، فهذا هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة والذود عن كرامتها وحماية أوطانها، وكما حررت الأمة بلادها من اجتياح المغول في عين جالوت، وردّت الحملات الصليبية في حطين يوم كان الشعار: وا إسلاماه، وكان الحاكم لا يبتسم وبيت المقدس أسير الاحتلال.
وتمثلوا قول القائل:
كونوا بني قومي جميعاً إذا اعترى ……خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ……وإذا افترقن تكسرت آحادا
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (3027) كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ .
(2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه في تفسيره، كما عزاه إليهما السيوطي في الدر المنثور 8/58.
(3) رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة (118)، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال.
(4) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
(1/2773)
الحمد لله ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملِك الحقّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله النبيّ الأمين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد: 28]. اتّقوا الله تعالى وراقِبوه، ولا تركَنوا إلى الدنيا وزينتِها، فإنّ الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة أجلٌ صادق، يحكم فيها ملِك قادر، يفصل بين الحقّ والباطل عدلاً وعلمًا.
في زمن الإحباط واليأس، في سنواتِ الشدّة والبأس، في عصر تقلُّبات القيَم والموازين، وفي أوقاتِ نَكس المبادئ والمفاهيم، في ساعات قعققةِ السّلاح واسترخاص المُهَج والأرواح، في زمنِ قهرِ الأقوياء للضعفاء واستطالة الأغنياء على الفقراء وتعالي المجدودين على التُعسَاء، في موج هذه الحضارة ولُجَجِها، ما أحوجَ الأممَ إلى أن يرسوَ مركبُ حضارتِها على ضِفاف المبادئ النبيلة، ويستوي فلكُها على جوديّ القيَم السامية الجميلة، فتضمَّد على تلك الضفاف المواجعُ والجروح، وتتسامى بنبيل الصفاتِ النفس والروح. ما أحوجَ الأممَ إلى أن يستدركوا نقصَ حضارتِهم ويبحثوا عن الخللِ الذي لحِق بحياتهم. قد آن لهم أن يتساءلوا: من أين أُتوا؟ وكيف أشقَوا بهذه الحضارة وشقُوا؟ كيف أراحت الجسدَ وأتعبتِ الروح؟ ولماذا تغدو الهموم على حياتهم ولا تروح؟ أسئلةٌ شتى وما مِن جواب إلا مَن رفع بصرَه للسماء، فيجد الجواب، وفي التنزيل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ءايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
لما استُلِب من الحضارة لبُّها وفقدت روحَها وجوهرَها، لما غُيِّبت كثير من القيَم والأخلاق، حينئذ جفّت الحياة وصوَّح نبتها، واكتأبت النّفوس وعلا بثُّها.
دعْك من هذا وأمعِن النظر في سيرةِ محمّد رسول الله تجدْها ملأى بكريم الصّفات وجميلِ الأخلاق والمبادئ مُثلاً وتطبيقًا، ولأجل ذلك كانت حضارةُ شريعته هي الحضارة الوحيدة التي أسعدت العالَم، عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لرسول الله : يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومِك، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ فناداني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ قد سمع قولَ قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجبال لتأمرَه بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلّم علي، ثم قال: يا محمّد، إن الله قد سمع قولّ قومك لك وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين))، فقال له رسول الله : ((بل أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابِهم من يعبُد الله وحدَه لا يشرك به شيئًا)) رواه البخاري ومسلم(1)[1].
ولمّا ضيَّق عليه أهل مكّة الخناقَ وآذوه وعذّبوا أصحابَه، ثم طاردوه وطردوه، وقاتلوه وحاولوا قتلَه، وقتلوا أصحابَه في أحُد، وأدمَوا وجهَه الشريف، فكان يمسَح الدمَ عن وجهه ويقول: ((اللهمّ اغفِر لقومي فإنّهم لا يعلمون))(2)[2].
بهذه الرحمةِ والشفقة بُعثَ نبيّنا محمّد ، وبهذا العطف والرأفة عامل الرسول الرحيمُ خصومَه وأعداءَه كما عامَل بالرحمة أصحابَه.
الرّحمة صفةٌ من صِفات المولى جلّ وعلا، فهو الرحمن الرحيم، وهو [الرؤوف] بعباده، وهو اللطيف بخلقِه، وقد بعث بها رسولَه الكريم، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وجاء بشريعةِ الإسلام على هذا المقتضى، لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128] . لقد كان يشقّ عليه ويعزُّ عليه ما يشقّ على أمّته، فما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، وكم من موقفٍ قال فيه: لولا أن أشقَّ على أمّتي لأمرتهم بكذا أو لفعلت كذا. ولقد كان يدخُل في الصّلاة يريد إطالتَها فيسمع بكاءَ الصبيّ، فيتجوّز في صلاتِه ممّا يعلم من شدّة وجدِ أمّه من بكائه(3)[3].
الرحمةُ رقَّة وعطفٌ وشفقة ولُطف وحنان ومروءة. الرحمةُ مشاعر تقوم بالقلبِ الرحيم، وعواطفُ تجيش من الفؤاد الكريم، صفةٌ من صفاتِ الأنبياء ودليلُ كمال الإيمان وحسنِ الإسلام، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنّا عند النبي فأرسلت إليه إحدى بناتِه تدعوه وتخبِره أن صبيًّا لها أو ابنًا لها في الموت، فقال للرّسول: ((ارجِع إليها فأخبِرها أنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجلٍ مسمّى، فمُرها فلتصبِر ولتحتسِب))، فعاد الرسول فقال: إنّها قد أقسمَت لتأتينَّها، قال: فقام النبي وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقتُ معهم، فرُفِع إليه الصبيّ ونفسه تقعقَع كأنّها في شنّة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوبِ عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرُّحماء)) رواه البخاري ومسلم(4)[4].
الرحمةُ تثمِر الألفةَ والمحبّة بين الخلق، وهي سعادةٌ في القلب وطريق إلى الجنة، وفي الحديث: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسِط متصدِّق موفَّق، ورجل رحيم رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وضعيف متعفِّف ذو عيال)) رواه مسلم(5)[5].
