الثلاثاء، 5 مايو 2015

شكر النعمة رأس العبادة وأصل كل خير وأوجبُه


 

شكر النعمة رأس العبادة وأصل كل خير وأوجبُه

-----------------------

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

إن الله جل وعلا يذكّر عباده نعمَه وآلاءه وإحسانه عليهم، يذكرهم ليدعوهم إلى شكرها والقيام بحقها، يعرفهم نعمه عليهم ليقوموا بحق هذه النعمة، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، ويقول جل وعلا: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]، ويخبرهم تعالى أن نعمه عظيمة، لا يستطيع العباد إحصاءها ولا عدها مهما بذلوا السبب: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. كيف تحصى النعم؟! وما من لحظة من لحظاتك إلا ولله عليك نعم، في نومك ويقظتك، وفي كل حركاتك، فلله عليك نعم لا تستطيع عدّها ولا إحصائها، ولذا كان المطلوب منا أن نشكره تعالى ونحمده على نعمه في كل آن وحين أن نقول: الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1].

والعبد إذا فكر في نعم الله عليه وتدبرها حق التدبر، دعاه إلى شكرها ومعرفة قدر من أنعم بها، ثم القيام بحق ذلك المنعِم، واستعمال تلك النعم فيما يقرب إليه زلفى، وإن من أسباب شكرك لنعم ربك أن تنظر إلى من هو دونك، وأن لا تنظر إلى من هو فوقك، فنظرك إلى من هو دونك يعرِّفك قدر نعم الله عليك، ويدعوك إلى شكرها، ونظرك إلى من هو فوقك يدعوك إلى ازدراء النعم وعدم معرفتها على الحقيقة، ولذا جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، فهو أحرى أن لا تزدروا نعمة الله عليكم))(1)[1]. إنها لوصية نافعة شافية كافية، كلمة جامعة قالها محمد صلى الله عليه وسلم.

ذلكم ـ أن أن يعرف العبد نعم الله، ويعرف من أنعم بها عليه، هو ربنا جل وعلا، ويتحدث بهذه النعم من باب شكر منعمها وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى:11].

فما بالعباد من نعم ظاهرة ولا باطنة ولا خاصة ولا عامة إلا من الله فضلاً وإحسانًا، وليس مرجعها لقوة الإنسان وذكائه، ولكنها محض فضل ربي وإحسانه.

فالواجب على المسلم أن يقابل هذه النعم بالشكر، قال الله عن سليمان عليه السلام لما رأى نعم الله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

تدبّر حال الخلق، سترى ما بينهم من التفاوت في العقول والأخلاق والأرزاق، وربك حكيم عليم، ترى من هو دونك في العقل، ومن هو دونك نسبًا ومالاً، ومن هو دونك في أصناف النعم، إذن فإذا نظرت إلى ذلك، ثم تفكرت في حالك، ورأيت من هو دونك مراتب عديدة، دعاك إلى شكر نعمة الله عليك.

أنت وأنت تتمتع بعقل رزين بعقل راجح، قد منّ الله عليك بسلامة عقلك وحسن نظرك، فاعلم أنها نعمة من نعم الله عليك، وإذا نظرت إلى من أصيبوا في عقولهم فلا يحسنون شيئًا، ولا يستطيعون التصرف، قد سُلبت عقولهم منهم فهم معك بالأبدان، ولكن عقولهم غائبة، ولله حكمة في ذلك، فاشكر الله على سلامة عقلك وانتظامه، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. شخص لا يعقل أموره، ولا يدبر حاله، وأنت في سلامة عقلك ورجاحته، فاشكر الله وسخِّر هذا العقل لتعقل به عن الله ما يعود عليك بالخير في عاجلك وآجلك.

كم ترى من أُناس أو تسمع من حال أُناس ليس عندهم قوت مدّخر، ولا مسكن يُؤويهم، وأنت في مسكن يؤويك، ورزق وخير عندك متتابع، فاعرف قدر هذه النعمة، واشكر الله على هذا الفضل، ((من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))(2)[2].

وأنت تتمتع بصحة وعافية في كل أعضائك، لا تشكو ألمًا، ولا يقلقك مرض، ولا يقض مضجعك ألم، بل أنت في صحة في سمعك، في بصرك، في سائر قواك، تتمتع بصحة وعافية. إذن، فيا لها من نعمة لمن عقلها وتدبرها.

