الاثنين، 27 أبريل 2015

بابَ الإحسان


بابَ الإحسان

-----------------------

الحمد لله ربّ العالمين، يجيب السائلين، ويحبّ المحسنين، أحمد ربِّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ المتقين، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إنَّ غايةَ الإسلام الكبرى وتشريعاتِه العظمى هي الإحسانُ إلى النّفس والإحسان إلى الخلق، فبهذا الإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق تكون منازلُ النّاس عند ربهم في الدّنيا والآخرة قُربًا وبُعدًا، وبهذا الإحسان تكون منزلة الإنسان عند الخَلق قَبولاً ونُفورًا. ولكون المأمورات والفرائض والمحرّمات والمنهيّات كلِّها ترجع إلى الإحسان فقد كتبَه الله وافترضه في تشريعه، عن أبي يعلى شدّاد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرتَه، ولْيُرح ذبيحته)) رواه مسلم(1)[1].

فقوله : ((إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء)) له معنيان:

المعنى الأوّل: إنّ الله تعالى كتب الإحسانَ في كلّ شيء من الأعمال الواجِبة، بأن يؤدِّيَها المسلم على وجه الكمال في واجباتها، ويجتهدَ في مستحبّاتها، وأن يُحسِن في ترك المحرّمات بالانتهاء عن ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]. فالإحسان بأداء الفرائضِ وترك المحرّمات إحسانٌ إلى النّفس، وأعظمُ الإحسان إلى النّفس توحيدُ الله تعالى بعبادة الله وحدَه لا يُشرك به شيئًا، وما بَعد ذلك تابعٌ لهذا الأصلِ العظيم.

والمعنى الثاني: إنّ الله كتب الإحسانَ على كلّ أحد إلى كلِّ مخلوق، فالإحسان إلى كلِّ مخلوق بحَسَبه.

وقد أمر الله تعالى بالإحسان أمرًا مطلقًا عامًّا، فقال تعالى: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

وأمر بالإحسان مقيَّدًا مفصلاً، فأمر بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسانِ إلى الأقرباء وإلى الجار والفقراءِ والضعفاء، وبالإحسان إلى المنكوبين بكوارثَ كونيّة أو عدوّ نازل، وبالإحسان إلى اليتامى وغيرهم.

والإحسان إلى الخلق معناه بذلُ الخير وكفُّ الشرّ.

وأجمع الآيات في كتاب الله تعالى التي تأمر بالإحسان إلى النّفس والإحسان إلى الخلق قوله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى [النحل:90].

ومعنى قوله تعالى: وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى: الجار المسلم القريب.

وَالْجَارِ الْجُنُبِ الكافر كما في حديث جابر رضي الله عنه، عن النبي أنّه قال: ((الجيران ثلاثة: جارٌ له حقّ واحد وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقًا. فأمّا الذي له حقّ واحد فجارٌ كافر لا رحِم له له حقّ الجوار. وأمّا الذي له حقّان فجار مسلم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار. وأمّا الذي له ثلاثة حقوق فجارٌ مسلم ذو رحِم له حقّ الإسلام وحقّ الجوار وحقّ الرحم)) رواه البزار في مسنده وأبو نعيم في الحلية(2)[2].

وأمّا الصاحب بالجنب ففسّره طائفة من أهل العلم بالزّوجة، وفسّره بعضُهم بالرفيق في السّفر، ويدخل فيه الصّاحب في الحضر من باب أولى.

ومِن أعظم الإحسان إلى الخلق معاملةُ النّاس بمقتضى الشرع الحنيف، بالوفاء والصّدق والعدل والرّحمة والتواضع والصّبر والاحتمال والقول الحسن، وأن تعاملَهم بما تحبّ أن يعاملوك به، قال الله تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وقال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91]، وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وقال عزّ وجلّ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وفي الحديث عن النبي : ((الراحمون يرحمُهم الرحمن))(3)[3]، وقال عزّ وجلّ: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان:63]، وقال تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءاتُواْ الزكاةَ [البقرة:83]، وقال عزّ وجلّ: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا عقبة، ألا أخبرك بأفضلِ أخلاق الدنيا والآخرة؟! تَصِلُ من قطعك، وتعطي من حرمَك، وتعفو عمَّن ظلمك)) أخرجه أحمد والحاكم(4)[4]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي قال: ((ما مِن شيء يوضَع في الميزان أثقل من حُسن الخلق، وإنَّ صاحبَ حُسن الخلق ليبلغ به درجةَ صاحب الصّوم والصلاة)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي(5)[5].

فحُسن الخلق من الإحسان إلى النّفس ومن الإحسان إلى الخلق، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ قال: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي المسلمين)) رواه مسلم(6)[6].

فأحسِنوا ـ عبادَ الله ـ إلى نفوسكم وإلى خلق الله تعالى، بما أمركم به من الطاعات، وبترك ما نهاكم عنه من المحرّمات، قال الله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].

إنّ الإحسان الذي كتبه الله على كلّ شيء وأمركم به يعمُّ الإنسانَ والحيوان والدوابّ، قال الله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، وقال: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه:112]، والظلمُ هو أن يعاقبَ بسيّئات غيره، والهضم أن يُنتقصَ من ثواب حسناته، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بينما رجلٌ يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرِب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهَث ويأكل الثّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد كان بي من العطش، فنزل البئرَ، فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلبَ، فشكر الله له فغفر له))، قالوا: يا رسول الله، إنَّ لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: ((في كلِّ كبِد رطبةٍ أجر)) رواه البخاري ومسلم(7)[1]، وفي رواية لهما: ((بينما كلبٌ يطيف بركيَّةٍ قد كاد يقتله العطشُ إذ رأته بغيّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَها، فاستقت له به، فسقته فغُفر لها به))(8)[2]، والموق هو الخفّ. وفي الحديث عن النبي قال: ((ما مِن إنسانٍ يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو دابّة إلا كان له صدقة))(9)[3].

فاتقوا ربَّكم عباد الله، والزَموا بابَ الإحسان الذي كتبه الله عليكم، بالإحسان إلى أنفسكم بطاعة ربكم وتركِ محرمّاته، والإحسان إلى الخلق بما أُمرتم به، يُدخلْكم ربُّكم مدخلاً كريمًا، ويصرف عنكم عذابًا أليمًا.

إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).

فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهمّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...

__________

(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955).

(2) أخرجه البزار كما في تفسير ابن كثير (1/496)، وأبو نعيم في الحلية (5/207) من طريق محمد بن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن الفضل، عن عطاء الخراساني، عن الحسن، عن جابر، وقال البزار: "لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك"، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء عن الحسن، لم نكتبه إلا من حديث ابن أبي فديك"، وضعفه العراقي كما في فيض القدير (3/367)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص138): "روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال"، وضعفه العجلوني في كشف الخفاء (1/393)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (3493).

(3) أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (3/158)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (925).

(4) أخرجه أحمد (4/148، 158)، والحاكم (7285) واللفظ له، وأخرجه أيضا الروياني في مسنده (157)، والطبراني في الكبير (17/269، 270)، والبيهقي في الشعب (6/222، 261)، قال المنذري في الترغيب (3/232) والهيثمي في المجمع (8/188): "أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2536).

(5) أخرج جزأه الأول أحمد (6/442، 451)، والبخاري في الأدب المفرد (270)، وأبو داود في الأدب (4799)، وصححه ابن حبان (481). وأخرجه بتمامه الترمذي في البر (2003)، وعزاه المنذري في الترغيب (3/271) للبزار وقال: "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1629).

(6) أخرجه مسلم في البر (1914).

(7) أخرجه البخاري في الأدب (6009)، ومسلم في السلام (2244).

(8) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3467)، ومسلم في السلام (2245).

(9) أخرجه البخاري في المزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1552) من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((ما من مسلم)).

(1/2775)


0 التعليقات:

إرسال تعليق