الجمعة، 6 مارس 2015

نجوم الأمة

الحمد لله العزيز الوهاب، أنزل على عبده الكتاب هدى

وذكرى لأولي الألباب، ونشهد أن لا إله إلا الله، أكمل لنا

الدين وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا - ولله الحمد -خير

أمة أخرجت للناس، وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته

ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، فالصلاة والسلام على

سيد الأحباب، النبي الأمي المبعوث بالحق والصواب،

الشافع المشفع يوم الحساب، وعلى آله وصحابته ومن

تبعهم بإحسان إلى يوم المآب.

أما بعد:

فيا عباد الله، يقول صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم

خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك،

وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل

موتك))(1)[1].

أيها المؤمنون، إن بناء المجتمعات لا يمكن أن يرتفع له

لواء، إلا إذا سارت وراء الهدي النبوي، وخير من

يوصى به لأهميته في البناء، الشباب الذي قال فيه النبي

صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالشباب خيرا، فإنهم

أرق أفئدة))، الشباب الذي لا يجد له في هذه الأيام

مرشداً كريماً، ولا موجهاً عظيماً، ولا مربياً رفيعاً، ولا

أباً رحيماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء

شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ائذن لي

بالزنا يا رسول الله)، كلمة خطيرة تكاد السموات يتفطرن

منها، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً، إلى من يوجه

هذا الكلام؟ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد

كان يجلس حول الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابُه

الكرام، يحيطون به كما تحيط النجوم بالقمر، وكما تحيط

الجنود بالعَلم.

فثار الصحابة رضي الله عنهم، وثارت دماء الغضب في

عروقهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام كما عهدناه بحلمه

ووقاره وجلاله وسكينته وأدبه وأخلاقه، يجلس في هدوء

يرسل الحكمة كما يرسل القمر أضواءه.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهدؤوا، ثم

دعا الشاب إليه، فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم،

وفي هدوء الأستاذ مع التلميذ، وبحكمة الطبيب مع

المريض، قال للشاب: ماذا تريد يا فتى، قال: ائذن لي

بالزنا يا رسول الله.

وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرسل هذه الحكمة

الرفيعة: ((يا فتى أفترضاه لأمك؟))(2)[2]، كان عليه

الصلاة والسلام يداوي الجراح الدامية بتنسم الروحانيات

الصافية، ونزلت هذه الكلمة باستفهامها على سمع الفتى،

ثم أخذت طريقها إلى قلبه، فصادفت مكاناً خالياً، فتمكنت

منه، فقال: لا يا رسول الله.

ويكرر الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال: ((أفترضاه

لأختك؟ أفترضاه لعمتك؟ أفترضاه لخالتك؟)) وإذا

بالشاب يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم

وينتفض ويقول: ادع الله لي يا رسول الله، وإذا بالنبي

صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الفتى، فقال، الدعوة

الأولى: ((اللهم حصن فرجه))، ثم قال في الثانية: ((وطهر

قلبه))، ثم قال في الثالثة: ((واغفر ذنبه)).

يقول هذا الشاب: فخرجت من عند رسول صلى الله عليه

وسلم، وليس على وجه الأرض أحد أحب إلي من رسول

الله، هكذا يكون الدواء وهكذا يكون العلاج.

وصدق الله تبارك وتعالى وهو يخاطب نبينا صلى الله

عليه وسلم بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [

الأنبياء:107].

الشباب والصحة نعمتان من أجلّ نعم الله تبارك وتعالى،

إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يداوي بالحكمة

والموعظة الحسنة، لذلك ربى جيلاً لم تعرف البشرية له

مثيلاً، اسمعوا إلى ما قاله عمر رضي الله عنه، وعمر

أحد الذين دخلوا الإسلام في سن الشباب، كان عمره يوم

أسلم ستاً وعشرين سنة، كان اسمه في سجل المسلمين

رقم أربعين، عمر عندما دخل الإسلام ونطق بالشهادتين

كان أول كلمة قالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

علام نخفي ديننا يا رسول الله؟ إن الإسلام والإيمان قد

تمكنا من قلبه، إن الإسلام قد رسخ في فؤاده، علام نخفي

ديننا يا رسول الله؟ لم لا تصدع بما تأمر؟ فقال صلى

الله عليه وسلم: ((إن الله لم يأمرني بذلك))(3)[3]، وإذا

بالوحي يتنزل على قلب وفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم

بقوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [

الحجر:94]، فقال له جميع الجالسين: لا إله إلا الله، والله

أكبر.

