الاثنين، 4 مايو 2015

الله عز وجل


 

 

الله عز وجل

-----------------------

قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ [البقرة:165]. وقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. قال أبو سليمان الداراني: لما ادعت القلوب محبة الله، أنزل الله لها محنة قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].

وشأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه أن يحبك مولاك ولا يحصل هذا إلا بالاتباع، وذكر الله حسرة أهل النار وقولهم لآلهتهم قال تعالى: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:98]. ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال ..........الحديث)) والأحاديث في هذا كثير.

نقول: إنه لا يحب لذاته إلا الله تبارك وتعالى، وكل محبة وجدت فهي تبع لمحبة الله ومن أجله سبحانه، أما هو سبحانه فيحب لذاته لما له من جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال، ولنعمه الباطنة والظاهرة والتي لا تنقطع بمعاصي خلقه، وإذا طلعت شمس التوحيد وباشرت جوانبها الأرواح، ونورها البصائر تجلت بها ظلمات النفس والطبع، وتحركت بها الأرواح في طلب من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه توقظه إذا رقد، وتذكره إذا غفل، وتحدو به إذا أساء، وتقيمه إذا قعد، إن قام بقلبه شاهد من الربوبية والقيومية ما رأى منه أن مولاه له الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ليس لأحد معه من الأمر شيء مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:2-3].

حين تستقر هذا الصورة التي تحملها هذه الآية الكريمة في قلب بشر يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعها، إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض، وتصله بقوة، ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق لو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، ولا سعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء، إنها رحمة الله .

المال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان تصبح مصادر قلق ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان، يبسط الله الرزق – مع رحمته- فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة، ويمسك رحمته فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار، ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هو زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته فإذا الذرية وباء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب النهار، يعطيك الله رحمته ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته، فإذا هي نعمة وحياة طيبة والتذاذ بالحياة، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسد ويفسد الروح ويدخر السوء ليوم الحساب، ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان، ولا في أي حال، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن، وجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، وجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ،كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه، وجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور فقال بعضهم لبعض فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ [الكهف:16]. ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار، ووجدها شيخ الإسلام ابن تيمية حين أدخل السجن فقال بعزة واستعلاء فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]. ووجدها كل من آوى إليها يآئساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة وقوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب، فاللهم رحمتك يا أرحم الراحمين، وإذا عرجت يا بوادي المحبة تلوح لك نعوت الجمال لمولاك، فتشاهد ببصائر الإيمان صفات الكمال لمولاك، حتى كأنك تنظر إلى عرش الرحمن بارزاً وإلى استوائه على عرشه، يدبر أمر الممالك يأمر وينهى، ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِى يُحىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80]. وقال تعالى: قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12].

أحاط بكل شيء علماً، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، قال تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. وقال تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10]. وقال تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاواتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].

وهو العليم أحاط علماً بالذي……في الكون من سر ومن إعلان

وكذاك يعلم ما يكون غداً وما……قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك علم لم يكن لو كان ……كيف يكون ذا إمكان

أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، وسع سمعه الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا تختلف عليه ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]. قال تعالى: وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. يعلم السر وأخفى من السر، فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه ما لم يخطر بعد فيعلم أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا، تقول الصديقة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها: إن امرأة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعض، إذا أنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا [المجادلة:1]. ولله در ابن القيم حين يقول:

وهو السميع يرى ويسمع كل ما……في الكون من سر ومن إعلان

ولكل صوت منه سمع حاضر……فالسر والإعلان مستويان

والسمع منه واسع الأصوات ……لا يخفى عليه بعيدها والداني

وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، يرى عروقها ومخها ولحمها وحركتها يرى من البعوض حركتها في ظلمة الليل.

يا من يرى مد البعوض جناحها…في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى نياط عروقها في نحرها…والمخ في تلك العظام النحل

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19]. له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة وله النعمة والفضل وله الثناء الحسن، له الملك كله، وله الحمد كله وبيده الخير كله شملت قدرته كل شيء ووسعت رحمته كل شيء.