ثم التفت يمينًا ويسارًا، لترى أقوامًا قد ابتلوا بأنواع الأمراض والأسقام المختلفة، كل يوم وهو يبحث عن مستشفى ومستوصف، وكل يوم وهو أمام صيدليات الدواء، هذا مرض الكلى، وذا مرض القلب، وذا وذا.. أمراض متعددة، وأسقام متنوعة، وأنت تتمتع في صحة وسلامة وعافية.

فانظر إلى من هو دونك، لا تنظر إلى من هو فوقك، انظر لمن دونك قد ابتلي بأنواع الأمراض، غسيل الكلى في اليوم ساعات، كل أسبوع أو نحو ذلك، ووجع القلب، ومن أصيب بالسكر، ومن أصيب بكذا وبكذا.. وأنت في سلامة وعافية وصحة، فاعرف لهذه الصحة قدرها، واعرف لها فضلها، وقل: الحمد لله على هذه النعمة.

تشاهد أقوامًا قد ابتلوا بالهموم والأحزان، واستولت عليهم الهموم، وأصبحوا في هم وضجر، وقلق في حياتهم، وأنت في راحة بال، وطمأنينة نفس، وقرة عين، تضع رأسك على الوسادة فيأتيك النوم، وتستيقظ وأنت في عافية وراحة، فاشكر الله على هذه النعمة، واحمد الله على هذا الفضل.

كم من أقوام أثقلتهم الديون، وحقوق الخلق، كلٌّ يطلب حقه، وهو يستدين اليوم بعد اليوم، قد أثقلت الديون كاهله، وأصبح مرتهنًا بحقوق الناس، إن أصبح اهتمَّ بطلباتهم، وإن جاء الليل اهتم كيف يقضيها، إنه في حسرة، وأنت قد عافاك الله من حقوق الخلق، ورزقك من العيش ما [هو كافٍ لك]، فاحمد الله على هذه النعمة، واشكره على فضله.

قد تشاهد أقوامًا قد ابتلوا بسوء الأخلاق، والحماقة الزائدة، لا يمكن أن يعيشوا مع الناس، إن خوطبوا قابلوا الخطاب بسوء الخلق، والكلمات البذيئة، لا يمكن أن يعاشرهم أحد لسوء أخلاقهم، بل حتى زوجاتهم وأولادهم في ضجر من سوء أخلاقهم، وقلة حلمهم، ونفاد صبرهم، وقد منّ الله عليك بأناءة وحلم وطمأنينة، أنت وزوجتك وأولادك في سعادة ونعمة، فاعرف لهذه النعمة حقها وقدرها.

أ منّ الله عليك فملأ قلبك قناعة بما قسم الله لك وما منحك من الخير، فأنت راضٍ بما أعطاك الله، مطمئن النفس بذلك، لكونك في منزلك ورزقك فيه كفاية، وانظر إلى أقوام ابتلوا بسؤال الناس وهم في غنىً في أنفسهم، لكن الله أفقر قلوبهم فلا يملؤها شيء، عندهم من المال ما عندهم، ولكنهم لا تطمئن نفوسهم إلا بسؤال الناس، يسأل هذا، ويشحذ هذا، ويستجدي هذا، والله قد أعطاه من الخير، لكن كل هذا الخير لا يراه شيئًا؛ لأن قلبه قد امتلأ فقرًا ـ والعياذ بالله ـ والغنى غنى النفس، ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس))(3)[3]، فاحمد الله أن صان وجهك، وملأ قلبك، وجعلك تعيش في طمأنينة، إنما ترفع طرْفك لله شاكرًا ومثنيًا، ولم يتعلق قلبك بما عند الخلق وما لديهم.

منّ الله عليك فجعلك بأبويك بارًّا، وجعلك لأبويك محسنًا، تحسن إليهم، تبدؤهم بالسلام، تخدمهم، تقوم بواجبهم، تؤدي الحق قدر ما تستطيع لهم، وانظر إلى من ابتلوا بقسوة القلب، فعقوا الآباء والأمهات، بل بعضهم أخرج أمه من بيته وألقاها في قارعة الطريق، سآمةً وضجرًا منها والعياذ بالله، فمن رُزق بر الوالدين والإحسان إليهما فليعلم أنها نعمة ساقها الله إليه، فليحمد الله على هذه النعمة، وليفكر في حال العاقّين القاسية قلوبهم، وكيف أنهم يعيشون هذه الحياة التعسة الشقية.