الرّحمة ترقِّق القلب، فيرحمُ مَن دونَه حتى البهائم والطيور، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله في سفر، فانطلق لحاجتِه، فرأينا حمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرة فجعلت تفرِّش، فجاء النبيّ فقال: ((من فجع هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها)) رواه أبو داود بإسناد صحيح(6)[6]، وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النبيّ حائطًا لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ فلمّا رأى النبيَّ حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيّ فمسح ذِفراه فسكت، فقال: ((من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟)) فجاء فتًى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((ألا تتَّقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟! فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتُدئبه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح وأصله عند مسلم(7)[7].
هذا في البهيمةِ، فما تقول لمن يؤذِي البشرَ ويهضِم حقوقَ الضعفاء ولا يرحَم صغيرًا ولا كبيرًا؟!
ومَع أنَّ رحمة الخلقِ جالبة لرحمة الله للعبد ففي الصحيح: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء))(8)[8] فإنّها صفة هذه الأمة ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفِهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو تداعى سائر جسده بالسهر والحمى)) رواه البخاري ومسلم(9)[9].
وكذلك فإنَّ الذي لا يرحم لا يُرحم كما نطق بذلك المصطفى (10)[10].
وأمّا الرّحمة في الحُكم والتّشريع فبابٌ يطول، فالشّريعة كلّها رحمة، رحمةٌ في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتِها.
هذه هي الرّحمة التي بُعِث بها سيّد البشر ، وهذا هو ديننا، دين الرّحمة والتّراحم في السّلم وفي الحرب، مع الأعداء والأصدقاء، مع الحيوان والطير، رحمة في العبادة والتّعامل والحُكم، ورحمة في كلّ تفاصيل التشريع، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا بَعث أهلُ مكّة في فداء أسراهم بعثت زينبُ بنت رسول الله في فداء زوجِها أبي العاص بمالٍ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حينَ بنى عليها، قالت: فلمّا رآها رسول الله رقَّ لها رقّةً شديدة وقال: ((إن رأيتم أن تطلِقوا لها أسيرَها وتردّوا عليها الذي لها فافعَلوا))، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها الذي لها(11)[11] .
تقِف العبارات حائرةً والتعابير قاصِرة عن الإحاطة بوصف رحمةِ أكرمِ الخلق على الله، فأين مِن ذلك ما تدَّعيه الحضارات الزائفة الخاوِية من الرحمة والعدل، التي إذا ظهرت لم ترقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، وإذا تولّت سعَت في الأرض لتفسِد فيها وتهلِك الحرثَ والنسل، والله لا يحبّ الفساد.
لقد كان النبيّ يتلمَّس العذرَ لقومه وهم يريدون قتلَه، ويشفِق عليهم وهم يحاربونه، يريد هدايتَهم وإسعادَهم، بينما يدَّعي الرحمةَ فاقدوها الذين يتلمّسون الأعذارَ للبطش، ويختلقون الأكاذيبَ للحرب والقتلِ والفساد والتدمير، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
ألا وإنّ من الرّحمة بالبشريّة ردعَ هؤلاء وكفّهم، وإنّ الشدةَ عليهم هي الرّحمة التي جاء الإسلام بنشرها ووقَفَ الطغاةُ في وجهها.
إنّ الإنسان لم يتميّز بجسمه وقوّته، فمِن المخلوقات ما هو أشدّ منه قوّة وخلقًا، بل ميزته بقلبه وروحِه وعقلِه ومشاعره، وليس فخرًا أن يكون الإنسان غليظًا شديدًا، بل الفخرُ أن يسموَ بخُلقه، وأن يعلوَ بطبعه. الرحمةُ ليست ضعفًا وخَوَرًا، بل هي في موضعِها سموّ ورقيّ وعظمة وجمال، تتمثَّل فيها أحسنُ جوانب الإنسانية المشرِقة، من اللّطف والعطف والرّقّة والحنان.
عن عبد الله بن شدّاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتَي العشاء وهو يحمِل حسنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله فوضعه، ثمّ كبّر للصلاة فصلّى، فسجد بين ظهرانَي صلاته سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسِي وإذا الصبيّ على ظهرِ رسول الله وهو ساجِد، فرجعتُ إلى سُجودي، فلمّا قضى رسول الله الصلاةَ قال النّاس: يا رسول الله، إنّك سجدتَ بين ظهرانَي صلاتك سجدة أطلتها حتّى ظننّا أنّه قد حدث أمرٌ أو أنّه يوحى إليك، قال: ((كلّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أعجله حتّى يقضيَ حاجتَه)) رواه النسائي بإسناد صحيح(12)[12].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ [آل عمران:159].
تخلَّقوا بأخلاق نبيّكم الزّكيّة، وتمسّكوا بمبادئ دينكم الرضيّة، لقد جمع هذا الخلُق الرفيع الخيرَ كلَّه.
أمّة الإسلام، الرحمةُ تواضعُ النّفس وكسر الكبرياء. الرحمةُ بذل المعروف والإحسان ومواساةُ المحتاج وصِلة الأرحام. الرحمةُ تعني العطفَ على الضعفاء والمرضى وذوي الإعاقات واليتامى والمحرومين بمساعدتِهم وإسعادِهم وإدخال السرور على قلوبهم. الرحمة مقتضاها نصرةُ المظلوم وردع الظالم والأخذ على أيدي السفهاء. الرحمة تعني الاهتمام بشؤون المسلمين وأن تعيشَ قضاياهم وتشاركَهم آلامهم وآمالهم وتغيثهم. الأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر ودعوة المسلمين وتعليمُهم غاية الرّحمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قال رسول الله :] ((إنّما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فجعل الجنادِب والفراشُ يقعنَ فيها، وهو يذُبّهنّ عنها، وأنا آخذٌ بحجزِكم عن النّار، وأنتم تفلَّتونَ من يدي)) رواه البخاري ومسلم(13)[1].
اللهمّ أسبِغ علينا رحمةً من عندك تغنينا بها عمَّن سواك.
عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ من أفضل أيّامكم يومَ الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثِروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنّ صلاتَكم معروضة عليّ))، قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرَض صلاتنا عليك وقد أرِمتَ؟! يقولون: بليتَ، فقال: ((إنّ الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أجسادَ الأنبياء)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح(14)[2].