كل شيء إلى تغير وفناء، كل شيء إلى زوال، ولا يبقى

إلا ذو العزة والجبروت، فبادروا يا عباد الله بالرجوع

إلى الله، بادروا بالصلح مع الله تبارك وتعالى، ركعتا

الفجر خير من الدنيا وما فيها، كان من دعاء الحبيب

صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها))(4)

[4].

والرسول صلى الله عليه وسلم مر بالسيدة فاطمة رضي

الله عنها بعد صلاة الفجر فرآها قد نامت بعد ما صلت،

فقال لها: ((يا فاطمة قومي فاشهدي هذه الساعة التي

يقسم الله فيها الأرزاق على العباد))(5)[5].

عباد الله، أمتنا الإسلامية أمة عظيمة، ولا نظير لها،

كانت تسيطر على البحر الأبيض كله وعلى ثلثي البحر

الأحمر، كانت تنام على بحر من البترول فماذا حدث؟،

سلبتهم الدنيا أملاكهم، فالمقاطعات الإسلامية استولى

على كثير منها المعسكر الشرقي، وضاعت الأندلس

وظاعت صقلية وضاعت فلسطين، وسلبت الجولان

واحتل بيت المقدس والضفة الغربية، لماذا؟ لأن الدنيا

فتحت علينا، فنسينا الله تبارك وتعالى، نسينا أحكامه،

ونسينا كتابه.

كانت الغنائم تأتي لبيت مال المسلمين من المشارق

والمغارب في زمن عمر رضي الله عنه، جاءت الغنائم

من بلاد فارس، فبكى بكاءً شديداً، فيقول له ابن مسعود

رضي الله عنه: أتبكي يا أمير المؤمنين في يوم النصر؟

فيقول أمير المؤمنين: أخشى على المسلمين أن تفتنهم

الدنيا، عمر يخشى من فتة الدنيا على المسلمين.

صدقت يا أمير المؤمنين تعال وانظر اليوم إلى أحوال

المسلمين.

أمتنا أمة عظيمة، عندما أسلمنا وآمنا، عندما قرأنا

القرآن واتخذناه منهجاً وسلوكاً ونظام حياة، عندما عشنا

مع القرآن في نومنا وفي يقظتنا وفي أكلنا وشربنا

وحياتنا، كانت حياتنا كلها مع القرآن، إذا أصبح مجتمعنا

مجتمعاً قرآنياً منهجاً وسلوكاً، فسوف نقود العالم كله إلى

شاطئ الأمان، وبغير ذلك كله لن نفلح أبداً، فأخلصوا

قلوبكم لله يا عباد الله وافتحوا قلوبكم، واستعينوا بالله

واصبروا، لا تنسوا الله تبارك وتعالى وأحسنوا صلتكم

بالله، اجعلوا أيامكم كلها لله، قيل للإمام الحسن البصري

رضي الله عنه أي الأيام عندك عيد يا إمام؟ فقال: كل

يوم لا أعصي الله فيه، فهو يوم عيد.

عباد الله، أمر الله تعالى المؤمنين بالانضباط، فما هو

الانضباط في الإسلام كما ورد في شريعة خير الأنام؟

الانضباط في قول الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي

مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ

ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، الانضباط

الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له

ربه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، فإذا أردنا أن نطبق

الانضباط في مجتمعاتنا لا بد ان نأخذ جانبين: جانب

الوقاية وجانب العلاج، أما الوقاية فهي إزالة الموانع

التي تؤدي بنا إلى غضب الله وارتكاب المعاصي، أيكون

هناك انضباط وأبواب الخمارات مفتوحة؟ أيكون هناك

انضباط والنساء كاسيات عاريات؟ أيكون هناك انضباط

ومعاملاتنا كلها معاملات ربوية؟ أيكون هناك انضباط

والنفوس مشحونة بالحقد والحسد والشحناء وسفك

الدماء؟

عباد الله، الإسلام ليس صلاة وصياماً وحجاً فقط،

الإسلام استسلام لله تبارك وتعالى وتطبيق لمنهجه في

كل نواحي الحياة.

عباد الله، اعلموا جيداً أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن

يمنع المصلون من الدخول إلى المسجد الأقصى المبارك،

وذلك لقول الله عز وجل في كتابه العزيز: أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ

مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ

مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ

وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، فالمساجد هي

بيوت الله ويأتي المصلون إليها لأداء الصلوات تطبيقاً

لمنهج الله تبارك وتعالى في الأرض، ومن تجرأ على منع

المصلين من الدخول إلىالمساجد فقد ارتكب إثماً عظيماً

وجُرماً كبيراً سيحاسب عليه حساباً كبيراً من الله الواحد

الجبار.