وقد منّ الله عليك فقبلت الإسلام، وانشرح صدرك للإسلام، عرفت ربّك، عرفت نبيك، عرفت دين الإسلام، آمنت بأركان الإسلام، فأديت الصلوات، وأخرجت الزكاة، وصمت رمضان، وحججت البيت، والتزمت الأخلاق والآداب الإسلامية، فانظر إلى من ابتلوا بالانحراف عن الإسلام والوقوع في الرذائل، وأنت في عافية منها، أو من معظمها، فاحمد الله على هذه النعمة، واشكره أن هداك للإسلام ومنّ عليك بذلك.

وحيال تلك النعم التي تشاهدها في نفسك، وحيال تلك البلايا التي تراها ممن هو دونك، إنّ موقفك دائمًا شكر الله والثناء عليه: الحمد لله الذي أنعم عليَّ بنعمه، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.

إن شكر النعمة يسبب تتابعها وبقاءها ونموها، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، وإن كفرها وجحودها والازدراء بها لكونك تنظر إلى من هو فوقك يسبب رحيل النعم عنك، وتتابع النّقم عليك، وتعيش حسرةً وكمدًا، ولا تغير من الواقع شيئًا.

إن الرضا بقسْم الله والرضا بقضاء الله يملأ القلب قناعة والنفس طمأنينة، حتى يكون ذلك القنوع يساوي الأغنياء، بل في قلبه من الخير ما فاق به الأغنياء في أموالهم؛ بسبب قناعته ورضاه وطمأنينته بما قسم الله له.

ولذا أمر النبي معاذًا قائلاً له: ((إني لأحبك، فلا تدعنّ دُبُرَ كلِّ فريضةٍ أن تقول: اللهم أعنّي على شكرك، وأعنِّي على ذكرك، وأعنِّي على حسن عبادتك))(4)[4].

وسيد الأولين والآخرين وإمام المتقين أعظم الخلق لله شكرًا، وأعظم الخلق لله ثناءً، كان يقول: ((اللهم اجعلني لك شكَّارًا، اللهم اجعلني لك ذكَّارًا))(5)[5]، ((اللهم اجعلني ممَّن يشكرك، اللهم اجعلني ممَّن يحفظ وصيتك ويقبل نصيحتك))(6)[6]، صلوات الله وسلامه عليه، قام الليل حتى تفطرت قدماه، فتقول له أم المؤمنين: ما هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: ((ألا أكون عبدًا شكورًا؟!))(7)[7].

نعم الله عليه عظيمة، اختاره الله لأن يكون سيد الأنبياء والمرسلين وأفضل الخلق أجمعين، فكان أعظم الخلق طاعة لله، وأعظم الخلق شكرًا لله، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وهو القائل: ((لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))(8)[8].

إذا نظرت إلى من هو فوقك، وإلى من فُضّل عليك بأنواع الفضائل، فإن ذلك يملأ قلبك همًا وحزنًا، ويجعلك تزدري نعم الله عليك، فكُفّ عن هذا، وانظر إلى من هو دونك دائمًا وأبدًا، حتى تعرف قدر نعم الله عليك، واعلم أن الله أحكم وأعدل فيما يقضي ويقدر، فهو جل وعلا يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، يوسع على هذا، ويضيق على هذا، وكل الأمر بيده؛ لأنه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23].

فاشكر الله على عموم نعمه عليك، وآلائه عليك، ليكون ذلك سببًا في رضا الله عنك، وتكون ممن عرفت النعم وقدرها حق قدرها.

جعلني الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، إنه على كل شيء قدير.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم...

__________

(1) أخرجه البخاري في الرقاق (6490)، ومسلم في الزهد والرقائق (2963) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: الصحيحة للألباني (2318).

(3) أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الغنى غنى النفس حديث (6446)، ومسلم في الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4) أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، والنسائي في كتاب السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751) وابن حبان (2020) والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133).

(5) جزء من حديث أخرجه أحمد (1/227)، وأبو داود في الصلاة (1510)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (3551)، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3830) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (947، 948) والحاكم (1/701).

(6) أخرجه أحمد (2/311، 477)، والترمذي في كتاب الدعوات، باب: من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم (3967) من حديث أبي هريرة بنحوه، وقال: "هذا حديث غريب"، في سنده الفرج بن فضالة التنوخي ضعيف. التقريب (5418).

(7) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر (4837)، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(8) جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود (486) عن عائشة رضي الله عنها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق