الخميس، 30 أبريل 2015

الأسرة هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة


الأسرة هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة

-----------------------

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا بن عبد الله وعلى آله وأصحابه.

فإن الأسرة هي القاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدًا كبيرًا. نراه متناثرًا في سور شتى من القرآن، محيطًا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى. إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة، بما أنه نظام رباني للإنسان، هذا النظام ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها، وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلق وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعًا والمخلوقات كافة، تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى من سورة الذاريات: وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49].

وفي قوله تعالى من سورة يس: سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاْزْواجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ [يس:36].

ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان ثم الذرية ثم البشرية جميعًا، وذلك في قوله تعالى من سورة النساء: ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

وفي قوله تعالى من سورة الحجرات: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ [الحجرات:13].

ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين لا تجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن تتجه إلى إقامة الأسُر والبيوت، وذلك كما في قوله تعالى في سورة الروم: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]. وفي قوله تعالى في سورة البقرة: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]. وكذلك في سورة البقرة: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].

وفي قوله تعالى من سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [النحل:80]. فهي الطفرة تعمل وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة في إطارها الذي أذن الله فيه وأنعم به على بني آدم وجعله آية حَريّة بالتفكر، وبه أمر رسول الله وحثَّ عليه ورغَّب فيه.

والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الأفراخ الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظله تُتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة، وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتُفسر الحياة وتتعامل مع الحياة.

المحضن الطبيعي هو الأسرة، يخرج منها الأفراخ، وقد تطبعوا بما طبعهم عليه المسؤولان الأساسيان الكبيران عن هذه الأسرة الأب والأم.

وفي ظل هذه الأسرة تتفتح هذه الأفراخ للحياة، أي الأطفال، وتفسر الحياة وتتعامل مع الحياة. بناءًا على ما تربوا عليه بين الداعيين الأساسين الأب والأم.

والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة، لأن طفولته تمتد أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته، ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور، امتدت طفولته فترة أطول ليحسُن إعداده وتدريبه للمستقبل. ومن ثَمَ كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق لفطرة الإنسان وتكوينه في هذه الحياة.

وقد أثبتت التجربة العملية أن جهاز الأسرة وحده هو الذي يصلح لهذا الدور، وأن أي جهاز غير جهاز الأسرة لا يعوضه عنها ولا يقوم مقامها؛ بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة. أي في ثورة هذه المذاهب الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان.

ويزعم أناس حرموا أنفسهم نعمة السلام الذي أراده الله لهم؛ أن التقدم والحضارة والرقي أن تخرج المرأة إلى العمل دافعة بأطفالها إلى هذه المحاضن، بينما كان من أول ما أثبتته تجربة المحاضن أن الطفل في العامين الأولين من عمره يحتاج حاجة نفسية فطرية إلى الاستقلال بوالدين له خاصة. وبخاصة الاستقلال بأم لا يشاركه فيها طفل آخر. وفيما بعد هذه السن يحتاج حاجة فطرية إلى الشعور بأن له أبًا وأمًا مميزين يُنسب إليهما. والأمر الأول متعذر في المحاضن، والأمر الثاني متعذر في غير نظام الأسرة. ما هو الأمر الأول والأمر الثاني؟

الأمر الأول: الذي يلبي حاجة الطفل النفسية الفطرية إلى والدين له خاصة متعذر في المحاضن، والأمر الثاني الذي يلبي حاجة الطفل إلى أن له أبوين مميزين يُنسب إليهما متعذر في غير نظام الأسرة.

واي طفل يفقد أيهما ينشأ منحرفًا شاذًا مريضًا مرضًا نفسيًا على نحو من الأنحاء، وحين تكون هناك حادثة تحرم الطفل إحدى هاتين الحاجتين تكون لا شك كارثة في حياته.

فما بال الجاهلية الشاردة تريد أن تُعمم الكوارث في حياة الأطفال جميعًا. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي الذي أراد به الله أن يدخل المسلمون في السلم وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل يقوم على ماذا؟ يقوم على أساس الأسرة ويبذل لها من الغاية ما يتفق مع دورها الخطير، ولهذا فإن الأحكام المتعلقة بالأسرة من زواج وعشرة وإيلاء وعدة ونفقة ومتعة ورضاعة وحضانة، لا تذكر مجردة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله لا تُذكر مجردة:

لا يُقال النفقة قدرها كذا، والمتعة قدرها كذا، والطلاق والزواج, لا. بل تجئ في جو يشعر القلب البشري بأن يواجه قاعدة كبيرة من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية، وأصلاً كبيرًا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي، ومن ثم فإن هذا الأصل موكول بغضب الله تعالى ورضاه وعقابه وثوابه، فما من صغيرة ولا كبيرة في أمر الأسرة إلا وتلقى من الله سبحانه وتعالى عناية ورقابة.

وتجئ التعقيبات في نهاية الآيات المتعلقة بالأسرة، وأحيانًا بين ثناياها لتنبأ عن ضخامة هذا الأمر، فاقرأ آيات الله تعالى في أحكام الأسرة، وانظر وتأمل كيف يختم الله هذه الآيات؟‍، وكيف يُعقب عليها؟‍. وبماذا يأتي به في ثناياها يقول الله تعالى كما سمعتم في الآية السابقة؟‍.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ [البقرة:223].الأمر بتقوى الله في أثناء الحديث عن حل النساء لأزواجهن على الوجه الذي عينه الله تبارك وتعالى وحدده لهم وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223].

يقول الله تبارك وتعالى في الإيلاء: فَإِن فَآءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:226]. التعقيب على أمر الإيلاء والرحمة بالفاء.

ويقول الله تبارك وتعالى في التعقيب على آيات أخرى متعلقة بالطلاق: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231]. وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]. ويقول في نهاية الحديث عن العدة: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]. ويقول في جواز التعريض بخطبة النساء اللاتي مات عنهن أزواجهن وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].

ويقول كذلك في نهاية بعض آيات الطلاق وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]. ويقول قبلها: وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].

ويقول في سورة النساء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].

وكرر الشرط والجزاء في سورة الطلاق فيقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:2-5]. ويقول رسول الله في بعض الوصايا والأحاديث التي جاءت فيها بعض أحكام الأسرة ((استوصوا بالنساء خيرًا)) كما في الصحيحين(1)[1].

ويقول في حق المرأة: ((لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ـ أن تسجد لزوجها ـ من عظم حقه عليها))(2)[2].

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))(3)[3].

إلى غير ذلك من كلامه الشريف وإلى غير ذلك من كلام الله تعالى في كتابه العزيز، فهي أحكام يناط تنفيذها بتقوى القلب، وحساسية الضمير؛ لأنّ الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن في غير هذا الوازع الحارس المستيقظ.

فإننا عندما نقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].

نرى أن ظاهرة سؤال المسلمين الأوائل واستفتائهم في بعض الأحكام ظاهرة لها دلالتها من اليقظة والرغبة في مرضاة الله وهي العناصر البارزة في هذه الفترة على الرغم من بقاء بعض رواسب الجاهلين قبل أن يقبض رسول الله من بين أظهرهم، على الرغم من ذلك فالمهم هو رغبتهم الحقيقية القوية في مطابقة أحوالهم لأحكام الإسلام والاستفسار عن بعض الأحكام بهذه الروح، لا لمجرد المعرفة والعلم والثقافة كمعظم ما يوجه للمفتين في هذه الأيام من الاستفتاءات، لا. لقد كانت بالقوم حاجة إلى معرفة أحكام دينهم لأنها هي التي تكون نظام حياتهم الجديدة، وكانت بهم حرارة لهذه المعرفة؛ لأنّ الغرض منها إيجاد التطابق بين واقع حياتهم وبين أحكام دينهم، وكان بهم انخلاع من الجاهلية وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وأحوال وأوضاع وأحكام، مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم، أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يد الإسلام.

ونجد جزاء هذا كله، جزاء حرارتهم وجزاء صدق عزيمتهم على الإتباع وجزاء تطلعهم لله، نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية؛ لأنّه سبحانه بذاته العلية يتولى بنفسه افتاءهم فيما يفتونهم فيه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [النساء:127].

وتدرجت الأمور وساءت الأحوال بمرور القرون والأزمان بعد أن كان الأوائل يسألون ويستفتون حتى تطابق أحوالهم أحكامهم، أصبحت الأحكام تعرض على المسلمين غضة طرية جلية فيأبون الامتثال والخضوع والإذعان لها والتسليم، لم يعد أحد إلا قليل ممن رحم الله يسأل عن أحكام دينه ليطابق حاله أحكام الإسلام، وعاد الكثير إذا ما عرضت عليهم الأحكام تبرموا وتنصلوا منها. فمن كان قبل الأوائل في السؤال عن أحكام الدين للانخلاع من الجاهلية وعاداتها وأوضاعها وأحكامها، ومطابقة حاله لأحكام دينه فليحمد الله، ومن كان غير ذلك فليحاول أن يكون كالأوائل.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم…إن التشبه بالكرام فلاح

__________

(1) البخاري (3331) ، ومسلم (1468).

(2) صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/470).

(3) صحيح ابن حبان (ترتيب ابن بلبان 9/484).

(1/2001)


0 التعليقات:

إرسال تعليق