الخميس، 30 أبريل 2015

حكم الله تبارك وتعالى في الابتلاء عظيمة وكثيرة

 

 

حكم الله تبارك وتعالى في الابتلاء عظيمة وكثيرة

-----------------------

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

واعلموا أن الله تبارك وتعالى يبتلي عباده امتحانًا واختبارًا ليرى الشاكر منهم ومن يكون منهم كفارًا.

وعليه فإن الله إذا ابتلى عبده بأنواع البلايا والمحن أو بشيء منها فإن ردّ ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه، وجمع عليه قلبه وطرحه على بابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير له. والشدة بتراء لا دوام لها، وإن طالت فتقطع عنه حين تقلع، وقد عُوض منها أجل عوض وأنفعه، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردًا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحه على بابه بعد أن كان نائياً معرضًا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضًا، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة وإن ساءته، وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب. وقول الله تعالى في ذلك في سورة البقرة هو الشفاء والعصمة حيث يقول الله تبارك وتعالى:

وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

وإن ردَّ ذلك البلاء إلى خلقه، وشرد قلبه عنه، وطغى ونسي ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه، فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به، فإذا أقلع عنه البلاء ردّه إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه في السراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء.

فبلية هذا وباء عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل.

فإذا ابتلى الله تبارك وتعالى عبده بمنحة فإنما يبتليه بها ليرى هل يكون من الشاكرين، وإذا ابتلاه بمحنة فإنما يبتليه بها ليرى هل هو من الصابرين، والسعيد الذي أريد به الخير يشكر في السراء، ويصبر في الضراء.

ومن أمثلة الذين ابتلاهم الله تعالى بالمنح والنعم فشكروا وعرفوا الفضل لصاحبه، والنعمة لوليها وأهلها والمبتدئ بها من أمثلتهم، نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلى أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة وأزكى التسليم. نبي الله سليمان آتاه الله ملكًا عظيمًا لما دعى ربه كما جاء في سورة "ص": قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص:35].

فكيف أجابه الله تبارك وتعالى؟ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ [ص:36-40]. له سوى ذلك وله على ذلك: عندنا زلفى: هو مقرب إلينا، وحسن مآب، عدا ما ملكناه وأعطيناه في الدنيا، ومع ذلك يقول سليمان عليه السلام في سورة النمل لما حُشر له جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، وقالت النملة ادخلوا مساكنكم وسمعها وتبسم ضاحكًا من قولها لأنها قالت: ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [النمل:18]. قال: وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النمل:19]. رب ألهمني أن أشكر نعمتك، وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

انظروا، انظروا إلى هذا النبي الكريم الذي ما أطغاه ملكه ولا أنساه ربه مع أنه أوتي من الكل ما لم يؤتاه أحد ولن يؤتاه أحد لأنه قال: لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص:35].

هكذا ولما طلب من جنوده أن يأتوا بعرش ملكة سبأ، وشاورهم من الذي يستطيع أن يأتي بهذا العرش أسرع من غيره، استمع إلى قائل من عنده يقول: أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ [النمل:40]. ماذا قال؟ هل قال: هذا مُلكي؟ هذا صولجاني؟ هذه عدتي؟ هؤلاء جنودي أقوياء أقوى من غيرهم. لا. وحاشاه أن يقول ذلك. إنما قال: هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]. ليس هذا فحسب بل عقب فقال: وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]. ما ينال الله من شكره زيادة في ملكه ولا نفع، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]. هكذا فليكن الشكر، هكذا فلتكن المعرفة بالله، المنعم المتفضل، وهكذا فليكن الثناء والحمد والشكر لله وحده.

فهلاَّ عرف ذلك أصحاب الأموال والجاه والمناصب وعادوا إلى الله تبارك وتعالى بالشكر على ما أولاهم، وانتبهوا إلى ما به ابتلاهم، فلم يطغوا بالأموال، ولم يستبدوا بالمناصب، ولم يسرفوا، ولم يبددوا هنا وهناك، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، ويتمنون عندما يرون البهائم تصير يوم القيامة ترابًا يقولون: "يا ليتنا كنا ترابًا".

