الأحد، 10 مايو 2015
وقفة أمام بوابة الزمن
وقفة أمام بوابة الزمن
-----------------------
وهكذا في لمح البصر يطوى تاريخ طويل طالما عشنا فيه آلاماً وآمالاً، وطالما كانت لنا فيه ذكريات وطموحات، وطالما جئنا فيه وذهبنا، وعملنا وتركنا، وفعلنا ولم نفعل.
إننا نقف الآن على مفترق الطرق، ننظر هنا فنرى عاماً كاملاً قد شد رحاله وطوى صفحته وتهيأ للرحيل ... الرحيل الذي لا عودة بعده.
وننظر هناك فنرى عاماً جديداً، جاء محملاً بحوادثه، ووقائعُه محجوبة بحجاب الغيب، مستورة بستار القدر ... ثم ما تلبث أن تنكشف شيئاً فشيئاً.
ماذا حدث في العام الماضي؟ وما ذا سيحدث في العام الجديد؟
كم من فقير مسلم ـ في عامنا الماضي ـ هام على وجهه؟!
كم من مشرد كان له بيت فصار بلا مسكن ولا مأوى؟!
كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر؟!
كم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتل غليظ؟!
كم من بلد استبيحت حرمته وسلبت أراضيه؟!
كم من أرض أحرقت ظلماً لا لشيء إلا لأن أهلها يقولون: ربنا الله؟!
كم وكم من الصور المؤلمة حملها عامنا الذي سيرتحل في حقيبته؟
أيها العام قد طويت جناحاً …وتهيأت للرحيل البعيد
سوف تمضي وقد تركت قروحاً……داميات بقلبي المجهود
أنا مازلت أنشد الشعر لكن……نغم الحزن لم يفارق قصيدي
هكذا كان .. وانطوى عام كامل من عمر أمة الإسلام.
لست أنكر أنه كانت فيه نقاط مضيئة مشرقة، ولكنها كادت تضيع في وسط ركام الأحزان والآلام.
ولئن انقضى هذا العام أو كاد، فهذه دعوة للمسلمين أن يفكروا في حال الإسلام والمسلمين .
دعوة إلى أن يحققوا في الواقع قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
دعوة إلى أن يعوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
نعم ... إن الإسلام اليوم لم يعد يشغل حيزاً ولو صغيراً من أذهان كثير من المسلمين ..
وإلا فأخبرني يا أخي ...
كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟
كم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟
كم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لألئك المساكين المستضعفين؟
بل أخبرني ... كم مرة حرصت على متابعة حال إخوانك المسلمين؟ ما أكبر الفضيحة ! وما أعظم المأساة!
نحن مدعوون إلى أن نتخذ من هذه اللحظة التاريخية منطلقاً نحو وعي أكبر بقضايا أمتنا، وتفاعل أفضل مع مشاكلها وبداية لنمط جديد من التفكير يكون للإسلام ولأمة الإسلام حظ كبير منه غير مبخوس ولا منقوص.
وكما ينبغي أن تكون بداية العام بداية لعهد جديد مع أمتك، فيجب أن تكون بداية لعهد جديد مع نفسك. نعم لا بد من وقفة محاسبة وتأمل.
قال الحسن البصري: "لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر ليمضي قدماً ما يعاتب نفسه".
إنها إذاً المحاسبة التي قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر)، فهل تزينا للعرض الأكبر بمحاسبة أنفسنا؟
وانظر إلى قول المولى عز وجل: لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]. فإذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا عليه فما الظن بالكافرين؟
وانظر إلى قوله تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [الأعراف:6]. يا لله حتى المرسلون يسألون.
إن الله عز وجل يحاسب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة، يدون عليه كل شيء حتى إذا جاء يوم القيامة نشرت الدواوين وكشفت المخبآت، ولا تسل يوم ذاك عن حال الغافلين الذين لم يحاسبوا أنفسهم في الدنيا، لا تسل عن حالهم حين تجبههم صحائف أعمالهم وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
نعم كل شيء مكشوف، كل شيء مسجل وقد أحصاه الله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7].
كل شيء يسأل عنه الإنسان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد)) [الترمذي].
وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن فسمع أن الأنين يكتب فسكت حتى فاضت روحه رحمه الله.
هكذا إذن يحاسب الإنسان يوم القيامة على كل صغيرة وكبيرة من أمره، على أقواله وأفعاله ونياته، وتقام عليه يومذاك الشهود وأي شيء أعظم من أن يشهد بعضك على بعضك، روى الإمام مسلم [2969]. عن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فضحك فقال: ((هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال: فيقول بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)).
مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً……مستوحشا قلق الأحشاء حيراناً
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل……فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته……اقرار من عرف الأشياء عرفاناً
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي……امضوا بعبد عصى للنار عطشاناً
فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها، وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً، فياحسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.
يا إخوتاه … هل من محاسب نفسه في دنيا ليخفف على نفسه في أخراه؟
وحين أقف أنا مع نفسي وتقف أنت مع نفسك وتمحص أيامك السالفات في عامك الماضي فتنظر ما كان من حسن فتثبت عليه وما كان من سيء فتجتنبه، حين نفعل ذلك نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة للإصلاح، وأخذنا بيد أنفسنا للخير والفلاح.
فماذا يا ترى أودعنا في عامنا الماضي؟
هل أودعنا فيه صلاة وصياماً وذكراً ودعوة وبكاء وخشية وتوبة وصبراً على المكاره وقياماً بأمر الله؟ أم أودعنا فيه لعباً ولهواً وقضاء للشهوات واغتراراً بمتاع الدنيا الفاني؟
هل رآنا الله نتهجد في ظلمات الأسحار ونحني أصلابنا على القرآن الكريم، ونبلل الأرض بالدمع في خشوع؟ أم رآنا ساهرين على مشاهدة الحرام وسماع الحرام، لا هين عما أمرنا الله به، مقبلين على ما نهانا عنه؟
أسئلة كثيرة يجب أن نجيب عنها بصدق وصراحة وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان.
أيها الأخ ألا ترى أن انقضاء العام بهذه السرعة العجيبة مؤذن بانقضاء عمرك كله ورحيلك إلى الدار الآخرة؟ أليس عمرك بضعة سنوات كلما انقضت سنة دنوت إلى قبرك؟
كل يوم يمر يأخذ بعضي …يورث القلب حسرة ثم يمضي
أفلا تذكرت واعتبرت بدنو الأجل وقرب الرحيل! كم ودعت في عامك الماضي من حبيبب؟ وكم فارقت من غال؟ وكم حملت من جنازة إلى قبرها، ونفس تزجى لأمر ربها؟
أما كان لك في ذلك موعظة؟ أما تخشى اليوم الذي تكون فيه محمولاً لا حاملاً، ومغسولاً لا غاسلاً، ومدفوناً لا دافناً؟ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
إنه الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره أحد، الموت الذي يفرق بين الأحبة ويمضي في طريقه لا يتوقف ولا يلتفت ولا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف.
سبيل الخلق كلهم فناء…فما أحد يدوم له بقاء
يقربنا الصباح إلى المنايا…ويدنينا إليهن المساء
أتأمل أن تعيش وأي غصن…على الأيام طال له النماء
يا أخوتاه… بلغنا أن زاهداً كان كثير النصح والوصية لأصحابه، فقال له أصحابه يوما: لو أوجزت لنا معناك في جملة تكون لنا شعاراً! فقال: نعم، فقام وكتب على الجدار بخط كبير: لا تمضوا في طريق اليأس ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحو الظلمات ففي الكون شموس!
إنه شعار جميل نضعه نصب أعيننا ونحن نودع ذلك العام المحمل بالجراح.
إنها دعوة للتفاؤل والإيجابية والبذل والعمل، وعدم الاكتفاء بالبكاء والنحيب وتعداد المصائب .
لسنا يا أخي في مناحة نعدد فيها المصائب ونبكي ثم لا يكون شيء، لا إنما نحن في لحظة اعتبار وادكار، نتخذ من عرض هذه الآلام طريقاً إلى الآمال، ونجعل ذكر هذه الجراح سلماً للفلاح.
ولقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم التفاؤل والأمل حتى في أحلك اللحظات، أوليس هو الذي كان يبشر أصحابه بفتح بلاد كسرى وقيصر واليمن وهم محاصرون يوم الأحزاب في المدينة؟
وكيف لا نتفاءل ونرجو الخير ونحن نرى كثيراً من المبشرات تلمع خلال الظلام وتؤذن إن شاء الله بفجر جديد.
هذا الجيل المبارك من شباب الصحوة الذي يملأ المساجد.
هذه العاطفة الدينية القوية لدى الشعوب الإسلامية.
هذا الجهاد الحي المؤمن في أنحاء كثيرة من أرض الإسلام.
هذا التداعي والهبوط لكثير من القوى الكافرة.
كل هذه وأمثالها مبشرات على الطريق.
المهم ما هو دورك أنت؟
ابدأ بنفسك فأصلحها، ثم بأهلك، ثم بإخوانك، ثم بمن حولك، ثم ارفع يديك إلى السماء وقل يا رب.
"حتى إذا وجدت تلك القلوب التي لا تطمع إلا فيما عند الله ولا تنتظر ثوابا في الدنيا تنزل عليها نصر الله".
آه ما أكثر الجراح ولكن …أمتي أمة الثبات العنيد
لم تزعزع يقيننا الصرصر القر ……ولم تثننا صلاب السدود
لم يزل في دمائنا ألف سعد ……يتلظى وألف قطز جليد
إن مضى عامنا ببؤس ……فإنا نلمح الخير ملء عام جديد
السبت، 9 مايو 2015
PRO PDF Reader 4.3.2
PRO PDF Reader 4.3.2
قراءة دفتر والمستند مع PDF مريحة وممتعة للقراءة. إذا كنت تبحث عن قارئ PDF جيدة، والتوقف هنا، العثور عليه. بحجم صغيرواضحة، وظيفية، تخصيص بالكامل، واختيار الطريقة التي تفضلها لقراءة. بهذا التطبيق العثور على كل الكتب على الجهاز وعرض المستندات.أفضل وظيفية من جميع القراء..