اللهمّ صلِّ وسلّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدّين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة الراشدين...
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد (1795).
(2) أخرج البخاري في أحاديث الأنبياء (3477)، ومسلم في الجهاد (1792) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي يحكي نبيّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
(3) أخرجه البخاري في الأذان (709، 710)، ومسلم في الصلاة (470) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في الجنائز (1284)، ومسلم في الجنائز (932).
(5) أخرجه مسلم في الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه في حديث طويل.
(6) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (382)، وأبو داود في الجهاد (2675) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/239)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2268). وأخرجه أحمد (1/404) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
(7) أخرجه أحمد (1/204)، وأبو داود في الجهاد (2549)، وصححه الحاكم (2/109)، ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (20). وقوله: ((تُدئِبه)) أي: تتعبه بكثرة العمل. قاله المنذري.
(8) أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (925).
(9) أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(10) 10] أخرجه البخاري في الأدب (5997، 6013)، ومسلم في الفضائل (2318، 2319) من حديث أبي هريرة ومن حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما.
(11) 11] أخرجه أحمد (6/276)، وأبو داود في الجهاد (2692)، وصححه ابن الجارود (1090)، والحاكم (4306، 5409)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (2341).
(12) 12] أخرجه النسائي في التطبيق (1141)، وهو أيضا عند أحمد (3/467، 493)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/379-380)، والطبراني في الكبير (7/270)، والبيهقي في الكبرى (2/263)، وصححه الحاكم (4775، 6631)، والألباني في صحيح السنن (1093).
(13) أخرجه البخاري في الرقاق (6483)، ومسلم في الفضائل (2284) بنحوه.
(14) أخرجه أبو داود في الصلاة (1047، 1531)، والنسائي في الجمعة (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1085)، وهو أيضا عند أحمد (4/8)، وصححه ابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1029، 8681)، والنووي في الأذكار (294)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1527).
(1/2774)
بابَ الإحسان
-----------------------
الحمد لله ربّ العالمين، يجيب السائلين، ويحبّ المحسنين، أحمد ربِّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ المتقين، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنَّ غايةَ الإسلام الكبرى وتشريعاتِه العظمى هي الإحسانُ إلى النّفس والإحسان إلى الخلق، فبهذا الإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق تكون منازلُ النّاس عند ربهم في الدّنيا والآخرة قُربًا وبُعدًا، وبهذا الإحسان تكون منزلة الإنسان عند الخَلق قَبولاً ونُفورًا. ولكون المأمورات والفرائض والمحرّمات والمنهيّات كلِّها ترجع إلى الإحسان فقد كتبَه الله وافترضه في تشريعه، عن أبي يعلى شدّاد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرتَه، ولْيُرح ذبيحته)) رواه مسلم(1)[1].
فقوله : ((إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء)) له معنيان:
المعنى الأوّل: إنّ الله تعالى كتب الإحسانَ في كلّ شيء من الأعمال الواجِبة، بأن يؤدِّيَها المسلم على وجه الكمال في واجباتها، ويجتهدَ في مستحبّاتها، وأن يُحسِن في ترك المحرّمات بالانتهاء عن ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. فالإحسان بأداء الفرائضِ وترك المحرّمات إحسانٌ إلى النّفس، وأعظمُ الإحسان إلى النّفس توحيدُ الله تعالى بعبادة الله وحدَه لا يُشرك به شيئًا، وما بَعد ذلك تابعٌ لهذا الأصلِ العظيم.
والمعنى الثاني: إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ أحد إلى كلِّ مخلوق، فالإحسان إلى كلِّ مخلوق بحَسَبه.
وقد أمر الله تعالى بالإحسان أمرًا مطلقًا عامًّا، فقال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
وأمر بالإحسان مقيَّدًا مفصلاً، فأمر بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسانِ إلى الأقرباء وإلى الجار والفقراءِ والضعفاء، وبالإحسان إلى المنكوبين بكوارثَ كونيّة أو عدوّ نازل، وبالإحسان إلى اليتامى وغيرهم.
والإحسان إلى الخلق معناه بذلُ الخير وكفُّ الشرّ.
وأجمع الآيات في كتاب الله تعالى التي تأمر بالإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق قوله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى [النحل:90].
ومعنى قوله تعالى: وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى: الجار المسلم القريب.
وَالْجَارِ الْجُنُبِ الكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي أنّه قال: ((الجيران ثلاثة: جارٌ له حقّ واحد وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقًا. فأمّا الذي له حقّ واحد فجارٌ كافر لا رحِم له له حقّ الجوار. وأمّا الذي له حقّان فجار مسلم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار. وأمّا الذي له ثلاثة حقوق فجارٌ مسلم ذو رحِم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرحم)) رواه البزار في مسنده وأبو نعيم في الحلية(2)[2].
وأمّا الصاحب بالجنب ففسّره طائفة من أهل العلم بالزّوجة، وفسّره بعضُهم بالرفيق في السّفر، ويدخل فيه الصّاحب في الحضر من باب أولى.
ومِن أعظم الإحسان إلى الخلق معاملةُ النّاس بمقتضى الشرع الحنيف، بالوفاء والصّدق والعدل والرّحمة والتواضع والصّبر والاحتمال والقول الحسن، وأن تعاملَهم بما تحبّ أن يعاملوك به، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91]، وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وقال عزّ وجلّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وفي الحديث عن النبي : ((الراحمون يرحمُهم الرحمن))(3)[3]، وقال عزّ وجلّ: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان:63]، وقال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءاتُواْ الزكاةَ [البقرة:83]، وقال عزّ وجلّ: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا عقبة، ألا أخبرك بأفضلِ أخلاق الدنيا والآخرة؟! تَصِلُ من قطعك، وتعطي من حرمَك، وتعفو عمَّن ظلمك)) أخرجه أحمد والحاكم(4)[4]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي قال: ((ما مِن شيء يوضَع في الميزان أثقل من حُسن الخلق، وإنَّ صاحبَ حُسن الخلق ليبلغ به درجةَ صاحب الصّوم والصلاة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي(5)[5].
فحُسن الخلق من الإحسان إلى النّفس ومن الإحسان إلى الخلق، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين)) رواه مسلم(6)[6].
فأحسِنوا ـ عبادَ الله ـ إلى نفوسكم وإلى خلق الله تعالى، بما أمركم به من الطاعات، وبترك ما نهاكم عنه من المحرّمات، قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
إنّ الإحسان الذي كتبه الله على كلّ شيء وأمركم به يعمُّ الإنسانَ والحيوان والدوابّ، قال الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، وقال: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه:112]، والظلمُ هو أن يعاقبَ بسيّئات غيره، والهضم أن يُنتقصَ من ثواب حسناته، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بينما رجلٌ يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرِب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهَث ويأكل الثّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد كان بي من العطش، فنزل البئرَ، فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلبَ، فشكر الله له فغفر له))، قالوا: يا رسول الله، إنَّ لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: ((في كلِّ كبِد رطبةٍ أجر)) رواه البخاري ومسلم(7)[1]، وفي رواية لهما: ((بينما كلبٌ يطيف بركيَّةٍ قد كاد يقتله العطشُ إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَها، فاستقت له به، فسقته فغُفر لها به))(8)[2]، والموق هو الخفّ. وفي الحديث عن النبي قال: ((ما مِن إنسانٍ يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو دابّة إلا كان له صدقة))(9)[3].
فاتقوا ربَّكم عباد الله، والزَموا بابَ الإحسان الذي كتبه الله عليكم، بالإحسان إلى أنفسكم بطاعة ربكم وتركِ محرمّاته، والإحسان إلى الخلق بما أُمرتم به، يُدخلْكم ربُّكم مدخلاً كريمًا، ويصرف عنكم عذابًا أليمًا.
إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955).
(2) أخرجه البزار كما في تفسير ابن كثير (1/496)، وأبو نعيم في الحلية (5/207) من طريق محمد بن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن الفضل، عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر، وقال البزار: "لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء عن الحسن، لم نكتبه إلا من حديث ابن أبي فديك"، وضعفه العراقي كما في فيض القدير (3/367)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص138): "روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال"، وضعفه العجلوني في كشف الخفاء (1/393)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (3493).
(3) أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (925).
(4) أخرجه أحمد (4/148، 158)، والحاكم (7285) واللفظ له، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).
(5) أخرج جزأه الأول أحمد (6/442، 451)، والبخاري في الأدب المفرد (270)، وأبو داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481). وأخرجه بتمامه الترمذي في البر (2003)، وعزاه المنذري في الترغيب (3/271) للبزار وقال: "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1629).
(6) أخرجه مسلم في البر (1914).
(7) أخرجه البخاري في الأدب (6009)، ومسلم في السلام (2244).
(8) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3467)، ومسلم في السلام (2245).
(9) أخرجه البخاري في المزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1552) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((ما من مسلم)).
(1/2775)
صفاتِ الأخيار وصفاتِ الأشرار
-----------------------
الحمد لله ذي المجدِ والكرَم، الذي خلق الإنسان وعلّمه القلم، أحمده سبحانه على عظيم نعمائه، وأشكره على عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرَم، وأشهد أن نبيّنا وسيّدنا محمَدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنّ مِن الناس مَن هو من مفاتيح الخير، ومنهم من هو من مفاتيح الشرّ، وكلاهما يلقَى جزاءَه في الدّارين، قال النبيّ : ((طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ، وويل لمن كان مغلاقًا للخير مفتاحًا للشرّ))(1)[1]. والخير كلُّه ما دعا إليه الدين الإسلامي وأمر به، والشر كلُّه ما نهى عنه الدين الإسلامي وحذَّر منه.
وذكر الله صفاتِ الأخيار وصفاتِ الأشرار، فقال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:63-69]، كما ذكر الله صفات المجرمين المفسدين لنحذَر أعمالهم، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]
وأعظمُ الإفساد في الأرض الشرك بالله تعالى في عبادته، واتباعُ الهوى لأنّه يصدُّ عن الحقّ، وقتل النفس التي حرّم الله عزّ وجل قتلَها وعصم دمَها وعظَّم خطرَ قتلها في كلّ شريعة، قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وجاء في الوصايا العشر لموسى : "لا تتَّخذ إلهًا غيري في السّماء أو في الأرض، أكرِم أباك وأمَّك، لا تقتُل، لا تزنِ، لا تسرِق، لا تشهَد على قريبك شهادةَ زور، ولا تشتَرِ حقلَه ولا ثورَه ولا حِماره" إلى آخر هذه الوصايا العشر في التوراة، وجاءَ عيسى عبدُ الله ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمتُه ألقاها إلى مريم العابدة، جاء ليؤكِّد هذه الوصايا العشر، وأكَّدها داود وغيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسّلام، وأنزل الله تعالى على سيِّد المرسلين سيّد البشر محمّد عشرَ وصايا عظيمة في شريعته الغرّاء التي اتَّفقت مع شرائِع الأنبياء قبلَه في أصل الشريعة، قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، ونسخت شريعةُ نبيّنا الشرائعَ التي قبلَها، وحفِظ الله كتابَها من الزّيادة والنقصان إلى يوم القيامة، قال الله تعالى في هذه الوصايَا العشر: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].
ففي هذه الوصايا العشر العظيمة حرَّم الله قتلَ النّفس، وقال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وفي الحديث عن النّبيّ : ((لا يزال المؤمنُ في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(2)[2]، وفي الحديث عن النبي : ((من قتل معاهدًا أو ذمِّيًا لم يرح رائحة الجنة))(3)[3]، والمعاهد المستأمن في هذا العصر هو الذي أُعطي إقامةً من الإمام أو نوّابه وهو غيرُ مسلم، فإنّ هذا الوعيد الشديد على قتله يمنَع المسلمَ أن يتعرَّض له.
وإنَّ ما وَقع في من تفجيرات وقتل قُتِل بسببه مسلمون وغيرُ مسلمين عملٌ إجراميّ وإرهابي شنيع، لا يقِرُّه دين ولا يقبله عرف، والإسلام بريء من هذا الفعل الإرهابيّ، والمنفِّذون له مفسِدون في الأرض مجرمون قَتَلة، قد باؤوا بجُرم عظيم، يحاربه الإسلامُ أشدَّ المحاربَة ويدينه أشدَّ الإدانة، ويستنكِر هذا التخريبَ والإرهاب كلُّ ذي عِلم ودين وعَقل، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى [النحل:90].
وقد جمع هؤلاء القتلة ـ والعياذ بالله ـ المفسدون بين قتل النفوس الآمنة وبين قتلِ أنفسهم، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، واللهُ قد توعّد من قتَل نفسَه بالعذاب الأليم في جهنّم، فكيف بمن قتل النفسَ المحرّمة؟! قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من تردَّى من جبلٍ فقتل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسَه بحديدة فحديدتُه في يده يتوجَّأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم(4)[4].
وهذا العملُ خيانة وغَدر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وترويعٌ للآمنين. إنّ هذا الإجرامَ تحاربه مناهجُ التعليم لدَينا، ويحاربه علماء هذه البلاد، ويحاربه أئمّة الحرمين الشّريفين، ويحاربه مجتمعُنا ككلّ. والمناهجُ الدينيّة لدينا مبنيَّة على قولِ الله الحقّ، وعلى قول رسول الله الحقّ، والحقّ خيرٌ كلّه للبشرية، ولا يترتّب عليه باطل، وإذا شذَّ في الفكر شاذّ فشذوذه على نفسه، كما هي القاعدة في الإسلام، قال الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقال تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]، وهل يُلقى باللّوم على النحل كلِّه إذا جنت أعدادٌ منه ثمرةً سامّة.
وولاّة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
ونحذِّر بعضَ الشّباب المغرَّر بهم من الفِكر الخارجيّ الذي يكفِّر الأئمّة، ويكفِّر من لم يوافِقه، فقد أمَر الله بطاعة وليِّ الأمر في غير معصيَة، قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من كرِه من أميره شيئًا فليصبِر، فإنّه من خرج من السلطان شِبرًا ماتَ ميتةً جاهليّة)) رواه البخاري ومسلم(5)[5]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأميرَ فقد أطاعني، ومن يعصِ الأميرَ فقد عصاني)) رواه البخاري ومسلم(6)[6]، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أهانَ السلطانَ أهانَه الله)) رواه الترمذي(7)[7].
وانظر كيف ذمَّ النبيّ الخوارجَ غايةَ الذمِّ في قوله : ((تحقرون صلاتَكم مع صلاتهم، وصيامَكم مع صِيامهم، وقراءتكم مع قراءتِهم، يمرُقون من الدّين كما يمرق السّهمُ من الرّميّة))(8)[8]، فتلقّي الكتابِ والسنة على الراسخين في العلم والتمسّكُ بفهم السلف الصالح رضي الله عنهم هو المخرَج من الفِكر الخارجيّ.
ونحن المسلمين مطالبون من شريعتِنا الإسلاميّة بمحاسبة من يشذّ من المسلمين بما شرع الإسلام من أحكامٍ توقف المعتدِي عندَ حدّه وتكفُّ شرّه عن الناس، قال الله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].
كما يطالب المسلمون الغربَ باحترامِ مصالحِ الشعوب الإسلاميّة والعربية، وعدمِ إهدارها أو تناسيها أمامَ المصالح الغربيّة؛ لأن احترامَ حقوق الشعوب العربيّة والإسلامية يحقِّق العدالة، ويوفِّر تبادلَ المصالح التي تحتاجها كلُّ الشعوب، ويوفِّر الخيرَ، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].
اشكُروا نعمَ الله الظاهرةَ والباطنة التي أسبغها عليكم، فقد أنعمَ عليكم لتعبدوه، وأعطاكم لتسلِموا له الوجوه، ومنَّ عليكم لتطلبوا مرضاتِه وتبتعدوا عن محرَّماته، قال الله تعالى: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، ولا تحتقِروا أيَّ نعمَة من نِعم ربِّكم، فليس في نعم الله حقير، وليسَ في آلائه صغير، فالنّعم تحتاج إلى شكرٍ وإلى صَبر.
واعلموا أنَّ عليكم من الله حافظًا، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونيّاتكم ومقاصِدكم وإراداتِكم، يُحصي الله ذلك في كِتاب، ويومَ القيامة يقول الله لكلِّ إنسان: اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويقول تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجَد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))(9)[1].
واعلَموا أنّه لا ينفَع أحدًا دخَل النارَ نعمٌ تمتَّع بها في الدنيا، ولا يضرّ أحدًا دخل الجنّة بؤسٌ وشدّة جرت عليه في الدنيا، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي الحديث عن النبي : ((يؤتَى بأنعم أهل النار في الدنيا، فيُغمَس في النار ويقال له: يا ابن آدم، هل مرّ عليك نعيم قطّ؟ فيقول: لا والله، ما مرَّ عليَّ نعيم قطّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا من أهل الجنّة، فيغمَس في الجنّة ويقال له: هل مرّ بك بؤسٌ قطّ؟ فيقول: والله، ما مرّ بيَ بؤس قطّ)) رواه مسلم(10)[2].
فاحذروا النّارَ وخافوها واتركوا سبلَها، فإنّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلِها الزّقوم والضريع، وشرابهم المهلُ والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبدًا في مزيد، واطلبوا جنّةً عرضها السموات والأرض، لا يفنى نعيمها ولا يبيد، يجدّد الله النعيمَ المقيم لأهلها، قال الله تعالى: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
عبادَ الله، إنَّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة (238)، وابن أبي عاصم في السنة (298)، وأبو يعلى (7526)، والروياني (1049)، وأبو نعيم في الحلية (8/329-330) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه بنحوه، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سهل، لم يروه عنه إلا أبو حازم، تفرد به عنه عبد الرحمن فيما أعلم"، وعبد الرحمن بن زيد شديد الضعف. وفي الباب عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (237) وإسناده ضعيف أيضا.
(2) أخرجه البخاري في الديات (6862).
(3) أخرجه البخاري في الديات، باب: إثم من قتل ذميا بغير جرم (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وليس فيه: ((أو ذميا)).
(4) أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109).