وتذكروا أيها المؤمنون أن من يتجرأُ على بيوت الله

ويمنع المصلين من أداء الصلوات فهو عدو لله ومحارب

لله، وسوف ينتقم الله تعالى منه.

وفي نفس الوقت يجب على المسلمين أن يحافظوا على

مسجدهم، وأن يكون إيمانهم قوياً بالله عز وجل.

وانظروا أيها الإخوة إلى قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ

مَسَاجِدَ اللَّهِ، معناه أنه لا يوجد أحد أظلم من الذي يمنع

مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أي أن هذا الظلم هو

الظلم العظيم، ويختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: لَهُمْ

فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، أي لن

يتركهم الله تبارك وتعالى في الدنيا ولا في الآخرة بل

يصيبهم في الدنيا خزي، وهذا مظهر غيرة الله على

بيوته، أما في الآخرة فلهم عذاب عظيم، فهل سمعتم على

مر الزمان أن قوماً من الأقوام يمنعون الناس من أداء

العبادات والشعائر الدينية، وهذا الفعل بذاته مخالف لكل

الأعراف الدولية، وصدق الله تبارك وتعالى وهو يقول:

أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى [العلق:9، 10]، فقد ذكر

المفسرون أن هذه الآية نزلت في أبي جهل عليه لعنة

الله، والعبرة كما تعلمون بالعموم، وليس بالخصوص،

فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على مسجدكم، فهو رمز

مجدكم وعزكم وكرامتكم.

اللهم حرر المسجد الأقصى، وطهره من رجس الكافرين،

واجعلنا فيه من عبادك المرابطين إلى يوم الدين، اللهم

اجعله عامراً بالإسلام والمسلمين يا رب العالمين.

عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة

رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((

بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا غنىً مطغياًَ، أو

فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً

مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة

فالساعة أدهى وأمر))(6)[6].


الفلسطينية هو إعلان الهدنة من جانب الفلسطينيين

المغلوبين على أمرهم فيما يسمى وقف إطلاق النار مع

الجانب الإسرائيلي، وأسئلة عدة تفرض نفسها على

الحدث، لأنه يتعلق بصميم وواقع شعبنا الفلسطيني

المسلم الذي أعقب اندلاع انتفاضة الأقصى، فالحديث

يشمل الفترة الزمنية الحالية من المعاناة، ناهيك عن

المأساة المتواصلة على امتداد نصف قرن من الزمان،

منذ سقوط فلسطين المسلمة في يد المحتلين، فهل يصمد

وقف إطلاق النار الحالي؟ هل تؤدي هذه الهدنة إلى

إعادة الهدوء والاستقرار والحياة إلى شعبنا المسلم؟ هل

ستزول الحواجز ونقاط التفتيش، حواجز الإهانة

والاضطهاد والإذلال؟ هل ستوقف إسرائيل عن تصفية

المسلمين على امتداد الوطن؟ هل سيتم انسحاب

إسرائيل الكامل وتفكيك جميع المستوطنات؟ هل ستعود

مدينة القدس المسلمة لعصمة المسلمين وسيادتهم؟ هل

سيعود المهجرون والنازحون والمبعدون إلى ديارهم

ووطنهم وأهلهم؟ هل سيتم إطلاق سراح أبناء شعبنا

الفلسطيني المسلم من زنازين الاحتلال وأقبية المعتقلات

والسجون دون تمييز بينهم؟ هل ستتوقف إسرائيل عن

استفزازاتها تجاه المسجد الأقصى المبارك؟

أيها المسلمون، إن المتابع للتجارب المريرة التي خاضها

ويخوضها شعبنا قديماً وحديثاً وعلى امتداد عمر المأساة،

يجد أن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل المواثيق

والأعراف والمعاهدات.

ولقد أثبتت التجارب والأيام أنه لا يكاد حبر أي اتفاق

يجف، حتى تنقض إسرائيل هذا الاتفاق، ومسلسل

الأحداث منذ اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو وشرم الشيخ

والعقبة تدل على ذلك.

