الأحد، 5 أبريل 2015

المنافقين هذه الفئة الخبيثة التي امتلأت قلوبهم غيظًا وحِقدًا على الإسلام وأهله

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 يقول الله عز وجل مخبرًا عن نبيِّه وخليله إبراهيم لمّا أنهى بناءَ البيت دعا لأهله فقال: رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ ءامِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35].

 إنَّ قصصَ الأنبياء في القرآن جاءت للعِظة والاعتبار، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ الآية [يوسف:111].

 خليلُ الله إبراهيم قال: رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ ءامِنًا ثم قال: وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام، فبدأ عليه السلام بسؤال الله الأمنَ لبيته الحرام؛ لأنَّ هذا الأمنَ إذا تحقَّق للمسلم عبَدَ الله على بصيرة، فعبادتُه لله وقيامه بحقِّ الله يتحقَّق له بتوفيقٍ من الله إذا حصلَ له الأمنُ والاستقرار.

بالأمن تُحفَظ الأعراض والأموال وتُحقَن الدماء. بالأمن تستقيم مصالحُ العباد في أمور دينهم ودنياهم. وهذه النّعمة لا يعرِف قدرَها إلا مَن فقدَها والعياذ بالله، ولا يقدِّر لها حقَّ قدرها إلا من عاش في ظلِّها، فيعرف لهذه النعمةِ مكانتَها. ولهذا امتنَّ الله على قريش بقوله: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]، فلمّا آمنهم الله من المخاوف وأطعمَهم من الجوع أمرهم بعبادته؛ [ليحقِّقوا] شكرَ الله على نعمته بعبادته وحده لا شريك له الذي أطعمَهم من الجوع وأمَّنهم من الخوف. وذكَّرهم تلك النعمةَ وأنه جعل بيتَه الحرام آمنا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].

 إنَّ نعمة الأمن نعمةٌ عظيمة وفضل كبير من الله على العباد، ولكنّ هذه النعمةَ إنما تتحقَّق للعباد بالقيام بحقِّ الله جل وعلا، بتوحيده وعبادته وإخلاص الدين له، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]. فإذا حقَّق العباد عبادةَ الله وقاموا بها خيرَ قيام أمَّنَهم الله من المخاوف، وحقَّق لهم الأمنَ في الدنيا والأمن يوم لقائه.

ومِن أسباب الأمن تنفيذُ أوامر الإسلام والقيام بفرائض الإسلام والبُعد عمَّا نهى الله عنه، فمن حافظ على فرائض الإسلام وانتهى عمَّا حرّم الله عليه تحقَّق له الأمن في الدنيا والآخرة.

 ومِن أسباب الأمن البُعد عن مظالم العباد صغيرها وكبيرها، قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فلهم الأمن المطلق في الدنيا والآخرة، لهم الأمن في الدنيا، ولهم الأمنُ يوم لقاء الله، وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ [النمل:89]. فإذا عدَل العباد فيما بينهم وارتفعت عنهم مظالم العباد ولم يظلم بعضهم بعضًا واحترم البعض البعضَ في الدّم والمال والعرض ساد الناسَ أمنٌ وطمأنينة؛ لأنّ الظلمَ ـ والعياذ بالله ـ بالتعدّي على النّاس، بنهب أموالهم، سفكِ دمائهم، انتهاك أعراضِهم، يجعلهم جميعًا في خوف ورُعب، والإيمانُ الحقيقيّ يدعو المسلم إلى احترام الدماء والأموال والأعراض، فإذا احتُرِمت هذه الأمور ساد الناسَ الأمنُ والطمأنينة وعرف كلٌّ الحقَّ الذي له والذي عليه؛ ولهذا في الحديث في وصف المؤمن: ((المؤمنُ من أمِنه الناسُ على دمائهم وأموالهم))(1)[1].