(5) أخرجه البخاري في الفتن (7053، 7054)، ومسلم في الإمارة (1849).
(6) أخرجه البخاري في الجهاد (2957)، ومسلم في الإمارة (1835).
(7) أخرجه الترمذي في الفتن (2224) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وأخرجه أيضا الطيالسي (887)، وأحمد (5/42، 48)، وابن أبي عاصم في السنة (1017، 1018)، والبزار (3670)، والبيهقي في الكبرى (8/163)، وصححه الألباني في صحيح السنن (1812).
(8) أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
(9) جزء من حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
(10) أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
(1/2778)
الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر
-----------------------
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
دينُ الإسلام دينُ الخير والعدلِ والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ [النحل:90]. دين الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والفساد، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف:56].
الفسادُ في الأرض إجرام، وأيُّ إجرام أعظم من فساد في الأرض؟! نهى عنه ربّنا جلّ وعلا، وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض، قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، ونبيُّ الله شعيب يقول لقومه: وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرْضِ مُفْسِدِينَ [هود:85]، ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبيَّ الله هارون قائلاً له: اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وصالحو البشر يخاطبون قارون قائلين له: وَابْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الفسادُ في الأرض خُلُق اللئام من البشر، والله لا يحبّ المفسدين ولا يصلِح عملَهم، قال تعالى عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وقال موسى مخاطبًا آلَ فرعون، قال لهم: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81].
وعندَ تدبُّر كتابِ الله والتأمُّل فيه نرى في كتاب الله تحذيرًا عن أنواع الفساد؛ ليكون المسلم على حذرٍ من أيِّ نوع من أنواعها. فقد بيَّن الله في كتابه أنّ الكفرَ به والصدَّ عن سبيله ضربٌ من ضروب الفساد: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل:88]. وبيّن تعالى أنَّ إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم فساد في الأرض، وهو خُلُق المنافقين، قال تعالى عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. وبيَّن تعالى أنَّ السخريةَ بالمؤمنين وإلحاقَ التُّهَم بهم وهم بُرآء منها ضربٌ من ضروب الفساد، قال تعالى عن قوم فِرعون أنّهم قالوا لهم: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ [الأعراف:127]، وفرعون يقول لقومه عن موسى: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فسمَّى دينَ موسى فسادًا، وهكذا من وصف أهلَ الإيمان والاستقامة والثباتِ على الحقّ بنوع الإفساد فإنّه داخل في هذا العموم.
ومن الفسادِ في الأرض الصدُّ عن سبيل الله واتّخاذ ذلك عِوَجا، قال تعالى عن شعيب عليه السلام أنّه قال لقومه: وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:86]. ومن الفسادِ في الأرض العدولُ عن الحقِّ بعد معرفتِه، فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63]. مِن الفساد في الأرض سرقةُ الأموال الخاصّة والعامّة، قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف:73]. من الفساد في الأرض البدعُ المخالفة لشرع الله، في الحديث: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))(1)[1]. من أنواع الفساد سفكُ الدّماء المعصومة ـ دماء المسلمين أو المعاهدين ـ بغير حق، فذاك ضربٌ من ضروب الفساد، سفكُ الدّماء وإراعة الآمنين فسادٌ في الأرض، مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32]، إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
إنّ قصدَ القتل وإراعة الآمنين جريمةٌ نكراء، كبيرةٌ من كبائر الذنوب، في الحديث: ((لَزَوَالُ الدّنيا أهونُ على الله مِن قتل المسلم))(2)[2]، وفي الحديث: ((لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًًا))(3)[3]. إنّ زعزعةَ أمن الأمّة وإراعةَ الآمنين جريمةٌ نكراء، فيها سفكُ الدم المعصوم بغير حق، فيها ترويع الآمنين، فيها إعانة أعداء الإسلام على المسلمين، وهذا مِن أعظم الضلال والمصيبة أن يسعَى العبد في إذلال أمّتِه من غير أن يفكِّر ويتأمَّل، فكلّ هذا ضلال وفساد، مَن سعى في إذلال الأمّة وإيقاع المصائب بينها فذاك والعياذ بالله ساعٍ في الأرض فسادًا شاء أم أبى، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
فليحذَر المسلم أن يكونَ من أهلِ الإفساد من حيث لا يشعر، وليتدبَّر أمرَه، وليتَّق الله فيما يأتي ويذر، وليفكِّر في أيِّ أمرٍ يريده، وليعرِض ذلك على الكتاب والسنة، ليعلَم الخطأ مِن الصواب، فإنّ مَن كان الهوى يقودُه أضلَّه بغير هدى.
إنّ الله جلّ وعلا رتّب على الفساد عقوبةَ عظيمة، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206]، وقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].
إنّ سببَ الفساد ذنوبُ العباد ومعاصيهم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ [الروم:41]، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
إنّه لا نجاةَ للعباد إلا إذا حارَبوا الفساد، سواء اعتقاديّ فكريّ عمليّ، قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]. إنّ المؤمنَ يفرح للمؤمنين بالطمأنينة والأمن والاستقرار، هكذا يفرح بذلك المؤمن، وغيرُ المؤمن يسوؤه ذلك، امتلأ قلبه حقدًا على أهل الإسلام، وكراهيةً لنعم الله على المسلمين، فسعى في الأرض فسادًا والعياذ بالله، دلَّ ذلك على فسادِ الدين وقلّة الخوف من الله، على التصوُّر الخاطئ الذي يعرِض لكثير من النّاس. إنَّ عدوَّ الله إبليس لا يبالي بالعبد، إن رأى فيه صعودًا إلى الخير ربَّما أغواه حتّى صعد به فغلا غلوًّا أخرجه عن الطريق المستقيم، أو هوى به إلى الحضيض فنأى به عن الخير وأهلِه، وإنّما النجاة في التمسُّك بصراط الله المستقيم، قال جلّ وعلا في كتابه العزيز: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
يا مَن انخدَع بكثير من هذه الآراء الباطِلة أو تصوَّر هذا الباطلَ حقًّا، وقد عرفتَ عِظمَ الجريمة وخطرَها وشرَّها، فبادِر بالتّوبة إلى الله والنّدم على ما مضى والعزيمة أن لا تعودَ إلى هذا الباطل، بادِر بالتوبة إلى الله فالتوبةُ بابُها مفتوح، تخلّص من هذا الفساد بكلِّ أنواعه، وتُب إلى الله من هذه الجريمة، والله يقول: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
إنَّ من تصوَّر حلَّ دماء المسلمين وأنّ دماءهم أمرُها يسير فقد ارتكب أمرًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، و((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة))(4)[4].
