السبت، 16 مايو 2015

مقام العلماء


مقام العلماء


-----------------------

الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.

روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله فقال عمر: إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم، فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]. فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا.

قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: فإذا جاء نصر الله والفتح وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.

وهذا الحديث عباد الله يحكي قصة هذا الشاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان عمر رضي الله عنه وهو خليفة على المسلمين يدخله مع كبار الصحابة للمشاورة وأخذ الرأي رغم صغر سنه، والقوم من أهل بدر أي من الذين حضروا معركة بدر وقاتلوا فيها، وقد كان لأهل بدر مكانة خاصة فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم)) [رواه البخاري ومسلم].

لذلك فقد كان الصحابة كلهم يعظمون أهل بدر فلما رأى أهل بدر أن عمر رضي الله عنه يدخل معهم هذا الشاب الصغير في السن قالوا: إن لنا أبناء مثل هذا الشاب فلماذا لا يدخلهم معنا؟!

فأراد عمر رضي الله عنه أن يريهم لماذا كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما فاستدعاه يوماً واستدعاهم فلما حضروا وجلسوا سألهم عن تفسير سورة النصر وهي قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]. فبعضهم قال: إن الله يأمرنا إذا نصرنا الله وفتح علينا أن نسبحه ونحمده. وسكت بعضهم عن الكلام. وليعلموا عند ذلك مكانة ابن عباس رضي الله عنه وجه عمر رضي الله عنه السؤال نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: هذه السورة هي التي أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله حيث جعل الله علامة أجل الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وأمره بالإكثار من التسبيح والاستغفار لأن أجله قد اقترب. فقال عند ذلك عمر: وأنا ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم.

عندها تبينت مكانة ابن عباس وعرفها القوم فسكتوا ولم يعترضوا لعلمهم بأن الذي أهّله لحضور هذا المجلس الذي لا يحضره إلا كبار القوم هو العلم، وهذا هو سر إدخال عمر له مع أشياخ بدر في هذا المجلس.

 هذا الحديث يبين لنا فضل العلم الشرعي وشرفه ومكانة العلماء وقدرهم.

إن للعلم الشرعي في هذا الدين مكانة عظيمة ودرجة عالية. فهو ميراث النبوة فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا هذا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. ولولا العلم الشرعي لأصبح الناس كالبهائم ولكن الله بعث إليهم الرسل بالعلم الشرعي وكرمهم ورفعهم عن بقية مخلوقاته قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإٍسراء:70].

والعلماء هم ورثة الأنبياء لذلك كانت لهم تلك المكانة العالية في النفوس والمنزلة الرفيعة في الحياة.

العلماء أيها المؤمنون هم الهداة للبشرية الذين يوجهونها لخيري الدنيا والآخرة. العلماء أيها الموحدون أنفع من الآباء والأمهات.

فالآباء والأمهات نفعهم محصور على أبنائهم، أما العلماء فنفعهم للأمة كلها بل للعالم أجمع. قد يستغرب البعض هذا الكلام لكنه الحقيقة فالوالدان يربيان أبناءهما والعلماء يربون الأمة بأكملها.

 قد فرق الله في كتابه بين العلماء وغيرهم وبيّن أنهم ليسوا سواسية فقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ [الزمر:9]. نعم لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم كما لا يستوي الحي والميت والسميع والأصم والبصير والأعمى. أليس هناك فرق؟! العلم نور يهتدي به الإنسان ويخرج به من الظلمات إلى النور، يرفع الله به من يشاء من عباده درجات، وسيلة العبد لعبادة الله على بصيرة وطريقه إلى كسب رضوان ربه، كل ما يكتسبه الإنسان في هذه الحياة يفنى إلا العلم فإنه يبقى بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا أن يشاء الله.

تأمل رعاك الله حال أبي هريرة رضي الله عنه كان فقيراً يجوع حتى يغشى عليه من الجوع، كم يجري ذكره اليوم بين المسلمين، وكم من مترحم عليه مترض عليه. رضي الله عنه وأرضاه، وما ذلك إلا لأنه حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العلم الشرعي.

استشهد الله أهل العلم على وحدانيته سبحانه وتعالى بعد ملائكته فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]. ولم يقل: وأولو المال! ولا قال وأولو الشرف! ولا قال وأولو السلطان! بل قال: وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ.

من أراد الله به خيراً رزقه هذا العلم يقول : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [البخاري ومسلم].

هو مقياس محبة الله لعباده وليست الدنيا والأموال والأولاد هي المقياس، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب. ليس لأحد أن يغبط أحداً على شيء إلا على العلم والعمل به قال صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) [رواه البخاري ومسلم].

العلم الشرعي- إخوتي في الله- طريق الجنة المأمون قال صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة)) [رواه مسلم]. ولذلك كله فقد كان للعلماء مكانة عظيمة عند المسلمين، ويجب أن تبقى إن كنا نريد النصر والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة، ولقد كان سلفنا رحمة الله عليهم يعظمون العلماء ويجلونهم.

دخل الخليفة عبدالملك بن مروان المسجد الحرام يطوف بالبيت هو وابنيه ثم جاء ليسأل عالم مكة وهو عطاء بن أبي رباح، فجلس بين يديه يسأله وهو يجيب. ثم لما انصرف الخليفة قال لولديه: يا بني تعلموا العلم، فوالله لا أنسى جلوسي بين يدي عطاء بن أبي رباح.

وعطاء رحمه الله كان عبداً أسود أفطس مفلفل الشعر، كان أبوه عبداً من العبيد، ولكن رفع الله عطاء بهذا العلم حتى صار الخليفة يأتي إليه ويجلس بين يديه يستفتيه. وهكذا يرفع الله بالعلم أقواماً ويضع آخرين.

 إن الأمة اليوم مطالبة أكثر من ذي قبل بالرجوع إلى علمائها المخلصين الصادقين وسؤالهم وأخذ رأيهم والوقوف عند أقوالهم وعدم مخالفتها ما دامت مستندة إلى الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن علينا جميعاً كأفراد الرجوع إلى علمائنا وسؤالهم عن ما يشكل علينا في أمور ديننا ودنيانا والاستنارة بآرائهم في شئوننا الدنيوية فإنهم ينظرون بنور الله، فلا عجب أن تكون أقوالهم موفقة في أمور الدنيا التي يستطيعون الخوض فيها.

إن علينا أن نقدمهم حيث قدمهم الله ونرفعهم حيث رفعهم الله.

ومما يجب علينا كذلك عدم التعرض لهم بقدح أو غيبة أو استهزاء كما يفعل بعض السفهاء. بل الواجب علينا الذب عن أعراضهم والدفاع عنهم والرد على من ينتقصهم أو يغتابهم، فغيبتهم أعظم من غيبة غيرهم من عوام الناس.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: (من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد، فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل، ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع.

وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى. فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء، حتى يخبرهم بالخبر حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ [سبأ:23].

كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه.

فسبحان من خص فريقاً بخصائص قد شرفوا بها على جنسهم. ولا خصيصة أشرف من العلم. بزيادته صار آدم مسجوداً له، وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة.

فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع، بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به. فكلما دله على فضل اجتهد في نيله، وكلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته. فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب، فإذا حركه عجل في سيره. والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غروره، ولا يكشف له عن سره)ا.هـ.

فهذا : مقام العلماء عند ربهم. فيجب عندئذ أن نعطيهم حقهم من التبجيل والتوقير. وأن نجعلهم أئمة لنا ليقودونا إلى بر الأمان بإذن الله. وأن نلتف حولهم وتجتمع كلمتنا عليهم ولا نصدر إلا عن رأيهم، ولا نعمل إلا بمشورتهم.

 وينبغي أن يعلم أن كلامنا هذا مقيد بطاعة العلماء في طاعة الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. يقول تعالى: أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. قال المفسرون: أولي الأمر هم الأمراء والعلماء.

فعلى هذا تكون طاعتهم طاعة لله وقربة لله. نسأل الله أن يرزقنا العلماء العاملين الناصحين إنه ولي ذلك والقادر عليه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق