الجمعة، 8 مايو 2015

وجوب تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما ونبذ ما خالفهما


وجوب تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما ونبذ ما خالفهما

-----------------------

فمما يعلمه المسلمون جميعاً أن الله خلق الجن والإنس لعبادته سبحانه وتعالى، ويعلم كثير منهم تعريف العبادة بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ولكن الغالبية العظمى من المسلمين قد يجهلون أو يتجاهلون أن العبادة الحقة تشمل جميع مناحي الحياة دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها وتقتضي الانقياد التام لله تعالى أمراً ونهياً اعتقاداً وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله بحيث يحل ما أحل الله ورسوله ويحرم ما حرم الله ورسوله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله متجرداً من حظوظ نفسه ونوازع هواه، ويستوي في ذلك الانقياد والخضوع والسلوك والالتزام يستوي فيه الفرد والجماعة والرجل والمرأة، فلا يكون عابداً لله من يخضع لربه في بعض جوانب الحياة ويخضع للمخلوقين في جوانب أخرى، ولا يتم إيمان المسلم إلا إذا آمن بالله ورضي بحكمه في القليل والكثير وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شئون حياته في الأنفس والأموال والأعراض وإلا كان عابداً لغير الله تعالى.

قال سبحانه: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)). فمن خضع لله تعالى وأطاعه وتحاكم إلى شرعه فهو العابد له، ومن خضع إلى غير الله وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له، والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والقوانين الوضعية التي يتحاكم إليها الناس اليوم حتى الدول التي تتحاكم فيما بينها إلى غير القرآن والسنة فالتحاكم إليها ينافي الإيمان بالله عز وجل وهو كفر وظلم وفسق.

وهذه الصفات الثلاث التي وردت في كتاب الله في آيات متتاليات يفسرها القرآن الكريم في آيات أخرى لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً ويعتبر ذلك أقوى دليل، ونحمد الله عز وجل على نعمه وآلائه المتعددة ومن أهمها تطبيق شرع الله في هذا البلد والحكم بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما، والثناء لله وحده الذي وفق ولاة أمرنا لذلك، فهذه منة عظمى ونعمة كبرى أنعم الله بها علينا في هذه البلاد الطاهرة، قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]. وقال عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]. وقال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

ولقد حرم الله عز وجل الحكم بغير ما أنزل كما حرم الكفر والظلم والفسوق والنفاق والعصيان، وجعل من لا يحكم بما أنزل الله كافراً وظالماً وفاسقاً، والظلم والفسق بمعنى الكفر كما ورد ذلك في آيات عديدة، فيكون فسق من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه هو الكفر، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافراً بنص القرآن على تفصيل في ذلك لبعض العلماء والمفسرين من جهة الاعتقاد والرضى وغيرها من القوانين الوضعية، ولكن علينا أولاً أن نتدبر الأدلة من الكتاب والسنة ونعلم أن الأمر خطير وليس بالأمر الهيّن. فالدليل على أن الظلم كفر قول الله عز وجل: إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وقوله تعالى: والكافرون هم الظالمون [البقرة:254]. وقوله تعالى: وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرونَ [العنكبوت:49]. وغير ذلك من الآيات.

أما الدليل في التعبير عن الكفر والظلم بالفسق فقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]. وقوله تعالى عن المنافقين: إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]. وقوله سبحانه وتعالى: وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. وقوله سبحانه وتعالى: فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:59]. وقوله تعالى: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]. وقال تعالى عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].

وعقب على ذلك في الآية التي تليها من سورة التوبة بقوله عز وجل: وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [التوبة:68]. وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140]. وقال سبحانه: ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73]. وقال عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

وتبين هذه الأدلة وغيرها مما سيأتي أن الحكم بغير ما أنزل الله ظلم وفسق وأن ذلك كفر بالله عز وجل وعدم إيمان به تعالى، ولكنه يختلف كل بحسب حاله، فظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، كما ورد ذلك في آيات أخرى من القرآن الكريم ولكن التعبير بالظلم والكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله وأنهما بمعنى واحد تفسرها آيات أخرى كذلك، ولنتدبر ولنتأمل الآيات التالية من كلام الله عز وجل. قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:59-65].

وذكر الله عز وجل في سورة المائدة في آيات متتاليات وجوب تحكيم ما أنزل الله عز وجل وترك ما سواه، ورد ذلك في أكثر من عشرين آية، وفي نهاية كل آية من الآيات الثلاث قول الله عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]. وقال عز وجل: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]. وقال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]. وفي الآية التي تلي هذه الأخيرة قول الله عز وجل: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ [المائدة:48]. وفي الآيتين التي بعدها قال عز وجل: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].