ويقول الله تبارك وتعالى لواحد من المخلدين في نار جهنم: ((أرأيت لو كان لك ملئ الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به)) فيقول: ((قد سُئلت ما هو أيسر من ذلك. أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا أن تشرك بي))(1)[1].

هلا انتبه أصحاب الجاه والمناصب إلى الفارق الهائل بين مكانة سليمان عليه السلام في الدنيا والآخرة، وبين الطغاة الذين أعرضوا عن الله تبارك وتعالى وفيهم قوله عز وجل في المبتلين بالمنح والمحن في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]. معرض عند الخير يئوس عن الشر.

وقال في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]. يئوس كفور إذا نُزعت النعمة، فرح فخور إذا عادت وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيّئَاتُ عَنّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10].

هذه طبيعة أكثر الناس وأقلهم من يكبح جماع نفسه ويشكر ربه في السراء، ويصبر في الضراء.

ومن أمثلة المبتلين بالوقوع في المعاصي والمبتلين بالأمراض الذين لم ييأسوا ولم يقنطوا من رحمة الله. بل عادوا إليه صاغرين متذللين من أمثلتهم آدم عليه السلام أولهم.

لما ابتلى بالأكل من الشجرة رجع إلى ربه تائبًا نادمًا مشفقًا، قال هو وزوجه: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. فتاب الله عليه، وأخبر أن الله تعالى تاب عليه كما في سورة البقرة:

فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]. ألهمه أن يقول تلك الكلمات. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]. فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37]. الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، ولا يتعاظمه ذنب، يقبل التوابين ويعفو عن سيئاتهم.

ثم كذلك نوح عليه السلام في سورة هود: قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ [هود:47]. فأُجيب: قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ [هود:48].

وإبراهيم عليه السلام قال الله عنه في سورة الشعراء: الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ [الشعراء:78-82]. فقال الله تبارك وتعالى عنه: إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لاّنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل:120-122]. فكيف سيكون حاله في الآخرة وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل:122].

ليس هذا فحسب بل أمُر نبيا محمد أن يتبع ملته قال له ربه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:132].

وموسى عليه السلام لما اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه وأخذتهم الرجفة، قال: رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ [الأعراف:155] كما في سورة الأعراف، وكان ذلك بعد أن عبد قومه العجل، وعاد فحطم العجل، وألقاه في البحر حطامًا، ثم اختار سبعين رجلاً لميقات ربه، ذهب بهم فأخذتهم الرجفة قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ [الأعراف:155]. امتحانك واختبارك، وليس معنى الفتنة هنا الفعل المسيء بل الامتحان والاختبار. كما قال الله تعالى في سورة العنكبوت: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. لا يمتحنون ولا يختبرون، هل ظنوا أن نتركهم من غير أن نمحصهم فنعرف الذين ليس لهم من الإسلام إلى القول، ليس لهم حظ إلى القول، فإذا ما ابتلوا لم تصدق أعمالهم أقوالهم وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].

إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:155-156].

ولما قتل موسى عليه السلام القبطي الذي تنازع مع الإسرائيلي قال: قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16].

وأيوب عليه السلام الذي دعا ربه ورفع أكف الضراعة لربه وانطرح ببابه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فكيف كانت الإجابة فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]. رحمة بأيوب وذكرى للعابدين ليعرفوا أن عليهم إذا ما ابتلوا بالأمراض والأسقام أن يلجأوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكشفوا ببابه عن ذل وضراعة ودعاء، فإنّ الله تبارك وتعالى سميع عليم يجيب دعوة الداع إلى دعاه ولهذا قال: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى الالْبَابِ [يوسف:111]. ليس قصصًا للتسلي والحكاية إنما فيه عبرة لمن؟ لأصحاب العقول لأولي الألباب.

وذو النون يونس عليه السلام، لما ابتلاه الله بالتقام الحوت له فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. اعترف بالألهية لله وحده، ونزهه عن العيب وأضاف الظلم إلى نفسه قال: إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.