Livre et lecteur de documents PDF avec et DjVu pour la lecture confortable et agréable. Si vous cherchez un bon lecteur de PDF, arrêter ici, vous l'avez trouvé. Petite taille, clair, fonctionnel, entièrement personnalisable, choisir la façon dont vous préférez lire. Cette application Retrouvez tous les livres sur l'appareil et l'affichage vignette de document. Vous pouvez facilement fixer document et lu par simple pression du doigt. La meilleure fonctionnelle de tous les lecteurs.
Fonctionnel:
1) Lire le mode de mode et de contrôle (seul robinet pour basculer)
2) pages fixer par la largeur, la page ne bougera pas de rigth à gauche
3) Recherche texte dans le livre
4) Table des matières
5) Mode de Nuit
6) Rechercher tous les livres (PDF, DjVu) sur l'appareil
7) pages de défilement au doigt robinet à l'écran
Mode plein écran
9) touches soutien e-reader Nook comme, Kindle, Sony
10) Navigation fichier
11) Livres récents
12) le thème de la lumière et de thème noir
13) l'orientation de l'écran Set: Portrait, Paysage, automatique
14) Signets, page
15) Historique, retour à la page
16) Couper documents blancs frontières
17) automatique de défilement, la vitesse configurer, play-arrêt sur double tap (Meilleur choix pour les musiciens)
1 pages Swipe en mode verrouillage
19) Support des processeurs Intel Atom CPU x86
20) Livre et les vignettes de page
21) widget Desktop pour les livres récents
22) Envoyer, partager des documents et des signets
23) à l'importation, à l'exportation Paramètres
24) configurables annuaires de recherche
25) Samsung en charge du mode multi-fenêtre
26) mode pour les musiciens (de la notation musicale défilement automatique, les scores, changement de vitesse, arrêter, démarrer)
27) La sélection de texte
2 Copier, Partager, Traduire, trouver dans le dictionnaire du texte sélectionné
PRO fonctionnelle:
1) Pas de publicité, pas de permission à Internet
2) Résultat Filtre de recherche
3) Trier les résultats des recherches par nom, Chemin, Taille (ascendant, descendant)
Quoi de neuf
- Partager la page sous forme d'image (envoi via Gmail, Viber, Skype, etc.)
- Faites défiler un document avec les touches du clavier bluetooth
- Nombre de pages fixe dans certains cas
- Personnalisez couleurs de fond et de police (En test)
- améliorations Partage de page
Nécessite Android: 2.3 et jusqu'à
تحميل الملف
http://www.gulfup.com/?iDIC6s
التوحيد
التوحيد
-----------------------
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
إن المقصود الذي من أجله خلق الله السماواتِ والأرض والجنةِ والنار، وبه أنزلتِ الكتب، وبه أرسلتِ الرسل، وبه قامتِ الحدود، وبه شرعتِ الشرائع وبه شرع الجهاد، وبه انقسمتِ الخليقة إلى السعداءِ والأشقياء، وبه حقتِ الحاقة ووقعتِ الواقعة، وبه وضعتِ الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنةِ والنّار، وبه عبِد ربّ العالمين وحمِد، وعنه السؤال في القبرِ ويوم البعثِ والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة. إنه التوحيد الذي هو حق الله على العبيدِ: قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:16-17]. أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]. وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ومعنى الآيةِ: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو مقصود خلقهم والحكمة منه، ولم يرِدْ منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانةِ لهم بالرِّزقِ والإطعامِ، بل هو الرزّاق ذو القوةِ المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].
إن العبد إذا علِم أن الله هو مالك الملكِ ومدبِر الأمر، وأنه خالق السماواتِ والأرض وأنه ينزِّل من السماء ماء فينبت به حدائِق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وأنه جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرينِ حاجزا وأنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، وأنه يهديكم في ظلماتِ البرِ والبحرِ ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزقكم من السماء والأرضِ. إذا علمتم عباد الله ذلك كلِّه وأقررتم به فاعلموا أن ذلك لا يكفي فإن هذا الإقرار قد أقر به المشركون من قبل، قال تعالى في حقِ المشركين: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
إن مشركي العربِ كانوا يقرون بربوبيةِ الله، وأنه الخالق وأنه الرازق وأنه المانع والضار والنافع، ولكن جعلوا مع الله آلهة أخرى عبدوها من دونِ الله قربوا لها القرابين واعتقدوا فيها النفع والضر، وعبدوا الجن من دونِ الله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]. وجعلوا تقليد الآباءِ دينا يدينون به وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].
فإن التوحيد المقصود الذي من أجله أرسل الله رسله هو توحيد العبادةِ، والذي حقيقته هو انجذاب الروحِ إلى الله تعالى محبة وخوفا، وإنابة وتوكلا، ودعاء وإخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة.
وبالجملة فلا يكون في قلبِ العبدِ شيءٌ لغير الله، ولا إرادةٌ لما حرم الله ولا كراهةٌ لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله. فمن طاف بالقبرِ وقرب له وسأل صاحبه من دون الله فهو مشركٌ، وإن قال لا إله إلا الله، ومن أحب غير الله مع الله فقد أشرك في محبةِ الله قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ [البقرة:165]. كمن يحب الآلهة ومن يقوم في قلبه إجلالٌ للمحبوبِ وتعظيمٌ له يقتضي أن يجتنب نهيه ويقوم بأمره، فهو شركٌ في المحبةِ وصاحبه مشرك، ولو قال لا إله إلا الله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. ومن اعتقد في مخلوقٍ نفعٍ أو ضرٍ من دون الله فقد أشرك بالله، ومن اعتقد أن أحدا يعلم شيئا من الغيب غير الله فقد كفر، ومن أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد.
فاحذروا من الشرك بكلِ صوره وأشكاله، فقد يأتي الشرك في صورةِ كرةٍ أو في صورةِ شاشةٍ تعبد من دون الله، تصرف لها الأوقات وتعظم في القلوب وتصرف لها المحبة ويعادى فيها ويوالى فيها، وتقدم على طاعة الله والحقّ، إنها عبادةٌ الهوى قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44].
فالتوحيد التوحيد : إنه أفضل طِلبة، وأعظم رِغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كلِ نجاح، وشفيع كلِ فلاح، يصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غضريفا، يطِّول القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره، وما ذلت إلا باندثاره.
وإن معظم الشرورِ والنكبات التي أصابتِ الأمة الإسلامية، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، فمن مفتونٍ بالتمائمِ والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر وتذهب العين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) ومن الناس من افتتن بالمشعوذين والدجاجلة الأفاكين، ومنهم من هو مفتونٌ بمستقبل الأبراجِ . جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندا، وهو خلقك)) . . الحديث.
إن من تمام التوحيدِ محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله. ومن حقق التوحيد الخالص نال السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. والمقصود بالظلمِ في الآية كما فسره نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشرك، فمن حقق التوحيد الخالص كان له الأمن والهداية التامّة في الدنيا والأمن والهداية التامة في الآخرة، ومن حقق التوحيد قولا وعملا دخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)).
وإن من ثمراتِ التوحيدِ عباد الله أن الله يكون مع العبدِ يحفظه وينصره ويحوطه بعنايته، فمن كان مع الله كان الله معه. ومن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله في نفسه وخاصته.
ولكم في ذلك حديث الثلاثةِ الذين أطبقتِ الصخرة عليهم الغار، فدعوا الله بصالحِ أعمالهم فكشف الله ضرهم.
وإن من آثارِ التوحيدِ عباد الله، العزة في الدنيا فيرى المسلم أنه عزيزٌ بما يحمل في قلبه من توحيدٍ لله، فهذا ربعي بن عامر يدخل على رستم وهو في أعظم حلةٍ له، ويأتي هذا الأعرابي الذي ما عرف رستم، ولكنه عرف الله ووحد الله، يأتي بثيابٍ صفيقة وسيف وفرسٍ قصيرة، لا ينزل من فوقها حتى يدوس بها بساط رستم، ثم يتقدم ويشق بعض الوسائد ليربط دابته ثم يتقدم يتوكأ على رمحه فوق النمارق، يخرقها برمحه المثلم، ويقول كلمته المشهورة، من مصدر العزةِ والرفعة، عظموا الله فعظم الله شأنهم، ووحدوا الله فوحد الله قلوبهم، قال له رستم وهو ينظر إليه مالذي جاء بكم ؟ فقال في عزةٍ وشموخ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادةِ الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،ومن جور الأديان إلى عدلِ الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعودِ الله).
إنها العزة ، يرى المسلم الموحد أنّ الدنيا كلها رحابه وأنها موطن دعوتِه فهذا عقبة بن نافع يقول: بعد ما وقف على فرسه على شاطئ المحيط: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته بفرسي. قلوبٌ تعيش هم الإسلام وتحيا للإسلام وتموت للإسلام قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
قال صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) لو ترك كل مولودٍ على فطرته لكان بطبيعته موحدا لله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]. فربوا أبناءكم عباد الله على توحيد الله، لا يرون منكم ما يخالف التوحيد من الأقوال والأفعال، وعلموهم التوحيد واربطوهم بالله وخوفوهم به وحده، وعلموهم سؤال الله وطلبِ الحاجاتِ منه وحده، ربوهم على المحافظةِ على الصلوات، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث يقول مربيا وموجها عبد الله بن عباس: ((يا بني إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لواجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
ارقوا أنفسكم بأنفسكم، وارقوا أبناءكم، وتداووا بكلام الله، ففيه الشفاء، إذا خالط القلب توحيدٌ وإيمانٌ بالله ويقين، علقوا القلوب بالله ولا تعلقوها بأحدٍ غير الله، ولا تكثروا الشكوى والأنين،فإن كل ذلك مما يضعف التوحيد في القلوب، لقد كان الموحد يقرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18]. تحول هذه الآية بينه وبين الخلقِ جميعا، وتسد عليه طريق الرغبة فيما عند العباد، فترى المصائب تمر به جميعا، فلا يدل مخلوقا على مكان ألمه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علته، ولا تسمع منه أذنٌ مخلوقةٌ قولة:آه، تى لقد كان تسقط من أحدهم عصاه، فلا يقول لأحدٍ: ناولنيها. كيف لا، وقد بايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئا.
اللهم اجعلنا من عبادك الموحدين، الذين لا يدعون إلا إياك، ولا يرجون إلا إياك، وإياك نعبد، وإياك نستعين.