 إنّ من أسباب أمن المجتمع الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، فالأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمانِ للأمّة، وسببٌ لاطمئنان النفوس واستقرارها، وسببٌ لعلوِّ الخير وظهوره، وسببٌ للبعد عن الشرّ والترفّع عن الرذائل. الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر خلُق محمّد وسائر الأنبياء والمرسلين، يقول الله عن نبيه : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]، فمحمّد خير الخلق أمرًا بالمعروف، وخيرُ الخَلق نهيًا عن المنكر، أسبقُ الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أمتهُ جعلها الله خيرَ الأمم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فالأمّة لا تكون خيرَ الأمم ولا أفضل الأمم إلا إذا قامت بهذا الخُلُق العظيم، فأمرَت بالمعروف الذي يحبّه الله ويرضاه، ونهت عن المنكر الذي يبغضُه الله ويكرهه. وربُّنا جلّ وعلا جعل هذا الخلَقَ العظيم لِصفوة الخلق، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فأمر الله الأمّة أن تُهيِّئ لهذا الأمر العظيم من يقوم بهذه المهمّةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ أولئك موصوفون بأنهم المفلحون: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

وجعل الله الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41]. ولعن الله من بني إسرائيل الذين عطَّلوا هذا الجانبَ العظيم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]. وجعله الله خُلقًا للمؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]. ونبيّنا يقول لمّا قرأ هذه الآية: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ قال: ((كلا والله، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخُذنَّ على يد السفيه، ولتأطرُنّه على الحق أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوبَ بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم))(2)[2].

 هذا الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مسؤوليةُ كلِّ فرد منّا على قدر استطاعته، ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّرهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))(3)[3].

تعطيلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ يمنِع إجابةَ الدعاء، يقول : ((مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن تدعُوا فلا يُستجاب لكم، وتستغفرون فلا يغفَر لكم))(4)[4].

 إنّ هذا الأمرَ العظيم الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر خُلُق أهل الإيمان والإسلام، فالذي يكره هذا الأمرَ ويُبغض الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر ويكون في صدره حرجٌ من هذا الجانب أو يعُدُّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كَبتًا لحريّات الناس وظلمًا لهم وسلبًا لحريّاتهم وخصوصيّاتهم ويرى أنّ تعطيل هذا الأمر هو إعطاءُ النفوس حُرّياتِها لتعمل ما تشاء لا شكَّ أنّ هذا تصوُّر خاطئ، ودليل على عمَى البصيرة، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر:8].

هذا الأمر العظيمُ واجبُ المسلم أن يعظِّم جانبَه، وأن يقفَ بجانبه؛ لأنَّ هذا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ للناس أعراضَهم، ويحفظ دماءهم وأموالهم. إنّه هيبة للأمّة، ودليل على قوّتها وتمسّكها بدينها. فهذا المرفق العظيم لا يرتاب في أهمّيته ولا يرتاب في عظيم شأنه إلا مَن في قلبه مرضُ النفاق والعياذ بالله، ممَّن يحبّ المنكرَ ويألفه، ويحارب الحقَّ ويكرهه، في الحديث يقول : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا سفينة، فكان بعضُهم أسفَلها وبعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا صعدوا إلى من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا، فأخذنا الماءَ ولم نؤذ من فوقنا))، فقال رسول الله : ((فإن تركوهم وما أرادوا غرقوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجوا جميعًا))(5)[5].

فشوُّ المنكرات وكثرتُها يهدِّد بعقاب الله، لمَّا قال النبي : ((فُتح اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وهكذا))، قيل: أفنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبَث))(6)[6]. فالأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بضوابطه الشرعيّة والطرق الحكيمة التي أرشد إليها الشارع ليكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على عِلم بما يأمر به وعلى عِلم بما ينهى عنه، يسلك كلَّ طريق يوصل إلى الحقّ، ويبتعد عن كلّ طريق ينفِّر عن الحقّ، ويكون هذا الآمر والناهي على عِلم وبصيرةٍ من أمره، متخلِّقًا بالخلق القويم، ممتَثِّلاً ما يأمر به قبلَ أن يأمرَ به، بعيدًا عمّا ينهى عنه قبل أن ينهى عنه، قائمًا بذلك خيرَ قيام، قصدُه الرحمة بالخلق والشفقةُ عليهم والإحسان إليهم وإنقاذهم من معاصي الله، فذاك الخلق العظيم، وهذا سبيلُ المرسَلين، دعوةٌ إلى الله وحثٌّ على الخير ونصيحة للأمة، ولكنَّ المصيبةَ من يرتاب في هذا الجانب، أو يعدُّ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر أمرًا قد انتهى دورُه، ولا ينبغي أن يكونَ له وجود بين الأمّة، فتراه يسخَر بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويستهزئ بهم، ويبحث عسى أن يرى سلبًا أو عيبًا فيهم، ولو كان هذا العائبُ فيه من العيوب أضعاف أضعاف ذلك، لكن يتغاضى عن عيوبه، ويلصِق التُهمَ والعيوب بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