أجيب: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]. وكذلك ننجي كل مؤمن اغتم أو أهمه أمر كذلك ننجيه إذا قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

وهذا ما تضمنه دعاء سيد الاستغفار الذي علمناه رسول الله كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه: ((اللهم أنت ربي لا إله أنت أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))(2)[2].

ففي أول هذا الدعاء اعتراف بالربوبية المتضمن لانفراد الله وحده، بهذا الخلق سبحانه وبعموم المشيئة ونفوذها واعتراف بالإلهية ويتضمن عبادته وحده لا شريك له، ويتضمن الاعتراف بالعبودية والتبرأ من كل وجه إليه سبحانه تبارك وتعالى، ((وأنا على عهدك ووعدك)) يتضمن التزام شرعه ودينه ووعدك مصدق بالموعود بالجزاء من الثواب ففيهما الإيمان والاحتساب، يؤمن ويحتسب عند الله ثواب إيمانه، ولما علم الله تعالى أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه أن يكون على عهده ووعده قال (ما استطعت) أي على حسب الاستطاعة والقدرة ((أعوذ بك من شر ما صنعت)) يشهد لله بقوته وقدرته على أن يحميه من شر نفسه ومن عدوه، ويعترف بالذنب والتقصير، ثم ينسب النعم كلها إلى وليها ومولاها إلى الله تعالى فيقول:

((أبوء لك بنعمتك علي)) ويعترف بذنبه فيقول: ((وأبوء بذنبي))، فكأنه يقول: أنت المحمود المشكور لك الحمد كله، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا العبد المسيء المذنب المعترف بتقصيره، وذنبه المقر بخطئه ((أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي)) ولما قام بقلبه وتوسل بهذه الوسائل قال: ((فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).

اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا.

ولله تبارك وتعالى في الابتلاء حكم عظيمة وكثيرة منها:

أنه يحب أن يرى من يتوب من عباده ومن يقنط من رحمة الله، ولهذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام لما بشروه بالغلام وقال لهم: أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر:54-56].

يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين من عباده إذا ما ابتلوا بمرض أو بالوقوع في ذنب.

ولهذا قال الله تعالى في سورة الأنعام: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:42-43].

لم يتضرعوا إلى الله، لم يسألوه تعالى أن يتوب عليهم بل قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:42].

يحب الله تبارك وتعالى أن يرى التوابين.

ومن حكمة الابتلاء أنه سبحانه يريد أن يعرف عبده عدة قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه، يحب أن يعرف العبد ذلك وأن قضاء الله تعالى وقدره سار عليه نافذ، ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف العبد أن الله هو الذي يحفظه ويصونه وهو محتاج إليه، فإذا تخلى عنه تناوشته الشياطين، ومدت يديها إليه، وتناوشته ومزقته كل ممزق، فحاجته إلى ربه عظيمة، ويحب الله تبارك وتعالى أن يستعين به عبده في أن يعيذه من شر نفسه، ومن عدوه.

ويحب ربنا تبارك وتعالى ألا يشمخ العبد بنفسه عندما يشهد في نفسه صلاحًا واستقامة، فإذا ما وقع في الذنب عرف أنه مسيء ومذنب ومخطئ فلم يشمخ بنفسه، وعرف أنه لما كان طائعًا كان ذلك بتوفيق الله عز وجل فلما حجب الله عنه توفيقه غلبته نفسه، وانكب على المعاصي والذنوب فهذه حكمة أخرى من حكم الابتلاء.

ويحب الله عز وجل أن يرى عباده سعة حلمه وكرمه، وأنه يعفو عنهم ويتقبلهم إذا ما رجعوا وتابوا ولن يعرفوا ذلك إلا من خلال موافقة الذنوب، فإذا شهدوا التقصير في أنفسهم علموا أن الله لن يعفوا عنهم إلا لأنه واسع الحلم كريم.