ولنتأمل الآيات التاليات التي تصف حال المنافقين في كل زمان ومكان كأنها نزلت علينا في هذه الأيام تصف حال الذين في قلوبهم مرض يخجلون ويتخوفون من الكفار من يهود ونصارى وغيرهم ويدسّون رؤوسهم في التراب ويتوارون منهم موالاة لهم وخوفاً منهم ولا يستطيعون تطبيق شرع الله ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فنحتاج إلى الكفار، مع أنه لا يتعارض تطبيق شرع الله مع التعامل معهم حسب ما ورد في القرآن الكريم وفي سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى بعد تلك الآيات مباشرة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51-52]. ثم عقّب سبحانه بعد آية من هذه بوصف للقوم الذين يأتي بهم الله سبحانه إن ارتد المؤمنون عن إسلامهم وخجلوا وتخوفوا من الكفار فقال سبحانه وتعالى: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].

ثم عقب عز وجل على ذلك بالآية التي تحصر وتقصر ولاء المؤمنين لله ورسوله والمؤمنين الذين وردت صفاتهم في الآية هذه وفي آيات أخرى فقال سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56]. ثم ينهى الله المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى الموصوفين بأهل الكتاب وعن الكفار عموماً عن اتخاذهم أولياء وهو ما يسمى بالبراء، والآية الأولى تدل على الولاء، وعلى المؤمنين أن يتقوا الله عز جل في ذلك إن كانوا مؤمنين حقاً، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:57].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد والأمر كله وهو اللطيف الخبير وهو على كل شيء قدير القائل سبحانه: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ [الأعراف:54]. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فقد قال الله عز وجل فيما أنزله على رسوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً [النساء:105]. وقال عز وجل: وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد:37]. فمما تقدم من الأدلة في الآيات التي ذكرت ومما لم يتسع المقام لذكره يتبين لكل مسلم أن تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله وأنه من مقتضى العبودية لله والشهادة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تُعامِل به أي دولة رعيتها أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل زمان ومكان، وفي حال الاختلاف والتنازع العام والخاص سواء كان بين دولة وأخرى أو بين جماعة وجماعة أو بين مسلم وآخر، فالحكم في ذلك كله سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر وهو أحكم الحاكمين، وهو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم، فالحكم لله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]. ولا إيمان لمن يعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو أنها تماثلهما وتشابههما، أو من تركها وأحل محلها الأحكام والقوانين الوضعية والأنظمة البشرية وإن كان معتقداً أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل لما تقدم من الأدلة.

كما أنه لا يجوز الإيمان والعمل بما يهوى الإنسان ويترك ما لا يهواه، فهو بذلك يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعضه ويناله الخزي في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد كما قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]. وقال تعالى: قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78]. وقال تعالى: لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وقال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36]. فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم وأهل الحل والعقد فيهم أن يتقوا الله عز وجل ويحكّموا شريعته في بلدانهم ويقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وعلى عامة المسلمين في كل بلاد العالم وطالب العلم والجاهل أن يطالبوا حكامهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يعتبروا بما حلّ في بلادهم وغيرها من بلاد المسلمين التي أعرضت عن حكم الله وينظروا ما حصل فيها من الاختلاف والتفرق والفساد وضروب الفتن وقلة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضاً وينتهك حرمة وعرض غيره ولا يطبق بحقه شرع الله، ولا يزال الأمر في البلاد المعرضة عن تطبيق شرع الله في شدة،ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عنهم سياسياً وفكرياً واقتصادياً إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه الله لعباده وأمرهم به ووعدهم عليه جنات النعيم. قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127]. ونحن هنا في بلاد الحرمين الشريفين نحمد الله عز وجل على جميع آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها نعمة الأمن التي نتفيؤ ظلاله بسبب تطبيق شرع الله وإقامة الحدود على المجرمين والساعين في الأرض فساداً، نحمد الله عز وجل الذي هيأ لنا قضاة يحكمون بالكتاب والسنة وولاة أمر ينفّذون الأحكام الشرعية فاجتمع بذلك عدل القضاة والحكام وسيف السلطان وسوطه فارتدع كثير من أهل الشر والفساد والإجرام عن الإقدام على جرائمهم بسبب خوفهم من إقامة الحدود عليهم، وهذه نعمة عظيمة في هذه البلاد الواسعة المترامية الأطراف محسودون عليها من أمم وشعوب كثيرة في هذا العالم المعاصر لو لا الله الذي وفق قادة هذه الأرض المباركة إلى ذلك لرأينا وعشنا وذقنا ما يذوقه غيرنا في هذا العالم الذي يموج بالفتن والصراعات حتى لا تكاد تمر ساعة إلا وتسمع الأخبار المؤلمة التي تعيشها البشرية في ذلك العالم الذي يزعم ويدعي القيام بحقوق الإنسان وهو إلى عقوق الإنسان وظلمه أقرب، نعم العقوق بالعين وليس بالحاء. حيث سعوا إلى عقوق المعتدى عليهم وظلموهم، وادعوا حقوق المجرمين لأنهم يريدون السير في ركابهم باسم البريق الزائف من حقوق الإنسان.