كانت هناك وعود منذ العام 1993م بإقامة دولة فلسطينية،

وانسحاب إسرائيلي كامل، ولكن ماذا حدث؟ انسحبت

إسرائيل فترة زمنية قصيرة من بعض المناطق بعد

تقسيمها، ثم ما لبثت أن أعادت احتلالها بعد انتفاضة

الأقصى.

إن حجم التضحيات الجسام التي بذلها ويبذلها شعبنا في

المال والبنين، تفوق ما قدمه أي شعب من أجل حريته،

ثم تأتي الضغوط من القريب والبعيد للقبول، بما يسمى

الأمر الواقع.

إن ما يزيد الأمور تعقيداً هو ما يعلنه الأمريكيون إثر

زياراتهم للمنطقة واجتماعهم مع زعمائها، من أن وقف

إطلاق النار يجب أن يعقبه تفكيك الجماعات المسلحة

قبل تفكيك المستوطنات، ويتحدث الأمريكيون أن

الفلسطينيين هم عقبة في طريق السلام، وبعكس

إسرائيل، فإنها دولة محبة للسلام، غير أنها محاطة

بالأعداء.

وأنتم يا أهلنا في أرض فلسطين المباركة، أنتم في رباط

إلى يوم القيامة، أنتم أهل الصبر والمصابرة والمرابطة،

اجعلوا ثقتكم بالله تنكشف الأمور وتزول الغمة، ولا نريد

أن نقول ما قال الشاعر:

صبرنا إلى أن ملّ من صبرنا الصبر …وقلنا غداً أو بعده

ينجلي الأمر

فكان غد شهراً ولو ومد حبله …فقد ينطوي في جوف هذا

الغد العمر

وقلنا عسى أن يدرك الحق أهله …فصاحت عافاني الله

ولا طعمُها مر

سلام على الدنيا سلام على الورى …إذا ارتفع العصفور

وانخفض النسر

أيها المسلم:

دع المقادير تجري من أعنتها …ولا تبيتن إلا خالي البال

ما بين غمضة عين وانتباهتها …يغير الله من حال إلى

حال

__________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 306)، وصححه

ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب

[3355]، وأخرجه ابن المبارك في الزهد، ومن طريقه

البغوي في شرح السنة [4022] عن عمرو بن ميمون

مرسلاً، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).

(2) أخرجه أحمد (5/256).

(3) أخرجه ابن خثيمة القرشي (ص 128) في جزئه

بنحوه.

(4) رواه الترمذي في البيوع (1212)، وأبو داود في

الجهاد (2606)، وابن ماجه (2236)، وأحمد (1/153)،


الدّعوة إلى تسهيل أمر الزواج

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا

الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله

وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد:


عبادّ الله، يقول ربّنا جلّ جلاله وهو أصدق القائلين آمرًا عبادًه المؤمنين بهذا

الخُلُق الكريم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2]. فيأمرُنا ربّنا جلّ جلاله أن نكونَ جميعًا

أعوانًا على البرّ، أعوانًا على التقوى، أعوانًا على كلِّ أمر يحبّه ربّنا ويرضاه،

ونهانا أن نتعاونَ على الإثم والعدوان، عن كلِّ أمر يبغضه الله من شرٍّ خاصّ أو

عامّ، ثم يقول: وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].

هذه الآية ـ أيّها الإخوة ـ أصلٌ عظيم في التّعاون بين المسلمين، أصلٌ عظيم في

وجوب التعاون بين أمّةِ الإسلام على الخير والهدى، وأصلٌ عظيم في تحذيرهم من

أن يكونوا أعوانًا على الشرّ والبلاء.

أيّها المسلم، إنَّ مِن التعاون على البرّ والتقوى أن يتعاونَ المجتمع المسلمُ في

الدّعوة إلى تسهيل أمر الزواج، وإلى بثِّ روح التعاون بين الجميع في إظهار

شعيرةِ الزواج بالتعاون على ذلك لنسهِّل أمرَ الزواج لأبنائنا وبناتِنا.

أيّها الإخوة الكرام، كلُّ مسلمٍ منّا محتاجٌ إلى هذا الأمر العظيم، فمَن له أولادٌ

يحتاج إلى تزويجهم، ومَن له بنات فهو يتمنّى لهنّ الزواجَ والعفاف، إذًا فهي

مصلحة مشتركَةٌ بين الجميع للذّكور والإناث، والمجتمع المسلم إذا تعاون في

تيسير أمرِ الزواج وتعاونَ الجميع في تذليل العقبات التي تعوق كثيرًا من

أبنائنا عن الزواج، أو تعوق أيضًا بناتنا عن الزواج، فيبقى الذّكور عُزَّبًا، وتبقى

الفتيات عوانسَ في البيوت، ليس هذا من مصلحةِ الجميع، ليس هذا من البرّ

ولا من التقوى، ليس هذا من الخلُق الكريم، المطْلوبُ منّا جميعًا أن نتعاونَ في

إفشاء الزّواج، في إشاعته وتكثيره وتيسير أمورِه وتذليلِ كلِّ الصِّعاب ما وجدنا

لذلك سبيلاً.