اللهم وفقنا لعمل الصالحات والإكثارِ من الطاعات، وارزقنا الإخلاص في النيات، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ الصلاةَ وَيُؤْتُواْ الزكاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ [البينة:5].
مفاهيم ينبغي أن تصحح
مفاهيم ينبغي أن تصحح
-----------------------
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
.... اتباعٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الذل لغير الله إلى العز والشرف والرفعة في التذلل والتعبد لله. خلق الله الخلق حنفاء على ملة مستقيمة، وفطرة سوية فاجتالتهم الشياطين وزينت لهم اتباع الهوى واللهث خلف الشهوات، فبعث الله الرسل مبشرين للمؤمنين بالجنات، ومنذرين للكافرين من الدركات، فصححوا المفاهيم وبينوا السبيل وأوضحوا الطريق للسالكين، فكان الناس فريقين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
ولذا فإن البشرية إنما تسقط بسقوط مبادئِها، وإن المبادئ لا تنهار من قلوب الناس إلا عندما تنحرف مفاهيمها. فحينما ينحسر مثلاً مفهوم العبادة في نطاق الشعائر التعبدية وحدها فإن هذا انحراف في الفهم غريب وخاطئ وخطير.
ولذا لزاماً علينا عباد الله أن نفهم معنى العبادةِ كما فهمَها سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم من أن العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك كله من العبادة. وكذلك حب الله وحب رسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادات لله.
بهذا الفهم الواسع الشامل نفهم معنى قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. إن مفهوم العبادة يشمل كل نشاط في حياة الإنسان قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
إن العبادة الصحيحة هي التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، رباهم عليها بسيرته العظيمة التي يرونها بين ظهرانيهم وقد تمثلت في عبوديةٍ لله عز وجل عبودية كاملة، فيتأسون بها كما قال الله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. ويربيهم بتوجيهاته المباشرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر))(1)[1] وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله))، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق))، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس فإنها صدقة)) (2)[2].
وعن أبي ذر أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) (3)[3]. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك))(4)[4].
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة))(5)[5]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولخازنه مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض))(6)[6] وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))(7)[7] وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها))(8)[8]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))(9)[9].
كل ذلك من التوجيهات المستفيضة التي تدل على أن مفهوم العبادة يشمل جميع مجالات النشاط الإنساني، فلك يا عبد الله في كل وقت عبادة، وفي كل مكان لك عبادة، وكل حال وكل وصف يا عبد الله لك فيه عبادة. عبادات مختلفة متنوعة، بعضها شعائر مفروضة ذات أوقات محدودة، وبعضها معاملات مفتوحة تشمل كل نشاط الإنسان: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والعلمي والحضاري.
هذا الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) (10)[10].
فكانوا يرون أن النوم عبادة كما يرون أن القيام عبادة. فالعبادة عندهم إيثار مرضاة الله في كل وقت وحال. ثم جاء في أعقاب الزمان من أساء فهم العبادة، وجعلها محصورة في الشعائر التعبدية فحسب.
فيرى أن له أن يصلي، ولا يحكم بشرع الله.
وله أن يصوم، ويتعامل بالربا.
وله أن يحج، ويختلط بالنساء ويمازحهن وربما يزني.
وله أن يقول: لا إله إلا الله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله.
إن هذا الفهم العقيم الذي انتشر شره وتأججت ناره، أفرز لنا شرائح منتنة من الناس، شرائح وصفهم النفاق، واسمهم في عصرنا: العلمانيون، ذابت شخصياتهم في الغرب الكافر، وتخلل قلوبهم حبه وموالاته، وأعجبوا بما هم عليه من العلم بالمخترعات والإبداع في المصنوعات، فأصبحوا يرددون ما يقولون، ويتبعون ما به يأمرون رغبة ورهبة، حتى أصبح المعروف في أعينهم منكراً والمنكر معروفاً، فأصبحوا يرون أن تحكيم شرع الله رجعية، وأن الجهاد في سبيل الله إرهابٌ يجب القضاء عليه، وأن معاداة الكافرين وموالاة المؤمنين عنصريةٌ لا مبرر لها.
إن حصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية فقط أمرٌ خطير تسبب في أمور عظيمة من أهمها: أن الشعائر التعبدية صارت تؤدى بصورة تقليدية عديمة الأثر والفائدة حين عزلت عن بقية أمور الإسلام.
فالصلاة التي أخبر الله عز وجل عنها بقوله: إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم تعد ذات أثر واقعي في حياة مؤديها من الناس حيث لم تعد تنهاهم عن الفحشاء والمنكر. وما كان لها أن تحدث ذلك الأثر لولا أنها حصرت العبادة في أداء الشعائر التعبدية فحسب.
ومن ذلك تهاون الناس في بقية جوانب العبادات الأخرى حتى أصبحت عند بعضهم ليست من العبادة في شيء.
حين ترى من المسلمين من يصلي الفروض جماعة في المسجد ثم يخرج ويحلف على عتبة المسجد كاذباً، ويغش في بيعه وشرائه ويحتال في معاملاته ويأكل الربا ويقع في أعراض الناس، ثم تراه سادراً في ذلك مرتاح الضمير قد أسكت وخزات ضميره وتأنيب نفسه بما نقره من ركعات.