وهو الحميد فكل حمد واقع أو …كان مفروضاً مدى الأزمان

ملأ الوجود جميعه ونظيره……من غير ما عم ولا حسبان

هو أهله سبحانه وبحمده……كل المحامد وصف ذي الإحسان

يرفع أقواماً ويخفض آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) قال صلى الله عليه وسلم: ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد))، ((أطت السماء ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده)) لو أن أهل سماواته وأهل أرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو أن خلقه أولهم وآخرهم إنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.

أ لو أن أشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام، والبحر وراءه سبعة أبحر تمده من بعده بالمداد، فكتب بتلك الأقلام، وذلك المداد لفنيت الأقلام ونفد المداد ولم تنفد كلمات الخالق تبارك وتعالى: لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:26-27].

هو الأول ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، كل شيء هالك إلا وجهه، كل ملك زائل إلا ملكه لن يطاع إلا بإذنه ورحمته، ولن يعصى إلا بعلمه وحكمته، يطاع فيشكر، ويعصى فيتجاوز ويغفر، كل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، عطاؤه كلام، وعذابه كلام إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون أحق من ذُكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، أجود من سئل، وأكرم من قصد، أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء سبحانه وبحمده.

ا

أما عن السبب الثاني الذي من أجله يحب المولى عز وجل وهي نعماؤه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، فتدبرها جيداً، فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ولا أحد أعظم إحساناً من الله، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. يقول تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]. يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً ،ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويشفي مريضاَ، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة، هذا باب واسع، والمقام مقام اختصار.

لذا فإني أعرج سريعاً على رحمته بعباده وكرمه يقول صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)) [رواه البخاري ومسلم].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، وأخرّ تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رحيم، حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيراً)).

أما نعمة الظاهرة على خلقه فتأمل معي قول الحق تبارك وتعالى: وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فصلت:39]. وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاْبْصَارِ [النور:43]. وقال: وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]. هذه النعمة التي لا تقدر معشر العطاش إلى رحمة ربكم، نعمة الري للأرض والإنسان،هذه الأرض الظامئة إلى الماء إن جفت ينابيعه وغاصت آباره من يأتي بالماء سوى الله: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ [الملك:30]. أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [المعارج:68-70].

والذي نفسي بيده ما أدينا حق الشكر لمولانا على الماء الذي نشربه وتتوالى النعم التي لا تحصى في سور القرآن في الأنعام والنحل والنبأ والمرسلات ويس والروم وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].

كيف لا تحب من أنست به قلوب العارفين، وولهت من محبته أفئدة المشتاقين، كيف لا تحب من أنت به وبقاؤك منه، وتدبيرك بيده، ورجوعك إليه، وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وصنعه وزينه وعطف النفوس إليه.

من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف غدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب، فيا معرضاً عن حياته الدائمة، ونعيمه المقيم ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب المقيم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه في رضاه، إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، أٌقبل على مولاك - يا أخي - يقبل الله عليك، فإن الله إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله، وتوجه إليه الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة فإنهم تبع لمولاهم، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بكرامته، فبادر طي صحيفتك واجعل الهم واحداً واجعله في الله، دع عنك غيره، واجعل نبضات قلبك وقفاً على مولاك، ودع عنك الكسل والتوان،ي واسأله الإعانة والتوفيق.

فحيا هلا إن كنت ذا همة فقد……حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

وقل للمنادي حبهم ورضاهم……إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا

وخذ قبساً من نورهم ثم سر به……فنورهم يهديك ليس المشاعلا

وإذا أردت باباً أقرب إلى الله وأوسع ولا مزاحم فيه فادخل من باب الذل والافتقار، فإن لانكسار القلب تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه، الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله غاية شمر إليها السالكون وأمّها القاصدون كيف لا، والعبد يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقار تاماً إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته.

فما أٌقرب الجبر من هذا القلب المكسور، وما أدنى الرحمة والنصر والرزق منه، وما أنفع هذا الذل له وأجداه عليه، وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، فلله ما أحلى قوله وهو يتملق ربه خاضعاً له ذليلاً مستعطفاً له يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، وله مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجاً ولا منجا له منك إلى إليك، فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن الوالدة بولدها، إذا فر عبده إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق