السبت، 9 مايو 2015

التوحيد


 التوحيد

-----------------------

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

إن المقصود الذي من أجله خلق الله السماواتِ والأرض والجنةِ والنار، وبه أنزلتِ الكتب، وبه أرسلتِ الرسل، وبه قامتِ الحدود، وبه شرعتِ الشرائع وبه شرع الجهاد، وبه انقسمتِ الخليقة إلى السعداءِ والأشقياء، وبه حقتِ الحاقة ووقعتِ الواقعة، وبه وضعتِ الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنةِ والنّار، وبه عبِد ربّ العالمين وحمِد، وعنه السؤال في القبرِ ويوم البعثِ والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة. إنه التوحيد الذي هو حق الله على العبيدِ: قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:16-17]. أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]. وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ومعنى الآيةِ: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو مقصود خلقهم والحكمة منه، ولم يرِدْ منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانةِ لهم بالرِّزقِ والإطعامِ، بل هو الرزّاق ذو القوةِ المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].

 إن العبد إذا علِم أن الله هو مالك الملكِ ومدبِر الأمر، وأنه خالق السماواتِ والأرض وأنه ينزِّل من السماء ماء فينبت به حدائِق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وأنه جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرينِ حاجزا وأنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، وأنه يهديكم في ظلماتِ البرِ والبحرِ ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزقكم من السماء والأرضِ. إذا علمتم عباد الله ذلك كلِّه وأقررتم به فاعلموا أن ذلك لا يكفي فإن هذا الإقرار قد أقر به المشركون من قبل، قال تعالى في حقِ المشركين: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].

إن مشركي العربِ كانوا يقرون بربوبيةِ الله، وأنه الخالق وأنه الرازق وأنه المانع والضار والنافع، ولكن جعلوا مع الله آلهة أخرى عبدوها من دونِ الله قربوا لها القرابين واعتقدوا فيها النفع والضر، وعبدوا الجن من دونِ الله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]. وجعلوا تقليد الآباءِ دينا يدينون به وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].

فإن التوحيد المقصود  الذي من أجله أرسل الله رسله هو توحيد العبادةِ، والذي حقيقته هو انجذاب الروحِ إلى الله تعالى محبة وخوفا، وإنابة وتوكلا، ودعاء وإخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة.

وبالجملة فلا يكون في قلبِ العبدِ شيءٌ لغير الله، ولا إرادةٌ لما حرم الله ولا كراهةٌ لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله. فمن طاف بالقبرِ وقرب له وسأل صاحبه من دون الله فهو مشركٌ، وإن قال لا إله إلا الله، ومن أحب غير الله مع الله فقد أشرك في محبةِ الله قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ [البقرة:165]. كمن يحب الآلهة ومن يقوم في قلبه إجلالٌ للمحبوبِ وتعظيمٌ له يقتضي أن يجتنب نهيه ويقوم بأمره، فهو شركٌ في المحبةِ وصاحبه مشرك، ولو قال لا إله إلا الله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. ومن اعتقد في مخلوقٍ نفعٍ أو ضرٍ من دون الله فقد أشرك بالله، ومن اعتقد أن أحدا يعلم شيئا من الغيب غير الله فقد كفر، ومن أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد.

فاحذروا من الشرك  بكلِ صوره وأشكاله، فقد يأتي الشرك في صورةِ كرةٍ أو في صورةِ شاشةٍ تعبد من دون الله، تصرف لها الأوقات وتعظم في القلوب وتصرف لها المحبة ويعادى فيها ويوالى فيها، وتقدم على طاعة الله والحقّ، إنها عبادةٌ الهوى قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44].

فالتوحيد التوحيد : إنه أفضل طِلبة، وأعظم رِغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كلِ نجاح، وشفيع كلِ فلاح، يصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غضريفا، يطِّول القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره، وما ذلت إلا باندثاره.

وإن معظم الشرورِ والنكبات التي أصابتِ الأمة الإسلامية، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، فمن مفتونٍ بالتمائمِ والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر وتذهب العين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) ومن الناس من افتتن بالمشعوذين والدجاجلة الأفاكين، ومنهم من هو مفتونٌ بمستقبل الأبراجِ . جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندا، وهو خلقك)) . . الحديث.

 إن من تمام التوحيدِ محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله. ومن حقق التوحيد الخالص نال السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. والمقصود بالظلمِ في الآية كما فسره نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشرك، فمن حقق التوحيد الخالص كان له الأمن والهداية التامّة في الدنيا والأمن والهداية التامة في الآخرة، ومن حقق التوحيد قولا وعملا دخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)).

وإن من ثمراتِ التوحيدِ عباد الله أن الله يكون مع العبدِ يحفظه وينصره ويحوطه بعنايته، فمن كان مع الله كان الله معه. ومن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله في نفسه وخاصته.

ولكم في ذلك حديث الثلاثةِ الذين أطبقتِ الصخرة عليهم الغار، فدعوا الله بصالحِ أعمالهم فكشف الله ضرهم.

وإن من آثارِ التوحيدِ عباد الله، العزة في الدنيا فيرى المسلم أنه عزيزٌ بما يحمل في قلبه من توحيدٍ لله، فهذا ربعي بن عامر يدخل على رستم وهو في أعظم حلةٍ له، ويأتي هذا الأعرابي الذي ما عرف رستم، ولكنه عرف الله ووحد الله، يأتي بثيابٍ صفيقة وسيف وفرسٍ قصيرة، لا ينزل من فوقها حتى يدوس بها بساط رستم، ثم يتقدم ويشق بعض الوسائد ليربط دابته ثم يتقدم يتوكأ على رمحه فوق النمارق، يخرقها برمحه المثلم، ويقول كلمته المشهورة، من مصدر العزةِ والرفعة، عظموا الله فعظم الله شأنهم، ووحدوا الله فوحد الله قلوبهم، قال له رستم وهو ينظر إليه مالذي جاء بكم ؟ فقال في عزةٍ وشموخ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادةِ الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،ومن جور الأديان إلى عدلِ الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعودِ الله).

إنها العزة ، يرى المسلم الموحد أنّ الدنيا كلها رحابه وأنها موطن دعوتِه فهذا عقبة بن نافع يقول: بعد ما وقف على فرسه على شاطئ المحيط: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته بفرسي. قلوبٌ تعيش هم الإسلام وتحيا للإسلام وتموت للإسلام قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

قال صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) لو ترك كل مولودٍ على فطرته لكان بطبيعته موحدا لله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]. فربوا أبناءكم عباد الله على توحيد الله، لا يرون منكم ما يخالف التوحيد من الأقوال والأفعال، وعلموهم التوحيد واربطوهم بالله وخوفوهم به وحده، وعلموهم سؤال الله وطلبِ الحاجاتِ منه وحده، ربوهم على المحافظةِ على الصلوات، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث يقول مربيا وموجها عبد الله بن عباس: ((يا بني إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لواجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).

ارقوا أنفسكم بأنفسكم، وارقوا أبناءكم، وتداووا بكلام الله، ففيه الشفاء، إذا خالط القلب توحيدٌ وإيمانٌ بالله ويقين، علقوا القلوب بالله ولا تعلقوها بأحدٍ غير الله، ولا تكثروا الشكوى والأنين،فإن كل ذلك مما يضعف التوحيد في القلوب، لقد كان الموحد يقرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]. تحول هذه الآية بينه وبين الخلقِ جميعا، وتسد عليه طريق الرغبة فيما عند العباد، فترى المصائب تمر به جميعا، فلا يدل مخلوقا على مكان ألمه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علته، ولا تسمع منه أذنٌ مخلوقةٌ قولة:آه، تى لقد كان تسقط من أحدهم عصاه، فلا يقول لأحدٍ: ناولنيها. كيف لا، وقد بايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئا.

اللهم اجعلنا من عبادك الموحدين، الذين لا يدعون إلا إياك، ولا يرجون إلا إياك، وإياك نعبد، وإياك نستعين.

اللهم وفقنا لعمل الصالحات والإكثارِ من الطاعات، وارزقنا الإخلاص في النيات، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ [البينة:5].


0 التعليقات:

إرسال تعليق