الاثنين، 18 مايو 2015

القبر والموت والآخـرة


 القبر والموت والآخـرة

الحمد لله (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)1، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزانَ وما يدريك لعل الساعة قريب)2

ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله (إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل)3، يا أيها الناس اتقوا الله (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لاتنصرون)4.

فإن من هدي نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قوله وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال : (يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت)5.

ومعرفة حال الدنيا وتذكر الآخرة لا بد منه في كل مراحل الطريق وإلا فإن القلب قد يعتريه جفاف ، وعالم الأفكار من دون روح شوك لا زهر فيه ، والعلم من دون خشية سائق تكبر ، وحب الجدال قاتل ، وإن النفوس لتنتفش ببحث أمور الدنيا فإذا للغرور حظ وللعجب حظوظ ولآفات النفوس استيطان ؛ فإذا ذكِرَت الآخرة وحصل الاتعاظ رجعت كل الأمور إلى أحجامها ، وهتكت حجب الغفلة ؛ فأضاءت شوارق الأنوار قلوب أهل البصائر ؛ فتكون الدنيا لهم فردوساً قبل الفردوس ، وتصبح زحمتها لا ميدان غفلة ؛ بل ساحة تنبه وكم غافلٍ يلهو في محطات السفر فيفوته الركب بعد الركب ثم توصد الأبواب فإذا هو قارعة الطريق ملقى ، وصاحب النباهة والتشمير يكون أول الراكبين وكلما شمر وتيقظ كانت رحلته أسعد حتى إذا وصل دار السلام بسلام نودي مع أهل الطاعات: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود)6، وكم غافلٍ أتاه ركبه فما انتبه لهم ثم ركب مع صحب غفلة سيرُ قافلتهم عكس سيره فيزداد فوق البعد بعداً ومن ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ؛ قال ابن القيم رحمه الله: والجهل بالطريق وآفاتها والمقصود منها يوجب التعب الكثير مع الفائدة القليلة ، وقال شارح الحكم: من ظن أنه يصل إلى الله تعالى بغير الله قُطِعَ به ومن استعان على عبادة الله تعالى بنفسه وُكِلَ إلى نفسه ، وما رجع من رجع إلا من الطريق ولو وصلوا ما رجعوا!

يا ابن آدم أهل الحق أحبوك فجاءوك ..كرموك فنصحوك.. يا ابن آدم ما لأجرٍ منك طلبوك .. ذكَّروك ووعظوك .. أيقظوك ونبهوك .. بذلوا دماهم وأرواحهم لينقذوك .. ومن الشرك يحموك .. ما كان أهل الشرك من دون الله لينقذوك! رائد الحق قتلوه وهو شفيق حريص يدعوك! أهل الضلال عُبَّادُ دنيا .. وأصحاب نوم وجهل،.. لو تبصرت في آخرتهم لنفرت ... فانتبه فلا يُطغوك (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون * وماليَ لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون * ءأتخذ من دونه آلهة إن يُردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين * إني أمنت بربكم فاسمعون * قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون * وإن كل لمّا جميعٌ لدينا محضرون)7.

والطريق إلى الآخرة تعتريه آفات حذر منها النذير البشير صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هَرَماً مُفَنِّداً (أي مسبباً لنقص العقل واختلاله) أو موتاً مجهزاً أو الدَّجالَ فشرُّ غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمرُّ)8.

فيا خائف الفقر: افتقر إلى الله ويا طالب الغنى استغن بالله ويا مريض الروح استشفِ بكلام الله .. ويا هرم العقل اعتصم بالكتاب والسنة وإلا خَرِفْتَ ويا مقبلاً على الموت استعد له فما لك منه مهرب ويا فاتح قلبك للفتن! أخرجها تُعصم منها ، ويا سادرا لاهياً ... العمر قصير والزاد قليل وأمامك موقف تلقاه بما عملت فاجعل قيامتكَ آخرةَ عبدٍ صالحٍ لا مصيرَ مجرم نائح! اختر المآل.

قال البشير النذير صلى الله عليه وآله وسلم (احتجت الجنة والنار فقالت النار فيًّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة : فيَّ ضعفاءُ الناس ومساكينهم ؛ فقضى الله بينهما أنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليَّ مِلؤها)9، وللموت رجفة في القلب عند المؤمن لا هرباً من موعود الله بل خوفاً من ذنب ما قارفته توبة صحيحة ، أو حياءً من منةٍ ونعمةٍ أضاعها العبد ووضعها في غير موضعها أو صحة ضاع منها ما ضاع في غير سداد ، ووقت وجهد فيه شوائب تخرجه عن المطلوب ، أو موقف حقٍ أضاعه في لحظة جبن حين غفلته عن أن الأرواح والأرزاق بيد الله وأن الروح لا تسلب إلا بإذن باريها ، أو موقف بذلٍ انكمشت يده فيه عن البذل فإذا هي في حب الإتلاف أبذل ، أو حقوق ضاعت أو أوامر نسيت أو طاعات فُرِّط ببعضها أو ذنوب جنح إليها ، أو أنانية طاغية صبغت حياته فما كان فيه كثير نفع لأهله وإخوانه.

يرتجف القلب لكل ذلك وأشباهه وتعروه هِزة وراءها فكرة فيكون تذكر فتبصر فاعتبار فروعة فيقظة فتنبه فهمة فتشمير فعمل صالح يغسل عن العبد كل الشوائب والآفات ؛ أوله طهور ووضوء ، وصلاة مقبل ما من شيء يَفضُلها في إزالة الذنوب والعيوب وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مراتٍ هل يبقى من درنه شيء ؛ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا)10.

فإن الصلاة ليست قياماً وركعواً بالجسم والقلب غافل ؛ بل هي عبودية وسجود في انتظامٍ كل الكون خاضع له (والنجم والشجر يسجدان)11 وما من ساجدٍ لله إلا وله في ساحات الحياة شموخ يعلو به فوق فتن المال والدور والقصور والجاه والمناصب والآفات والشهوات ، وله نسب مع صحابي كريم: خبيب بن عدي ، وقف وسط الشرك ؛ في قلبه إيمان وفي لسانه ثبات :

وقد عرضوا بالكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مدمع

وما بي حذار الموت وإني لميت ولكن حـذاري حر نــار تلفَع

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبـارك على أشـلاء شلو ممزع

ينطق بذلك بعد ركعتين ما كان شيء أحسن منهما ؛ فتعلمها ابن جبير فقال للظالم لمَّا هدده : لو علمت أن الجنة والنار بيدك لاتخذتك إلهاً. وما كان الموت ليوهن بل هو بوابة الحياة ، ومن ظن أن التذكير بالآخرة ونشر فقه الاتعاظ بالموت يضعف الناس ويدعوهم إلى العزلة والانطواء فهو واهم ؛ فإن ذلك فهم المبتدعة الذين استقوا الزهد من غير منابع الإسلام الصافية ؛ أما أمة لا إله إلا الله ففتحت الأرض لما عرفت سر الموت ، وأوجز خالد في وصيته لجنده فقال: (اطلبوا الموت توهب لكم الحياة) فإن الدنيا دار غرور وشهوات زائلة وملذات فانية وهي سراب ؛ من صدَّق به عاش عمره عبداً له يخاف فواته فإن عرف حقيقتها وكان همه الآخرة امتطاها وجعلها في قبضته ، وكان سيره دائماً في توازن تعلمته الأمة من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إذ دعا فقال: (اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر)12.

وإذا تطهر العبد بركعتيه وسجد مع الساجدين وخرجت الدنيا من قلبه إلى يده وعلم أن الدنيا ساعة وهي ليست بدار مُقام وأن القبر آخر منازلها ؛ هنالك تحصل العظة ، و(الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني)13.

وسراب الحياة يملؤها بالطمع أو الجبن أو التهالك أو الانطواء ؛ فيأتي ذكر الموت فيطيح بالسراب فتظهر الأمور على حقائقها ، ومن أجل أن القبور تذكر بالموت فقد قال الهادي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)14، والجاهل لا يعرف أن للمؤمن مع أهل القبور خطاب بليغ يتعظ به وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:(السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)15، يا أيها الناس، الدنيا تلهينا والعمر يطوينا وكم من وهم نعيشه.