أيّها المسلم، هذا الأمر لا تستطيع أن تفرضَه السّلطة، ولا أن تُلزم به النّاس،

فلو أُلزم النّاس لاتَّخذوا حِيَلاً ووسائلَ يتخلّصون بها من كلِّ ما ألزِموا به، لكن

إذا انبعَث الأمر من قلوب المجتمع المسلم، انبعث الأمرُ من روح التعاونِ

والتساعد فإنّ هذا ممّا يعين على الخير والتقوى.

أيّها المسلمون، هناك عقباتٌ كأداء تحول بين شبابنا وبين فتياتنا من الزّواج، لو

أنّ المجتمع المسلمَ تعاون في حلّها وتذليلها لصار خيرًا كثيرًا لمجتمعنا المسلم.

مِن تلكم العقبات أولاً: نظرُ بعض الآباء والأمّهات إلى مَن يتقدّم لخطبة

الفتات، فنرى أحيانًا خطأ من أمّهات الفتيات، يتمثّل هذا الخطأ الذي تقع

فيه الأمُّ أحيانًا من أنّها تنظر إلى خطيبِ ابنها بنظرٍ خاصّ، وتريد مواصفاتٍ

معيّنةً، والأمر في ذلك أيضًا مادّي، فهي لا تريد لفتاتِها إلا من يكون ذا كذا

وذا كذا، ذا مال أو ذا جاه أو ذا عملٍ كبير أو إلى غير ذلك، فهناك مِن الأمّ

خطأٌ في أنّها لا ترغَب في زواج فتاتِها إلا بأمور معيّنة لو فكّرت حقًّا لرأت أنَّ

كثيرًا ممّا تريد ليس من مصلحةِ الفتات في مستقبلها، فالأمرُ بيد الله، والفقر

والغنى بيد الله، ويقول الله جلّ وعلا: إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ [

النور:32]. لا شكّ أنّه مطلوبٌ من الزوج القيامُ بالنفقة، لكن لا يُجعل الغنى

وحدَه أو كثرة المال وحده هي الوسيلة، وإنّما يُسلَك الأمر الوسَط في ذلك.

قد يخطئ الأب أحيانًا إذا خُطِبت منه فتاته، فإمّا أن يطلبَ مهرًا زائدًا

وتكلفاتٍ هائلة قد تثقل كاهلَ ذلك الشابّ الخاطب، تثقل كاهلَه، وتحمّله ما لا

يطيق.

أيّها الإخوة، إنّ الآباءَ والأمهاتِ مسؤولون جميعًا عن هذه المهمّة الكبرى،

والمطلوب منهم التعاون على البرّ والتقوى.

أيّها المسلمون، إنّ صداقَ المرأة أمر مطلوبٌ شرعًا، وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً

[النساء:4]، هذا أمر لا شكّ فيه، ولكن ـ أيّها الأخ المسلم ـ ماذا تريد من

صداقٍ تثقل به كاهلَ ذلك الخاطب؟! وقد لا يجد كثيرًا منه، وقد يتحمّل ديونًا

ويأخذ قروضًا بفوائد متعدِّدة، يشتري سيّارات أو غيرها، ويحمِّل ذمَّتَه أمرًا لو

فكّر فيه لرأى صعوبةَ الأمر وعسرَه عليه، ومتى يقضي ذلك الدّين، فيعيش في

همٍّ وغمّ وثُقلِ الدَّين الذين يقلِق مضجعَه ويجعله في همّ وغمٍّ ملازم.