ليس أحدٌ من الخلق معصومًا من الخطأ، ولكن المصيبةَ الإصرار على الخطأ بعد العلم به، أمّا الآمر بالمعروف الذي سلك في أمره ونهيه الطرقَ الشرعيّة فهو على خير وحماية للأمة وتأمين لها ودفاعِ عنها، فإن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر متى ما استقامت حالهم، ومتى كان عندهم من العلم والبصيرة الأمرُ بالمطلوب فإنّهم حمايةٌ لمصالح الأمّة، ودفاع عنها، وردّ لكيد الكائدين ومن أُشربَت نفوسُهم حبَّ الشرّ والفساد.




 يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].

يخبرنا ربُّنا تعالى عن أقوال المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثةِ الذين يتربّصون بالمسلمين الدوائر، يخبرنا عن هذه الفئة الخبيثة التي امتلأت قلوبهم غيظًا وحِقدًا على الإسلام وأهله، لمَّا رأوا أصحابَ رسول الله وقلّةَ عددهم وضعفَ إمكانيّاتهم ومع هذا فهم أنصارٌ لدين الله، مجاهدون في سبيل الله، باذلون كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن الدين والقيَم والفضائل، لمّا رأوا تفانيهم في دينهم وجهادهم وجلادهم لعدوِّ الله وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، قالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، يقولون: هؤلاء خدعهم الدين، هؤلاء اغترّوا بهذا الدين، هؤلاء صدَّقوا بالجنة والنار، هؤلاء فقرُ الدنيا عندهم دليلٌ على غفلتِهم، دليلٌ على انخداعهم، وأن كلاً يؤثِّر عليهم، وكلاً يستعملهم فيما يهوَى، فبلسان حالهم يقولون: هؤلاء اغترّوا بالدين، انخدعوا بأنّ هناك جنّة ونارًا، وأنّ هناك جزاءً وحسابًا، وأن وأن... وإلى آخره. لماذا؟ لأنّهم رأوا قومًا جاهدوا في الله حقَّ جهاده، رأوا قومًا امتلأت قلوبهم بهذا الدين، بمحبة الله ورسوله والجهادِ في سبيله.

 يقول بعضُ السلف: من أسرَّ سريرةً ألبسه الله ردَاءها علانية، إنْ خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا، والله من وراء قلب كلِّ قائل ولسانه.

 كم نسمع في هذه الأيام، وكم نقرأ ما يُنشر مِن سخريّة بالإسلام وأهله، واستهزاء بأهل الدين، وسخريّة بهم، وحطٍّ من قدرهم، لمّا رأوا تسلُّط الأعداء على المسلمين وحرصَهم على إضعاف كيان الأمة نسبُوا كلَّ العيب والخطأ إلى من انتسب للإسلام، فترى أولئك تنطِق ألسنتهم وتخطُّ أقلامهم أمورًا خطيرة، يصوِّرون أهلَ الإسلام بأنّهم الإرهابيّون، وبأنّ كلَّ مَن وفَّر لحيتَه دليل على خُبث قلبه، وأنّ كلَّ من صلّى وصام ودعا إلى الإسلام دليلٌ على تأخّره ورجعيّته، وأنّ كلَّ من كتب كتابةً يناضل عن الإسلام وقيَمه وفضائله وصفُوه بما يصفونه به من صفاتِ الذمّ والنقص، تشابهت قلوبهم مع سلفهم من المنافقين، واتّفقت كلمتهم مع سلفِهم من أعداء الدين.

 اتَّق الله في نفسك، اتَّق الله أن تزلّ قدمك بأمرٍ تندم عليه ولا ينفعك الندم. اعلم أنّ الله سائلك عمَّا تفوّه به لسانك، وعمّا خطّته يداك، فاتَّق الله، تأمَّل قولَه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وتأمّل قوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].

بعضٌ من هؤلاء هاجَموا علماءَ الإسلام السّابقين، وطعنوا في علماء الأمّة وقادة العلم والخير والفضل، لماذا طعنوا فيهم؟ لأنّ منهجَهم الذي هم عليه والذي تسير الأمّة عليه منهج إسلاميّ صحيح، وهم لا يرضَون بذلك. الواحدُ منهم يصوِّر المتمسِّك بالسنّة أنّه رجلُ القتل وسفك الدماء، ويصوِّر المتمسّك بالسنّة أنّه عدوٌّ للأمة، وأنّه مفسِد في الأرض، ويأبى الله ذلك.

إنّ الإيمان الصحيحَ الصادق يدعو أهلَه إلى التمسُّك بالدين والمحافظة عليه. إنّ المتمسّكَ بهذا الدين يعلم حقًا أنّ سفك الدماء المعصومة وتدمير الأموال وانتهاك الأعراض أمرٌ مرفوض، يرفضه لا لهوًى ولا لدنيا، ولكن شرعٌ آمن به واقتنع به، هو آمن بالله وآمن برسوله، فهو يدافع عن دينه عن عقيدة، لا عن هوى ولا عن دنيا يريدها. فأولئك الذين سلَّطوا أقلامَهم على الإسلام وتعاليمه وعلى مبادئه ونُظُمه وعلى أخلاقه وفضائله قومٌ ما بَين جاهلٍ مركّب لا يدري ما يقول ويهذي بما لا يدري، أو بين منافق لا إيمانَ له، فليتَّق المسلمون ربَّهم، وليتوبوا إلى ربّهم. قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال النبي : ((قال الله: من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلان، قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملك))(7)[1]، قال أبو هريرة: تكلّم تكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرته(8)[2]. في عهد النبي جماعة من المنافقين قالوا في النبيّ وأصحابه: ما رأينا مثلَ قرّائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، أكذبنا ألسنةً، أجبننا عند اللقاء، فأنزل الله: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66](9)[3].

 قد تعيب إنسانًا في تصرّفه، لكن يجب أن تفرّق بين الشّخص وبين دينه، فإذا عِبتَ شخصًا ما وإن كان العيبُ محرّما بلا شكّ، لكن لا يجوز أن تتعدّى فتنسب العيبَ إلى الإسلام وأهلِه، والنبيّ قال في الغيبة: ((ذكرك أخاك بما يكره))(10)[4]، لكن المصيبة أن يعيبَ الإنسانَ لدينه، لتمسّكه بإسلامه، لمحافظته على سنة نبيّه ، فليحذَر المسلمون هذا، وليتَّق الكتّاب ربَّهم، وليراقبوه فيما بينه وبينهم، فإنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله وتصوّر الأمورَ على حقيقتها دعاه ذلك إلى التوقّف، وفي الحديث: ((وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتِهم؟!))(11)[5]، وفي الحديث أيضًا: ((إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخطِ الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت يكتب الله له بها سخطَه إلى يوم يلقاه))(12)[6].

الذين ينادون بتهميش جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهؤلاء [يقصدون] خيرًا؟! هؤلاء مفسدون. الذين يطالبون الأمّة بأن تتراجع عن دينها وأن تربّي أبناءها على غير منهج الله، أهؤلاء هم [المصلحون]؟! إنّ فيهم نفاقًا وشرًّا. وهذه الأمّة ولله الحمد لن تزال باقية معظِّمة لهذا الجانب العظيم جانبِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجانب التمسّك بهذه الشريعة.


اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...

__________

(1) جزء من حديث أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وحححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).

(2) أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).

(3) أخرجه مسلم في الإيمان (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (1367)، وأبو نعيم في الحلية (8/287) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعزاه المنذري في الترغيب (3/162) للأصبهاني وأشار إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (7/266): "فيه من لم أعرفهم"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2092). وجاء نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أحمد (6/159)، والبخاري في التاريخ الكبير (2092)، وابن ماجه في الفتن (4004)، والطبراني في الأوسط (6665)، والبيهقي في الكبرى (10/93)، وصححه ابن حبان (290)، وهو عندهم جميعا حديث قدسي إلا ابن ماجه، قال الهيثمي في المجمع (7/266): "رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم بن عمر أحد المجاهيل"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (2325): "حسن لغيره".

(5) أخرجه البخاري في الشركة (2493) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(6) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم في الفتن (2880) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها.

(7) أخرجه مسلم في الأدب (2621) من حديث جندب رضي الله عنه.

(8) كلام أبي هريرة هذا قاله بعد حديث آخر أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689) عن أبي هريرة وفيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.

(9) أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى.

(10) أخرجه مسلم في البر (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(11) أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2110)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1122).

(12) أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).

(1/2787)


0 التعليقات:

إرسال تعليق