وبسبب قسوة القلب والغفلة يمعن البعض بعدم سماع أي شيء يذكرهم بالموت ظانين أنهم سيفلتون! (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم)16، ورحم الله الرافعي إذ يقول : من يهرب من شيء يتركه وراءه إلا القبر فما يهرب منه إلا وجده أمامه! هو أبداً ينتظر غير متململ وأنت أبداً متقدم إليه غير متراجع ؛ ذلك الواعظ الصامت يذكر بالآخرة :

الناس في غفلة والموت يوقظهم وما يفيقون حتى ينفد العمـر

يشـيعون أهاليـهم بجمعـهم وينظرون إلى ما فيه قد قبروا

ويرجعـون إلى أحـلام غفلتهم كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا

فاعتبروا يا أيها الناس .. فمن قصص أهل الاعتبار نتعلم.

العابد الزاهد أحمد بن أبي الحواري قال فيه يحيى بن معين: أظن أن أهل الشام ليسقيهم الله الغيث به ؛ زوجة أحمد عابدة مشهورة اسمها رابعة الشامية قالت: ما سمعت الأذان إلا ذكرت منادي القيامة ، ولا رأيت الثلج إلا رأيت تطاير الصحف ، ولا رأيت جراداً إلا ذكرت الحشر ، ومن قبلها الحسن البصري ؛ أمسى صائماً يوماً فجاءوه بطعام عند إفطاره فلما قرب إليه عرض له قوله تعالى: (إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً)17 فقلصت يده عن الطعام وقال: ارفعوه فرفعوه فأصبح صائماً ؛ فلما أراد الإفطار ذكر الآية فقلصت يده عن الطعام ؛ فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء فقال: أدركوه قبل أن يتلف ؛ فما زالوا به حتى سقوه شربة سَويق.

أما الصحابي الجليل حممة فبات ليلة عند التابعي هَرِمِ بن حيان العبدي ؛ فرأى دموعه تجري طول الليل ؛ فقال: ما يبكيك ؛ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور ، ثم بات ليلة ثانية فبات يبكي ، فسأله فقال: ذكرت ليلة صبيحتها تتناثر النجوم ، وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرَّ على الحدادين فبَصِرَ بحديدة قد أحميت فبكى ... ذكَّرَتهُ النار.

أما عبد الرحمن بن عوف فقد أتي بطعام وكان صائماً فذكر مصعب بن عمير وشبابه ورقته ، وكيف أكرمه الله بالشهادة وما كان له إلا ثوب واحد إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه فبكى حتى عاف الطعام ... وصدق صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)18.

  المبادرة ... المبادرة ؛ يناديكم الحسن البصري ؛ فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم. إنكم أصبحتم في أجل منقوص والعمل محفوظ والموت والله في رقابكم ، والنار بين أيديكم فتوقعوا قضاء الله عز وجل في كل يوم وليلة.

لقد فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً!

وإن أمراً هذا الموت آخره لحقيق أن يزهد في أوله!

وإن أمراً هذا الموت أوله لحقيق أن يخاف آخره!

فاجتهد يا بن آدم كي تكون نهايتك في مقام صالح ويقال لك (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنَّتي)19.

الإحالات:

1- الزخرف 64.

2- الشورى 17.

3- الزمر 41.

4- الزمر 54.

5- مسلم ، الزهد والرقائق 2958.

6- ق 34.

7- يس 20-32.

8- الترمذي ، الزهد 2306 وقال حديث حسن غريب.

9- البخاري ، تفسير القرآن 4850 / مسلم ، الجنة وصفة نعيمها وأهلها 2846.

10- البخاري ، مواقيت الصلاة 528.

11- الرحمن 6.

12- مسلم ، الذكر والدعاء 2720.

13- الترمذي ، القيامة والرقائق والورع 2459 ، وقال حديث حسن.

14- مسلم ، الجنائز 977.

15- مسلم ، الجنائز 974.

16- الجمعة 8.

17- المزمل 12-14.

18- أخرجه الترمذي وغيره ، فضائل الجهاد 1633 ، وقال حديث حسن صحيح.

19- الفجر 30.

0 التعليقات:

إرسال تعليق