فعلينا أن نشكر الله عز وجل قولاً وعملاً واعتقاداً على ما أولانا من النعم ونتعاون على البر والتقوى وكل ما فيه صلاح ديننا ودنيانا وآخرتنا، ونحكم بشرع الله ونحب ذلك من سويداء قلوبنا وندعو الله لمن ولاه الله أمرنا بالثبات على ذلك والسداد والتوفيق، وإن كانوا قد أعلنوا ذلك ولا زالوا بين كل حين وآخر بأن هذه الدولة قامت على كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وستظل بإذن الله عز وجل، ولم يمنعها تطبيق تعاليم الإسلام من الأخذ بأسباب الرقي والتقدم في جميع المجالات المعيشية التي تحتاج إليها حيث أكسبها ذلك عزة ورفعة ومهابة بين الدول وفي نفوس جميع الحاقدين والمفسدين أفراداً وجماعات، وليس في ذلك أي تأخر بل هو التقدم بعينه، أي الحكم بما أنزل الله، والعكس هو الصحيح، أي أن من لم يحكم بدين الإسلام فهو في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وإن كانوا يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري الموافق القرن الواحد والعشرين الميلادي، كما قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. وقوله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124]. فلله الحمد والمنة، وله الثناء كله، قال تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53]. وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].

إن الواجب على علماء المسلمين اليوم كبير، ومن بعدهم طلبة العلم حول بيان وشرح أحكام الإسلام ونشرها بين المسلمين، إن واجبهم أن يرفعوا رؤوسهم ولا يدسّوها في التراب. إن واجبهم أن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم، وما تكاد تمر بالأمة الإسلامية حادثة أو سحابة صيف إلا وتنكشف أمور تخشى عواقبها وما وراءها على كثير من المسلمين، والسبب الأول والأساسي في ذلك هو التخاذل وعدم الصراحة والأنانية وحب النجاة كل بمفرده أو السكوت وتكميم الأفواه وإخراس الألسن وتحطيم الأقلام التي تقول الحق وتنير الطريق للعباد في دياجير الظلم والفساد، وليس أدل على ذلك من واقع المسلمين اليوم وفي شتى بقاع الأرض و خلال السنوات الماضية وما مر بهم وما يعيشونه اليوم من الحروب الحقيقية القتالية والكلامية الساقطة، وعندها تتجلى الحقائق وينكشف المخبوء ويظهر الغثاء والزبد على الساحة، وعندها يعرف المسلمون عامة ومنهم العلماء وطلبة العلم ماذا تم تقديمه لهذه الأمة اللاهثة التي لا تفقه كثيراً من أحكام دين الإسلام ومن أوجب الواجبات عليهم ويعلمون مدى تقصيرهم في إبلاغ رسالة ربهم. حتى آل أمر المسلمين إلى جهل أبناء المسلمين بإسلامهم وتخاذل علمائهم وظلم حكامهم.

إن سبب جهل المسلمين بإسلامهم هو كتمان العلم وعدم البيان من قبل العلماء والرضا بالحياة الدنيا ومتعها الزائلة وطلب رضا الناس بسخط الله عز وجل حتى اتخذ الناس رؤوساً ورؤساء جهالاً بدين الله فضلوا وأضلوا وأحلوا كثيراً مما حرم الله مثل الربا والغناء والحكم بغير ما أنزل الله وإيجاد المبررات لذلك في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك كثير حتى استساغ المسلمون تلك الأوضاع وعاشوا في الأوحال، وعندما يطبق شرع الله أو يطالب أحد بتطبيق شرع الله أو حد من الحدود عندها يتضح انتساب المسلمين إلى الإسلام فقط، ولا ينفعهم الانتساب، خاصة الذين يستنكرون تطبيق أي حد من حدود الشرع، أو يندّدون بمن يفعل ذلك أو يستهزئون بالإسلام وتعاليمه أو ينطقون بعبارات الشرك والكفر من حيث يشعرون أولا يشعرون، وعلى المسلمين جميعاً أن يتأملوا ويتدبروا وأن يعملوا بهذه الآية التالية المحكمة وبغيرها ولكونها كافية شافية لمن أراد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة حيث أقسم رب العزة والجلال بربوبيته تبارك وتعالى بنفي الإيمان عن أي مدّعٍ لذلك حتى يستوفي ثلاثة شروط متضمنة لتحكيم الكتاب والسنة في أي خلاف واختلاف ومشاجرة وعدم وجود الحرج والرضا بذلك بعد الحكم والتسليم والاستسلام لأحكام الله عز وجل. قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].

0 التعليقات:

إرسال تعليق