فالمسلم يجِب أن يتّقي الله في نفسه، ولا يستعجلَ في أموره، ويتصوَّر كلَّ ما يُدلى إليه، ويزن الأمورَ بالميزان الشرعيّ حتى يسلمَ من دعاة السوء ومروِّجي الباطل والساعين في خداع الأمّة وإذلال الأمّة، ليكن المسلم على حذرٍ مِن هذه الطوائف المختلفةِ والأفكار الهدّامة الآتية للأمة من خارج حدودها، لا يكن مطيةً للأعداء، يسخِّرونه كيف يشاؤون، ويدبِّرون له كيف يريدون، بل ليكن عندَه علم ووعيٌ وحصانة إيمانية، يتصوَّر الباطلَ على حقيقته حتّى يكونَ بعيدًا منه، فمن المصائب التباسُ الحقّ بالباطل، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].
فيا شبابَ الأمّة، اتقوا الله في أنفسكم، وتبصَّروا في واقعكم، واعلموا عظيمَ نعمة الأمن التي تعيشون فيها، فهي نعمةٌ عظيمة سابغة، تفضَّل الله بها عليكم، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه الثبات على الحقّ، وتعوَّذوا بالله من زوال النعم وتحوّل العافية وفجاءة النقم، انظروا واعتبروا حال من فقدوا الأمنَ كيف يعيشون، وكيف حالُهم الآن، تدبَّروا غيْركم لتعرفوا واقعَكم وما أنتم فيه من النعم، فلا يتَّخذكم الأعداء مطايًا لهم ليقضوا بكم أغراضَهم وينفِّذوا على أيديكم مخطّطاتِهم، لتكونوا على حذر في أموركم كلّها، فهذا واجبُ المسلم الذي يتّقي الله، الذي يرجو الله ويخافه، أن يتّقيَ الله في المسلمين، يتّقي الله في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، يستقيم على الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويبذل النصيحةَ بالضوابط الشرعية والأصول المرعية التي لا تخلُّ بتوازنه، أمّا أن يكونَ والعياذ بالله في قلبه حِقد أو غلّ، يرى أنّ دماءَ المسلمين حلال، لا يبالي بذلك، فذاك والعياذ بالله نوع من النفاق والفساد.
إنّ الخوارجَ في عهد أصحابِ محمد لمّا تنكَّبوا عن الطريق المستقيم وأعرضوا عن الصحابة أئمّة العلم والهدى وانخدعوا بأهوائهم وآرائهم وانخدعوا بمن زيَّن لهم الباطلَ استحلّوا دماءَ المسلمين وقاتلوا المسلمين، كل ذلك والعياذ بالله وهم ينتسِبون إلى دين، لكن سوءُ الفهم وقلّة الإدراك وعدمُ الوعي حملهم على ما حملهم عليه، فليحذَر المسلم سلوكَ هذه الطرق الباطلة، وتدبّروا حالَ أممٍ خاضوا في دمائهم، فقتل بعضهم بعضًا، فقدوا الأمنَ، وفقدوا الخير، وصاروا بعدَ الغِنى في فقر، وبعد العزّة في ذلّ
لي وقفاتٌ ثلاث: وقفة مع رجالِ الصّحافة والإعلام، ووقفةٌ أخرى مع شبابِنا المسلم، ووقفة أخرى مع الدعاةِ ورجال التربيّة والتّعليم. كلّ هذه الوقفات إنّما يُراد بها الإصلاحُ والدّعوة إلى الخير بما يحقِّق للأمَة صلاحَها واستقامتَها.
أولاً: فيا شباب الإسلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في دينكم وأمّتكم.
أيّها الشابّ المسلم، ربّما عرضَت لك شبهة، أو زيّن لك أحدٌ أمرًا وحسّن لك رأيًا، فيا أخي الشابّ المسلم اتّق الله، وإيّاك أن تقبَل كلَّ ما أدلِي إليك، وإيّاك أن تغترَّ بمن تظنّه ناصحًا والله يشهد إنّهم لكاذبون. اتّصِل بعلمائك وعلماءِ أمّتك لتجدَ عندَهم كشفًا لشبهتك، وإزالةَ للبس العارض لك. إن يكن عندك شبهةٌ أو اضطراب في أمر فإيّاك أن تقبلَ من أناسٍ لا ثقة في دينهم، ولا ثقةَ في علمهم وتصوّرهم. اتَّق الله في ذلك، فاعرِض كلّ الشبَه على علماء أمّتك، فإنّ علماءَ أمّتك هم حريصون على تبيين الحقّ وكشفِ كلّ لبس حصل عندك حتى تكونَ في أمورك على المنهج القويم. ولا تنخدعْ بنفسك، ولا تسئ الظنَّ بعلماء أمّتك، ولا تقل كما يقول المتطاولون والكاذبون: أولئك كذا وأولئك كذا. لا، اتّق الله، وأتِ الأمورَ من أبوابها، وسترى عند أهل العلم من رحابةِ الصدر وسعةِ الأفق وحسن التعامل ما ـ إن شاء الله ـ يزيل عنك كلَّ الشبَه التي يمكِن أن يكونَ غرَّك بها مَن غرّك وخدَعك بها مَن خدَعك حتّى ظننتَ أنّ الأخطاءَ والفساد حقّ وصلاح، ظننتَها لقصور علمك ومعرفتك، فأتِ علماءَ الأمّة، واسألهم عمّا أشكل عليك، واعرض عليهم الشبهَ التي عرضَت لك حتّى يكونَ أمرك واضحًا، فيوضحون لك الحقّ، ويبيِّنون لك الباطل، ويزيلون عنك كلَّ لبس عرض عليك، حتى تكونَ في أمورك على منهج قويم وصراط مستقيم، أمّا أن تغترَّ بما يقال، تسمَع من هذه الاتصالات أمورًا يقولونها ونشراتٍ ينشرها من لا يدرَى عنه، وإنّما يريد غشَّ الأمّة والكذبَ وترويجَ الباطل، فهذا أمر لا يجوز أن تعتمدَ عليه، ولا أن تثقَ به، وإنّما ائتِ علماءَ أمّتك، واسألهم عمّا أشكلَ عليك، واعرِض لهم كلَّ الشبَه التي عرضَت لك، لترى كشفَها وإزالتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه إن شاء الله.