ويحب الله تبارك وتعالى أن يعرف عباده أن لا طريق إلى النجاة إلا بعفو الله ومغفرته، ليس بالعمل لأن الله تبارك وتعالى عندما يذنب العبد ويُبتلى بالوقوع في المعاصي يحب أن يريه أنه إذا عذبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل باليسير من هذا الحق، وأنه إن أنجاه فبعفوه ومغفرته كما تعرفون من الحديث: ((لن يدخل الجنة أحدكم بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))(3)[1].

كذلك إن العبد إذا تربى في العافية لم يعرف ما يقاسيه المبتلون إذا عافاه الله من الأمراض والأسقام والوقوع في المعاصي والذنوب لم يعرف ما يقاسيه غيره من المرضى ومن الذين يقعون في الذنوب بسبب غلبة أنفسهم لهم فإذا ابتلي حينئذ عرف قيمة العافية وعرف مقدارها.

ثم إن من حكمة الله تبارك وتعالى أنه يريد أن يتعامل العبد مع إساءات الناس إليه ونزلاتهم معه بالعفو والصفح والمغفرة، فيتعامل مع ذنوبهم معه كما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فكما يحب أن يصنع الله بذنوبه، فليتعامل مع إساءات الناس إذا اعتذروا وإذا تأسفوا وندموا، فليقل عثراتهم وليقل معاذيرهم وليتقبل منهم، مع إقامته لأمر الله فيهم.

إن رأى الله فيهم أمرًا قام به رحمة لهم لا قسوة ولا فظاظة عليهم.

وكذلك إذا شهد العبد تقصيره وخطأه وذنبه، علم أنه ليس له عند الناس حقوق في الإكرام يتقاضاهم إياها، ويذمهم على ترك القيام بها، لأنه ما دام مذنبًا مخطئًا مسيئًا فليست له الأشرفية والأفضلية على أحد، فلماذا يشكو من الناس ويحاسبهم ويقول: لقيني فلان فلم يبش في وجهي، ولقيني وأنا أمام بيته فلم يقل لي تفضل، إلى غير ذلك.

لو عرف العبد أنه مخطئ مذنب مسيئ لم يرى لنفسه فضلاً على غيره من المؤمنين بالله واليوم الآخر.

فاستراحت نفسه واستراح الناس من شكايته وتعبه، فما أقر عينه وما أهنأ باله وما أطيب عيشه، يستريح الناس من شكايته وتعبه.

فأين هذا ممن لم يزل عاتبًا على الناس شاكيًا لتركهم القيام بحقوقه، ساخطًا عليهم وهم عليه أسخط، لكنه إذا لقيه أحد فسلم عليه، وانبسط وجهه إليه، رأى أن ذلك تفضلاً ممن فعل معه مع فعل لأنه مذنب مسيء، مخطئ معترف بالتقصير فلا يرى لنفسه فضلاً على أحد.

ما دمت تُذنب كما يذنب الآخرون، وليس لك الكمال فإن عليك ألا ترى لنفسك فضلاً على أحد حتى تستريح وتُريح، ثم إن من حكم الله تبارك وتعالى إذا ما ابتلى عبده أن يشتغل بعد ذلك بعيبه؛ لأنه إذا أذنب عذر الآخرين الذين غلبتهم أنفسهم في ساعة من الساعات، فإن غلبت كذلك هو نفسه عذرهم واشتغل بعيوبه وغض الطرف عنهم، وتفرغ لعيوبه، وارتفع عن التفكير أو الخوض في عيوب الآخرين، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن شغلته عيوب الناس وتفرغ لها.

ثم بعد ذلك من الحكم العظيمة في الابتلاء أن يستغفر العبد لإخوانه المسلمين لأنه إن أذنب أحس بالحاجة إلى أن يستغفر له إخوانه فيصير هجيراه: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.

فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.

__________

(1) البخاري (6538) ، ومسلم (2805) من حديث أنس بن مالك.

(2) البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.

(3) البخاري (573) ، ومسلم (2816) عن أبي هريرة بنحوه.

(1/2000)


0 التعليقات:

إرسال تعليق