الأحد، 3 مايو 2015

مطلب يستحق المنافسة أفق تستحق السباق وغاية تستحق الغلاب


 

 

مطلب يستحق المنافسة أفق تستحق السباق وغاية تستحق الغلاب

-----------------------

قال تعالى: وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]. مطلب يستحق المنافسة، أفق تستحق السباق، وغاية تستحق الغلاب، الذين يتنافسون في شيء من أشياء الأرض، مهما كبر وجل وارتفع وعظم، إنما يتنافسون في شيء حقير فان قريب، والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة هزيلة زهيدة، فهون من شأنها وارفع نفسك عنها..... لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا على الطوق، وتركوا عالم اللهو واللعب للأطفال والصغار، فما السباق إلى ذلك الأفق، وإلى ذلك الهدف، وإنما إلى ذلك الملك العريض، إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض.

إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف، والحشرات الهوام والوحوش والأنعام، وأما الحياة الآخرة فهي الحياة اللائقة بذلك الإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه وأودع روحه الإيمان الذي ينزع به إلى السماء، وإن استقرت على الأرض قدماه، من شاء التفاوت الحق والتفاضل الضخم فهناك في الآخرة، هنالك في الرفعة الفسيحة، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لا في متاع الدنيا القليل الهزيل.

الآخرة ثقيلة في ميزان الله: التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً، بينما التنافس إلى أمر الدنيا ينحط بهم جميعاً، التنافس في الآخرة يرفع الأرواح إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن، إن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف، ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود، أين مجال من مجال، وأين غاية من غاية.

ألا إن السباق هناك: فهلم إلى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام، بلا نصب ولا تعب ولا عناد، بل من أقرب الطرق وأسهلها، ذلك أنك في وقت بين وقتين، هو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ماضي ومستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم، وهو عمل قلب، وما يستقبل تصلحه بالعزم والتوبة، إن مفاوز الدنيا بالأقدام ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.

أخي: إياك أن تكون ممن قال فيهم يحيى بن معاذ الرازي: عمل لسراب قلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك يا هذا، لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة.

إنها الجنة، التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية، تتجلى عليها طلعة الرحمن الجلية البهية.

إخواني: وقد آثرت أن أذكر نماذج من علو همة السلف في طلب الجنة، إنها الجنة التي اشتاق إليها الصالحون من هذه الأمة:

فهذا عمير بن الحمام: الصحابي الجليل، في يوم بدر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض! يقول عمير: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟)) قال: نعم، قال: بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قول: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: ((فإنك من أهلها))، قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.

وذكر ابن جرير أن عميراً قاتل وهو يقول رضي الله عنه:

ركضاً إلى الله بغير زاد …إلا التقى وعمل المعاد

هذا سيد بني سلمة -عمرو بن الجموح- رضي الله عنه لما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى الجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)) فقام وهو أعرج، فقال: والله لأقحزن عليها في الجنة، فقاتل حتى قتل.

إنها الجنة: فسلوا عنها السيد الشهيد جعفر الطيار رضي الله عنه: الذي قال شوقاً إليها في يوم مؤتة:

يا حبذا الجنة واقترابها ……طيبة وبارد شرابها

إنها الجنة: التي غرس غراسها الرحمن بيده، فرحم الله أقواماً عظموا من غرسها وقدروا قدر الغرس في الحديث الصحيح: ((قال: يا رب أخبرني بأعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت وسوف أخبرك، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر))، فقد أخبر أنه غرس جنتهم بيده سبحانه.

إنها الجنة: التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها لكرامتها على الله إنها الجنة، فسلوا عنها أنس بن النضر رضي الله عنه يقول لسعد بن معاذ: (واهاً لريح الجنة .. أجده دون أحد).

في أسد الغابة: (أي سعد، هذه الجنة ورب أنس، أجد ريحها دون أُحد).

إيهٍ يا ابن النضر، طال شوقكم إلى الجنة، وطهرت منكم الأقوال والأعمال والأجساد، فشممتم عبير الجنة، ونحن زكمت أنوفنا بالمعاصي والآثام بجيف الدنيا فلم تجد الجنة فيها موضعاً.

إنها الجنة: دار كرامة الرحمن، فهل من مشمر لها، إنها الجنة: فاعمل لها بقدر مقامك فيها، إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها، يقول ابن القيم رحمه الله: لما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام: أو كطيف زار في المنام، مشوب بأنغاص ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن أسر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات سيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمان بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا: وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، و تشبوا ولا تهرموا، وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بايعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام ما أخفى لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ليعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو مغرور من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً لا تعتريه الآفات لا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون، وبالحور العين يتنعمون، وبأنواع الثمار يتفكهون وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ [الطور:24]. يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71].

تالله لقد نودي عليها في الكساد، فما قلّب ولا استام إلا أفراد من العباد، فوا عجباً لها كيف نام طالبها؟ وكيف لم يسمع بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟ وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟ وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة().

وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول لآدم عليه السلام: ((يا آدم اذهب فأخرج بعث ذريتك إلى النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)).

يا سلعة الرحمن، هل ينالك في علاك إلا كل عالي الهمة غير مخلد إلى الأرض والحطام الفاني:

يا سلعة الرحمن لست رخيصة……بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها…في الألف إلى واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها…إلا أولو التقوى مع الإيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد……بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن أين المشتري…فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب…فالمهر قبل الموت ذوو إمكان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر……الخطاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمن لولا أنها……حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف……وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة……ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى……رب العلى بمشيئة الرحمن

اتعب ليوم معادك الأدنى تجد ……راحاته يوم المعاد الثاني

إنها الجنة: لله قوم نهضت بهم عز الهمم نحو الجنة فساروا إليها مدلجين لم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين، ولكنهم واصلوا السير إلى غايتهم معرضين عن هذا الخزف الخسيس، مؤثرين عليه الذهب النفيس، ساروا إليها تحدوهم أشواقهم قاصدين إليها غير متعثرين ولا معوجين ولا متخلفين حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين، ما ضرهم في الدنيا ما أصابهم، جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم خير آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجلاً يخرج من النار حبواً، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملآى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملآى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا عشرة أمثالها، فيقول: أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) [متفق عليه].

إنها الجنة: دار الموقنين بوعد الله

تسعى بهم أعمالهم سوقاً إلى ……الدارين سوق الخيل بالركبان

صبروا قليلاً فاستراحوا……دائماً يا عزة التوفيق للإنسان

حمدوا التقى عند الممات كذا السرى …عند الصباح فحبذا الحمدان

وحدت بهم عزماتهم نحو العلا ……وسروا فما نزلوا إلى نعمان

باعوا الذي يفنى من الخزف الخسيس ……بدائم من خالص القيعان

رفعت لهم في السير أعلام ……السعادة والهدى يا ذلة الحيران

فتسابق الأقوام وابتدروا لها ……كتسابق الفرسان يوم رهان

وأخو الهوينة في الديار مخلف ……مع شكله يا خيبة الكسلان

إنها الجنة فسلوا عنها الصحابي الجليل حرام بن ملحان رضي الله عنه:

عن أنس بن مالك قال: لما طعن حرام بن ملحان – وكان خال أنس بن مالك – قال: (فزت ورب الكعبة) [رواه البخاري]. وفي رواية أنه نثر الدم على رأسه وقال: (فزت ورب الكعبة).

إنها الجنة: فسلوا عنها الصحابي الجليل عامربن فهيرة التميمي.

لما طعن جبر بن سلمى عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فقال عامر: (فزت ورب الكعبة، ورفع من رمحه فلم توجد جثته، فأسلم جبار لذلك وحسن إسلامه).

قال الزهري: (بلغني أنهم التمسوا جسد عامر بن فهيرة فلم يقدروا عليه) أي لم يجدوا له أثراً.

إنها الجنة: فسلوا عنها سعد بن خيثمة بن الحارث رضي الله عنه:

استهم يوم بدر خيثمة بن الحارث وابنه سعد، فخرج لهم سعد، فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم فقال له سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت فخرج سعد إلى بدر فقتل فيها، ومازال أبوه خيثمة يتطلع إلى الجنة حتى كان يوم أحد، فقتل يوم أحد.

إنها الجنة: فسلوا عنها عبد الله بن غالب رحمه الله:

رآه مالك بن دينار في إحدى المعارك وسمعه يقول وقد تلاحمت الصفوف إني أرى ما ليس عليه صبر.... روحوا بنا إلى الجنة ..ثم كسر جفن سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل.

إنها الجنة: فيها جوار الرحمن وأنبيائه:

لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]. انظر إلى من كملت من النساء، آسية تقول: رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ [التحريم:11]. قبل الدار طلبت الجار.

قالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: البخيل كل البخيل من تبخل عن نفسه بالجنة.

وقال رجل لابن سماك عظني فقال: احذر أن تقدم على الجنة عرضها السماوات والأرض وليس لك فيها موضع قدم، ولنا إن شاء الله مع الحور العين وقفة، وكذلك مع أعظم ثواب أهل الجنة وهو يوم المزيد والتمتع برؤية العزيز الحميد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

0 التعليقات:

إرسال تعليق