رجالَ الصحافة والإعلام، اتّقوا الله في أنفسكم، واتّقوا الله في أمّتكم، إنّه وللأسف الشديد نقرأ كثيرًا مِن المقالات التي تنشر في الصحف، يريدون بها حلَّ مشكلة ولكن للأسف الشديد أن حلَّهم زاد الأمرَ شرًّا وسوءا، يريدون حلَّ المشكلة ولكن ما كتبوه زاد المشكلةَ إشكالاً زائدًا. بعضهم يحمل هذه الفتنَ والمصائب وينسِبها إلى مذاهب السلف الصالح، وربّما طعنوا في أئمة الدعوة السلفيّة الصالحة، وقالوا: إنّها كتُب ودعوات تدعو إلى الإرهاب وتكفير المسلمين، ويبرأ إلى الله علماءُ الأمّة من ذلك، فأئمّة الدّعوة السلفيّة سائرون على المنهج القويم، لا يكفّرون الناس، ولا ينشرون الباطلَ، وإنّما يطبّقون النصوصَ الشرعيّة على حسب ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، فليس في علماء الدّعوة السلفيّة من يحكم على الناس بالكفر، وليس فيهم من يبدّع الناس ويضلّل الناس، إنما هم في حكمهم على الآخرين على وفق ما دلّ الكتاب والسنّة عليه، يوضحون الحقّ ويبيّنونه، ومَن خالف الحقّ بعدما استبان له الأمر وخالف أصولَ الشريعة حكموا عليه بما حكم الله عليه ورسوله، فأعداءُ هذه الدعوة السلفيّة نسَبوا إليها تكفيرَ العموم، ونسَبوا إليها ما نسبوا إليها، ولهذا لمّا عُرض على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مقالاتُ أعدائه الذين قالوا: إنّ الشيخ يقول: النّاس كلّهم كفار، والنّاس كلّهم ضلاّل، قال تحتها: سبحانك هذا بهتان عظيم. ما كانوا يكفِّرون النّاس، وما كانوا يحكمون إلا بأحكام الشريعة الواضحة المنهج.
فيا أيّها الكتَّاب، اتّقوا الله في أنفسكم، وعالجوا مشاكلَ المجتمع على ضوء الكتاب والسنة. إياكم أن يزلّ اللسان بما قد يوقع الإنسانَ في المهلكة، ((إنّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه))(5)[1].
أيّها الدعاة إلى الإسلام، أيّها العلماء والمربّون، اتّقوا الله في أنفسكم، واجعَلوا من منهَج تدريسكم تبصيرَ شبابنا وتوعية شبابِنا، إن شعرتم بشيء مما يخالف الشرع فناقشوهم وحاوروهم، وكونوا معهم حتّى تزيلوا ما علق بالنفوس من شبَه، تزيلوها بالحقّ الواضح والمنهج القويم، فلا غلوَّ ولا إفراط، لا تطرّف ولا إفراط، وإنّما عالِجوا القضايا بحكمة، واحتووا هذا الشبابَ وبصِّروهم وبيِّنوا لهم الأخطاء، وقِفوهم على الحقيقة، وعالِجوا الأمرَ بحكمة فإنّ هذا الشبابَ إذا لم يحتوِه العلماءُ والمربّون ويأخذوا على أيديهم ويرسموا لهم المنهجَ القويم فإنّ هذا الشبابَ أمانة في الأعناق لا بدّ من احتوائهم، ولا بدّ من التلطّف معهم، ولا بدّ أن نزيلَ عنهم كلَّ ما علق بأذهانهم مِن دعاة الإفراط والغلو، من دعاة الفساد والضّلال، ممّن يريدون بالأمّة الشرّ والبلاء، عصم الله الجميع من كلّ سوء.
ويا أيّها الآباء الكرام، اتّقوا الله في أبنائِكم، اتّقوا الله فيهم واعتَنوا بتربيتِهم، واسألوهم عن كلّ ما عِندهم، وإذا شمَمتم من أحد شيئًا ممّا يخالف الشرع فاحرصوا على التحاقهم بأحد العلماء وذوي الرأي السديد، ليكشفوا عنهم هذا الباطل، ويبيّنوا لهم الحقّ، ويهدوهم إلى صراط الله المستقيم.
إنَّ تعاونَ المجتمع على البرّ والتقوى أمر مطلوب، وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]. إنّ من يعين المفسدين أو يؤويهم أو يتستّر عليهم أو يرضى بأفعالهم فهو شريك لهم في الإثم، وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. فاحذر ـ أيها المسلم ـ أن تعينَ مفسدًا، واحذَر أن تؤويَ مفسدًا، واحذر أن ترضى بعمل المفسدين، فإنك إن رضيتَ بعمله فأنت شريك له في الإثم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لعن الله من آوى محدِثًا))(6)[2]، فإيواؤه التستّر عليه، وإيواؤه عدمُ الكشف عنه، وإيواؤه الرضا بأفعاله وأقواله وتصرّفاتِه. ليكن المسلم على حذَر أن يعينَ على باطل أو ينصرَ باطلا، بل يكون مع الحقّ ينصر الحقَّ ويدعو إليه.
أسأل الله أن يجمعَ القلوبَ على طاعتِه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبّت مطيعَهم، وأن يرزقَ الجميعَ الاستقامة على دين الله والتمسّكَ بوحيه الكريم، إنّه على كل شيء قدير.
أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد، كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي في المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصحّ من رفعه، وكذا رجّح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
(3) أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
(4) أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5) أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
(6) جزء من حديث أخرجه مسلم في الأضاحي (1978) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(1/2780)