ومن ذلك العناية بالجانب الفردي الشخصي وإهمال الجوانب الاجتماعية، فتجد من الناس من يعتني بالآداب الفردية المتعلقة بالذات أكثر من عنايتهم بالآداب الاجتماعية المتعلقة بالآخرين، فقد يكون في ذاته نظيفاً ولكنه لا يبالي أن يلقي القمامة في طريق المسلمين، ناسياً أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقد يكون المسلم مراعياً لأحكام الطهارة وشروطها في نفسه، ولكنه لا يبالي أن يلوث للناس طرقهم وأماكن جلوسهم ويخل بالآداب الاجتماعية التي أمر بها الإسلام. وهذا الأمر طبيعي وقوعه حين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر وحدها.
وإن من آثار هذا المفهوم الخاطئ للعبادة إقامة العبادة مقام العمل، والاكتفاء برسومها وشعائرها وبما أحدث فيها من بدع. فقراءة القرآن وتلاوته لفظاً أصبح بديلاً عن العمل بما فيه من آيات الجهاد والحكم بما أنزل الله واستثمار ما في الكون من نعم الله، مع أن ذلك من العبادة. فأصبح القرآن للقراءة في المآتم وافتتاح الاحتفالات والبرامج وإغلاقها وأصبح يتكسب من ورائه.
إن عزل كثير من الناس أنفسهم داخل الدائرة الضيقة لمفهوم العبادة من أعظم البلايا، إنهم لم يعودوا يبالون بظهور المنكرات من حولهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل وصل الأمر إلى اتهام من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالتطفل وإقحام النفس في شئون الآخرين.
ومع خروج الأخلاق من دائرة العبادة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تفككت عرى الأخلاق وضعفت الروابط الاجتماعية كالتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي وصلة الأرحام، وتخلخلت الأسرة واهتزت القيم التي تقوم عليها، فلم يعد الشعور بالمسئولية عند رب الأسرة وربتها نابعاً من دائرة العبادة كما هو المفترض، بل إن تدبيرهما لأمر الأسرة ورعايتهما لها لا يمكن أن يخطر لأحد منهما على بال أنه من العبادة لله عز وجل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) (11)[11].
وحين خرجت عباد الله، حين خرجت الأخلاق وخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دائرة العبادة كان ذلك سبباً جوهرياً في سقوط الأخلاق فيما بعد، فسقط في كثير من مجتمعات المسلمين الحجاب، وفشا فيهم الاختلاط، وظهر الفساد العريض نسأل الله السلامة والعافية.
وما هذه المجالس النسائية، والاختلاط في الأسواق والأماكن العامة والخاصة، والمطالبة بقيادة المرأة للسيارة، وإظهار مفاتن المرأة على الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات واستخدامهن وسيلة لترويج أفكارهم المسمومة وسلعهم الموبوءة إلا أثر من آثار الانحراف لمفهوم العبادة.
إن ما سبق ذكره من الآثار السيئة لحصر مفهوم العبادة في النطاق الضيق غيض من فيض، ورحم الله من قال: "الواقع أنه لو كان حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر من جملة الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء" اهـ.
وهذا هو المعنى الشامل الذي وعاه سلف الأمة وطبقوه في حياتهم وعملوا به في واقع الأرض، فدانت لهم الممالك وخضعت أمامهم الطواغيت ومكن الله لهم في الأرض ورفعوا راية الإسلام خفاقة فوق بقاع شاسعة من المعمورة.
ويوم تغير ذلك المفهوم وانحصر في دائرة ضيقة فقد فترت الهمم وخارت العزائم عن القيام بأمور الإسلام كله فوقع الضعف والهبوط. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: "إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم" اهـ(12)[1].
إن ما حل بالمسلمين من تأخر حضاري وعلمي واقتصادي واجتماعي وفكري وسياسي... الخ لم يكن سببه أنهم مسلمون ولم يكن سببه حتميات تاريخية، إنما سببه ضعف السلوك ثم فساد التصور وإفراغ الإسلام من محتواه:
فيوم أن كانت وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72]. وكانت وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]. يوم أن كان ذلك عبادة، لم يجرؤ أحد على احتلال أرض المسلمين واستلاب خيراتها، ويوم أن غلف أعداء الله الجهاد بغلاف الإرهاب سلبت فلسطين، واعتدي على المسلمين في كشمير والشيشان وغيرها كثير، ولكن:
رب وامعتصماه انطلقت …ملء أفواه الثكالى اليتم
لامست أسماعهم لكنها …لم تلامس نخوة المعتصم
ويوم كان طلب العلم عبادة لم يكن هناك تخلف علمي، بل كانت الأمة المسلمة هي أمة العلم التي تعلمت أمم الكفر في مدارسها وجامعاتها.
ويوم كانت فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ [الملك:15] عبادة، كانت المجتمعات الإسلامية أغنى المجتمعات في الأرض.
ويوم أن كانت ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) عبادة، وكان من تولى أمر المسلمين يستشعر أنه راع ومسئول عن رعيته لم يكن للفقراء في المجتمع الإسلامي قضية لأن العلاج الرباني لمشكلة الفقر كان يطبق في المجتمع الإسلامي عبادة لله.
ويوم أن كانت وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] عبادة، لم تكن للمرأة قضية، لأن كل الحقوق والضمانات التي أمر الله لها كانت تؤدى إليها طاعة لله وعبادة.
ولن يصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلا بد عباد الله من الرجوع للفهم الصحيح للعبادة، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7، 8]. يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
فقوموا بما أمركم الله من توحيده ودعائه وحده، والكفر بالطواغيت والمعبودات من دونه، وجاهدوا في سبيل الله، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه، واشكروا الله على ما منّ به عليكم من إكمال العدة، واستكثروا من الأعمال الصالحة صلوا الأرحام، وبروا الآباء، ووقروا الكبار، وارحموا الصغار، وأدخلوا السرور على المسلمين.
ولا تطغينكم فرحة فتأتون فيه بالمنكرات من ممازحة غير المحارم من النساء أو مصافحتهن، أو الإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وراقبوا أبناءكم وبناتكم فيما يلبسون ويقلدون، وقد انتشر في هذه المرة أنواع غريبة من الألبسة وقصات الشعر التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ومن ذلك القزع، وكذلك البنات اللاتي تجاوزت الواحدة منهن سن الثامنة والعاشرة والثانية عشرة وكأنها رضيعة، ملابسها فاضحة، وزينتها فاتنة، وأولياء أمرها يرون أنها لا تزال صغيرة، وقد جاء عن عائشة: (إذا بلغت البنت التاسعة فهي امرأة) (14)[3].
وتخلصوا من المظالم قبل أن تزل الأقدام فلا يرى العبد أمامه إلا ما قدم، ووفوا الأجراء حقوقهم وأعطوا العاملين أجورهم، ولا تدخلوا الكفار جزيرة العرب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلها لكافر، واستعملوا إخوانكم المسلمين تقوون به إخوانكم وتواسون به المسلمين.
__________
(1) أخرجه مسلم في : الزكاة ، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (84).
(3) أخرجه الترمذي في : البر والصلة ، باب: ما جاء في صنائع المعروف (1956) ، والبخاري في الأدب المفرد (891) وصححه ابن حبان (2/286-529) ، والألباني في الصحيحة (2/112-572).
(4) أخرجه البخاري في : الدعوات ، باب : الدعاء يرفع الوباء والوجع (6373) بنحوه.
(5) أخرجه البخاري في : المزارعة ، باب : فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2320) ، ومسلم في : المساقاة ، باب: فضل الغرس والزرع (1553) بنحوه.
(6) أخرجه البخاري في : الزكاة ، باب : من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول نفسه (1425) ، ومسلم في : الزكاة ، باب : أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت (1024) من حديث عائشة رضي الله عنها. وهذا لفظ أبي داود في : الزكاة ، باب : المرأة تتصدق من بيت زوجها (1685).
(7) أخرجه الترمذي في البيوع ، باب : ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم (1209) ، والدارمي في البيوع ، باب : في التاجر الصدوق (2539) والدارقطني (291) ، والحاكم (2/6) من طريق الحسن عن أبي سعيد، قال الترمذي: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، وحكم الحاكم بانقطاعه ، لكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه في التجارات ، باب: الحث على المكاسب (2139) ، والحاكم (2/6) ، قال الذهبي في الميزان (5/500) : "حديث جيد الإسناد صحيح المعنى". وأوردهما الألباني في صحيح الترغيب (1782-1783).
(8) أخرجه أحمد (3/191) واللفظ له ، والطيالسي (2068) ، وعبد بن حميد (1216) ، والبزار (1251- كشف الأستار) وصححه المقدسي في الأحاديث المختارة (7/264-2713) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/63): "رواه البزار ورجاله أثبات ثقات".
(9) أخرجه البخاري في : الجنائز ، باب : الأمر باتباع الجنائز (1240) واللفظ له ، ومسلم في : السلام ، باب : من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
(10) 10] أخرجه البخاري في : المغازي ، باب : بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4342) واللفظ له ، ومسلم في : الإمارة ، باب : النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1824) بنحوه.
(11) 11] أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الجمعة في القرى والمدن (893) ، ومسلم في : الإمارة ، باب : فضيلة الإمام العادل (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(12) مجموع الفتاوى (10/176).
(14) أخرجه الترمذي في : النكاح ، باب : ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج (1109).
الخمر
الخمر
-----------------------
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
لقد جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس، وهي النفس والعقل والمال والنسل والدين، وكل ما يتعدى على تلك الضروريات الخمس فهو من الكبائر، وحديثنا اليوم عن العقل، ذلك الذي فضل الله تعالى به البشر على الحيوانات والجمادات.
فالعقل جوهرة ثمينة يحافظ عليها العقلاء، إذ بدونه هم كالعجماوات والبهائم، بل إن من البشر من هم أدنى مرتبةً من تلك البهائم لأنهم فقدوا نعمة العقل كما قال الله تعالى عن الكفار: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]. فهم لم ينتفعوا بأسماعهم ولا بعقولهم التي خلقها الله لهم، فصاروا كالأنعام: لا هَمَّ لهم إلا الأكل والشرب، فكان ذلك سبب دخولهم النار كما قال تعالى حاكياً عنهم: وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10].
ومنذ قديم الزمان، تفطن إبليس إلى حيلة قذرة يُفقد بها الناس عقولهم ويجعلهم يتردون في أودية التيه والضلال، فزين لهم شرب الخمر وحببها إلى قلوبهم، كي يحول بينهم وبين دخول جنة ربهم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91].
والخمر سُميت خمراً لأنها تَخْمُر العقل وتغطيه، كما تُغطي المرأة وجهها بخمارها، لذا كان المشركون في الجاهلية يعاقرون الخمر ويشربونها شرب المُغْرَمِ بها حتى الموت، لأنها تنسيهم الواقع المرير وتجعلهم في غفلة دائمة.
فهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه، كان يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمَةٍ……تروي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني……أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقد كان من المشركين من يمتنع عن شربها لما ظهر له من أبين الأدلة وأوضحها أنه ضارة خبيثة، فهذا قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه، كان شراباً للخمر مولعاً بها، ثم حرمها على نفسه وامتنع عن شربها، والسبب في ذلك أنه سكر ذات يوم في الجاهلية، فغمز عكنة ابنته وهو سكران، وشتم والديه وأعطى الخمار مالاً كثيراً، فلما أفاق وأخبروه بما فعل حرمها على نفسه وقال:
رأيت الخمر صالحة وفيها …خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً…ولا أشفي بها سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي …ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها…وتجنيهم بها الأمر العظيماً
والخمر محرمة بالقرآن والسنة والإجماع والعقل الصحيح، فلقد جاء تحريم القرآن للخمر تدريجياً وعلى ثلاثة مراحل، جاء في آخرها: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91]. فقال الصحابة انتهينا انتهينا، وجاء في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام))، وقد أجمع المسلمون على تحريمها وعلى أن شاربها يُحد ثمانين جلدة وإن لم يسكر، سواءً شرب قليلاً أو كثيراً.
وأما العقل الصحيح فنحن نرى أن عقلاء العالم يمتنعون عن شربها كما فعل قيس بن عاصم المِنْقَري رضي الله عنه، وكيف لا يمتنع عنها العقلاء وهي تجعل منهم أضحوكة للناس؟ روى القرطبي في تفسيره أن رجلاً شرب الخمر فسكر فبال، فجعل يأخذ بوله ويغسل به وجهه ويقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، ويقول الحسن البصري رحمه الله: لو كان العقل يُشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب كل العجب فيمن يشتري بماله ما يفسده.
تقدم معنا أن عقوبة شارب الخمر في الدنيا أن يجلد ثمانين جلدة، وأما عقوبته في الآخرة فهي أعظم وأشد، فمنها اللعن والطرد من رحمة الله تعالى، فعن ابن عمر والحديث متفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها، حُرمها في الآخرة)).
ومن العقوبات دخول النار، جاء في سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وِسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ؟ قَال: ((عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ))، ومن ذا الذي يضمن أن لا يتوفاه الله وهو سكران والعياذ بالله؟
لقد مر علينا في بلادنا هذه زمان كان الذي يشرب فيه الدخان يُقاطع ويُهجر ويُرمى بالفسق ولا تُقبل إمامته للناس، ثم أدخل أعداء الله أنواعاً وأشكالاً من المسكرات والخمور، فوقع فيها الغافلون البعيدون عن رب العالمين، فأصبح الناس يحذرون من الخمور وتساهلوا في الدخان حتى ترك المسلمون الإنكار على شاربيه، والآن تسلط أعداء الله على كل البلاد الإسلامية بلا استثناء، بمختلف أنواع السموم البيضاء من مخدرات ونحوها، حتى تساهل الناس في الخمر وشربها، فلم نعد نسمع من ينكر على شارب الخمر كما كنا نسمع من قبل، ولا شك أن المعاصي يرقق بعضها بعضاً.
والمخدرات كالخمر في التحريم إن لم تكن أعظم، يقول شيخ الإسلام: "إن الحشيشة حرام، يُحد متناولها كما يُحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تُفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد".
ولقد أمر الله تعالى باجتناب الخمر، واجتنابها أعظم من النهي عن شربها لأن الاجتناب يشمل النهي عن الشرب ويشمل أيضاً مخالطة من يشرب، وقد جاء في سنن الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر))، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن كل من يتعامل مع الخمر فقال كما في سنن أبي داود من طريق ابن عمر: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها))، فهل بعد هذا كله يشرب عاقل الخمر أو يتعاطى المخدرات؟
فاتقوا الله وابتعدوا عن هذه القاذورات والنجاسات، وامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، بلغوا عن من يتعاطى أو يروج لشيء منها، تفقدوا أغراض أولادكم بين الفينة والأخرى، تفقدوا رفاقهم وأحوالهم، فإن تعاطي تلك الأمور لا يكون إلا عن طريق رفاق السوء، تجنبوا إعطاءهم أموالاً فوق حاجتهم لأن الترف وكثرة المال الزائد يؤدي بالشاب الذي لا يعرف خوف الله ولا يصلي في المسجد إلى الانحراف والعياذ بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
الجمعة، 8 مايو 2015
Keygen Adobe.Photoshop.CS6