أيّها الأب الكريم، إنّه إذا تقدّم لفتاتِك خاطبٌ فانظر الدّينَ أوّلاً، ثمّ انظر عقلَه

ورجاحة فكره وأهليّته لتلك الفتات، فإذا توسّمتَ فيه الخيرَ واستخرتَ الله

واستشَرت غيرَك ممّن تظنّ أنّه يشيرك بالخير، فإيّاك أن تردَّ ذلك الزوجَ لأجل

مطامعَ ماديّة، لا تجعل المادّةَ هي المعيار في القبول أو الردّ، ولكن اجعل

الأخلاق والعقل وحسنَ التّصرّف هي الغاية المقصودة. أمّا المهر فلا تكلِّفه ما لا

يطيق، لا تطلب ما لا يُستطاع، فما أوتيت من مهرٍ فسيجعل الله فيه بركة،

فأنفقه قدرَ استطاعتك، والله سييسّر الأمور، وسيجعل الله بعدَ عسرٍ يُسرًا.

أيّتها الأمّ الكريمة، أعيني فتاتك على الزواج، وإذا كانت ترفُض الزواجَ لأجل

المطامع الماديّة فكوني خيرَ عَون في إقناعها وتوجيهها وتبيينِ أنَّ هذا المطلبَ

ليس مطلبًا شريفًا، وإنّما المطلب الشّريف دينُ ذلك الرّجل، خلقُه ورجاحة

عقله، أهليتُه لتسلّم تلك الأمانة، فهي ـ والله ـ الغايةُ العظيمة التي يسعى لها

العقلاء ذوو العقول الراجحة والآراء السديدة.

أيّها المسلمون، إنّ توسُّعنا في كثيرٍ من مهور النّساء أثقَلَ كواهلَ شبابنا وأتعَبَهم

وفتح للطّامعين أبوابَ الطّمع المختلِفة، فتحمّلوا ديونًا أثقلت كواهلَهم، وعجزوا

عن تسديدها، وأصبحوا في قلقٍ وهمّ من تلك الديون العظيمة.

أيّها المسلم، إنّ سنّةَ نبيّنا كانت تيسيرَ أمر الزواج، وكانت سنّته تهوينَ أمر

الزواج وعدم المبالغة في ذلك، فكانت سنّته في مهور نِسائه التي يدفعها مهورًا

لهنّ أو قبوله مهورَ بناته، كانت في غايةِ التواضع ليكون مثلاً يُقتَدى به، وإن

يكن ذلك الأمر قد لا يكون يتطابِق مع الوضع، لكنّه بالنسبة إلى زمانِه كان

يسيرًا، وكان مضرَب المثل في التيسير والتّسهيل، فما دفع لامرأةٍ من نسائه فوقَ

أربعة مائة درهم، وما قبل لبناته أكثرَ من أربعة مائة درهم(1)[1]، هذا بلا

شكّ في زمانِه كان مضرَبَ المثل في التواضع، وأنا لا أقول: تقيَّد بهذا، لكن

المهمّ أن لا تكلِّف الخاطبَ ما لا يستطيع، لا تثقِل كاهلَه، ولا تحمِّله ما لا

يطيق، ولا تجعل الزواجَ وقفًا على ذلك المهر الزائد، بل يسِّر الأمور، وأعِن على

الزّواج، ولا تكلِّف ما لا يُطاق، وسيجعل الله في الأمر إن شاء الله بركةً في

الحاضر والمستقبل.

أيّها المسلمون، نبيّنا شرع لنا وليمةَ الزواج، وحثَّنا عليها، فقال لعبد الرحمن بن

عوف: ((أولم ولو بشاة))(2)[2]. فحثّ على الوليمة، وحثّ على حضورها،

ورغّبَ في ذلك، لكن ـ أيّها الإخوة ـ للأسف الشّديد أنّ هذه الولائم أخذت

مسارًا غيرَ صحيح، وسلكت مسلكًا غيرَ مناسب، وتباهى المجتمع في حفلات

الزواج تباهيًا عظيمًا، وأصبح كلٌّ يُحدِث لنفسه نوعًا من المباهاة، عسى أن

يكون سابقًا لغيره، وعسى أن يكونَ متقّدِّمًا على غيره، وعسى أن يُذكَر بأنّ

حفلات الزواج عند فلان بلغت كيت وكيت، وأُنفِق عليها من الأموال ما أنفق

عليها، فأصبح التّباهي بذلك مظهرًا، وهذا المظهر مظهرٌ خاطئ بلا شكّ.

أيّها الإخوة، إنّ نعمَ الله عظيمة علينا، وإنّ النّعم لا تدوم إلا بشكر الله عليها

واستعمالِها فيما يُرضي الله، وإنَّ إضاعةَ المال في كثير من الولائم العظيمة التي

ينفَق عليها في الليلة الواحدة مئاتُ الآلاف لا شكّ أنَّ هذا خطأ عظيم وخطرٌ

كبير، وإنَّ المسلمَ ينبغي أن يحافظَ على نعم الله، ويتذكّر أقوامًا يتمنَّون لقمةَ

العيش فلا يصلون إليها. فلنحمدِ الله على نعمه، ولنعرف قدرَ هذه النعمة،

ولنقُم بحقِّها، ومِن حقِّها أن لا نجاوزَ الحدَّ فيها.

إنَّ بعضَ حفلاتِ زواجنا وللأسف خرجت من دور الإسراف إلى دورِ التبذير

والإنفاق فيما حرّم الله، فهناك الإسراف عند بعضنا تكثيرُ المباحات، وهناك

التبذير والإنفاق في الأمور المحرَّمة التي حرَّمها الشّرع، فالواجب على المسلمين

تقوى الله والتعاونُ على البرّ والتقوى فيما بينهم والتناصحُ فيما بينهم؛ لأنّ هذه

الأشياءَ لا يحلّها ولا يقضي عليها إلا التعاون بين المسلمين وتذكيرُ بعضهم

بعضًا، عسى أن يفهمَ المجتمعُ تلك الأخطاءَ فيبتعد عنها، ويتيسّر أمرُ الزواج.

إنّ شبابَنا ذكورًا وإناثًا كلّهم محتاجون إلى الزواج، فلا بدّ من عملٍ عظيم يسبِّب

تسهيلَ هذه المهمّات؛ التعاون بين المجتمع المسلم على الخير والتقوى، وتشجيعُ

من رأينَا منه تعاونًا وتيسيرًا، حتى يكون الناس يقتدي بعضهم ببعض، ويتأسّى

بعضهم ببعض، ويعين بعضهم بعضًا. أمّا إذا كان أهل الغِنى والثراء ينفقون

الأموالَ الطائلة في الحفلات، وغيرهم يتمنّى أن يكونَ مثلَهم ويحاول الاقتداءَ

بهم ولو تحمَّل من الديون ما لا طاقة له به فهذا هو الخطأ، فالقدوة الصالحةُ

خيرٌ للمجتمع المسلم، وكلّ من سعى في خيرٍ وأعان على خير فإنّ له أجرًا

عظيمًا.



عبادَ الله، رحِم الله امرأً فتح للنّاس أبوابَ الخير، رحم الله امرأً كان قدوةً لمجتمعه

في التّعاون على الخير، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في الاقتصاد في هذه

الأمور، رحم الله عبدًا كان أسوةً حسنة في البُعد عن مظاهرِ الإسراف وبعدٍ عن

التبذير.

أيّها الإخوة، وليمةُ الزواج مطلوبة، ولكن هل المطلوب أن أدعوَ المئاتِ من

الناس، وأكلّف نفسي بما لا أستطيع، أم المطلوب وليمةٌ قدرَ العائلة وأهل

البيت؟

إنَّ هذه الولائمَ اليومَ أصبحت مظهرًا سيّئًا، يُوضَح فيها من أنواعِ المأكولات ما

لا يُؤكل ولا عُشره، وكثيرٌ منها يُلقى في المزابل. نِعَمٌ عظيمة وخيرات كثيرة

النّاس لا يتناولون منها إلا جزءًا، ومعظم أجزائها فإلى المزابلِ والعياذ بالله.

هذا ـ يا إخواني ـ مظهرُ سوء، الواجب على المسلمين التعاونُ على الخير،

والتبصُّر في هذه النّعم، ومعرفة قدرها، وأن الله جلّ وعلا سائلنا عنها: ثُمَّ

لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، الله سائلنا عن هذه النّعم، في أيِّ شيء

استعملناها؟ هل هذه النعم التي توضَع تؤكَل وتستهلك أم لا؟

بعضُ أولئك لو طُلِب منه إعانةٌ لفقير ومحتاج لما بذل درهمًا واحدًا، ولكن عند

مظاهر السّرف والتّباهي تجود الأيدي بالأموال الطائلة في أمور هو يرتكِب فيها

الخطأ من حيث لا يشعر.

فلنكن جميعًا أعوانًا على الخير، ولنتعاون في القضاء على مظاهر الإسراف

والتبذير ووضع الولائم التي لا داعي لها، فلا بدّ من علاجِها بين المجتمع المسلم؛

لأنّ المجتمع المسلمَ مجتمعٌ يجب أن يتعاونَ على الخير بقدر ما يمكن.

أسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم العملَ بما علمنا، وأن يجعلَنا ممّن يستمعون القول

فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم ألو الألباب.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ،

وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله

على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ

يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...

__________

(1) أخرج أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)،

والترمذي في كتاب النكاح (1114)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن

ماجه في كتاب النكاح (1887) عن عمر رضي الله عنه قال: ألا لا تغالوا بصدق

النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ،

ما أصدق رسول الله امرأةً من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي

عشرة أوقية. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620

ـ الإحسان ـ)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود

(1852).

قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربع

مائة وثمانون درهما".

(2) أخرجه البخاري في النكاح (5072، 5153، 5155، 5167)، ومسلم في

النكاح (1427) من حديث أنس رضي الله عنه.

(1/2815)


الرّابطة الزوجيّة رابطةٌ عظمى




الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وأطيعوه، فإنَّ تقواه أفضل مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
أيّها المسلمون، إنَّ الله تعالى بلطيفِ حكمتِه وما أودَعَه في إبداع العالَم من عجائبِ قدرتِه خلق الإنسانَ مجبولاً إلى السّكَن والاستقرار، وطبَعَه في أصلِ خِلقته على الحاجة لذلك والاضطرار، ويسَّر له برحمتِه وفضلِه زوجًا من نفسِه ليسكنَ إليها ويرتبطَ بها؛ إذِ الإنسان لجنسِه أميَل وعليه أقبل، وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، الرّابطة الزوجيّة رابطةٌ عظمى، صدرت عَن رغبةٍ واختِيار، وانعقدَت عن خِبرة وسؤال وإيثار، عقدُها مأمورٌ بِه شرعًا، مستحسَن وضعًا وطبعًا، والأسرةُ هي اللبِنة الأولى لبناء المجتمعات، وبصلاحِها تصلح الأوضاع، وبفسادِها تفسد الأخلاقُ والطّباع، ركناها وقائداها زوجٌ وزوجَة، يجمَع بينهما ولاءٌ ووفاء ومودّة وصفاء وتعاطف وتلاطف ووفاق واتّفاق وآدابٌ وحُسن أخلاق، تحت سقفٍ واحد، في عِيشة هنيّة ومعاشرة مرضيّة. وفي كتاب الله وسنّة رسوله من الإصلاح التامّ والعدل العامّ ما يؤيِّد قواعدَ هذه الرابطة فلا تنثلِم، ويؤكّد عقائدَها فلا تنخَرِم.
أيّها المسلمون، إنَّ سببَ كثرةِ المشكلات وتفاقُم الخلافات وظهور المنازَعات وشُيوع الطلاق والفِراق لأسبابٍ تافهة إنّما هو التقصير في معرفة الأحكام الشرعية وآداب الحياة الزوجيّة وما تقتضِيه المسؤوليّة الأسريّة؛ إذ كيف تكون الأسرَة في هناءٍ وصفاء والزّوج ذو بذاءٍ وجفاء، إذا غضِب نفخ ونَفَث، واكفهرّ وازمجرّ، فيه حبّ الأنى والذّات، خيرُه مُقفَل وشرُه مرسل، كفٌّ يابِس ووجه عابس، ومعاملة فاسدة وأقوالٌ سافلة، تُورِث كَلْمًا لا يندمِل وصدعًا لا ينشعِب، وتترك المرأةَ حسيرةً كسيرة، حائرةً بين مُرَّين: طلبِ تطليقها أو الصبرِ على تعليقِها. وإنّ مَن الأزواج مَن إذا أبغضَ المرأةَ كدَّها وهَدَّها، وكهَرَها وظلمَها، وأكلَ مالَها ومنعَها حقَّها، وقطع نفقتَها، وربّما أخَذ ولدَها وهو تحتَ حضانتِها ورعايتِها، وتركها أسيرةَ الأحزان، تعاني كُرَب الأشجان، فأين الإحسان؟! أين الإحسانُ يا أهلَ القرآن؟!
أيّها المسلمون، وكيف يكون للأسرةِ هناءٌ وصفاء والزّوجة ولاّجة خرّاجة، ثرثارةٌ مِهذارة، طعَّانة لعّانة، لا تُجيب إلى إنصاف، ولا ترضَى بعَيش كفاف، تئنُّ عند طلبِها كسلاً تمارضًا، ولا ترضى لأمرِها مُعارضًا، مقصِّرة مفرِّطة، ومسرفة مفرِطة، كثيرة النّوم واللّوم، مَرهاء ملداء، لا كحلٌ ولا حنّاء، شَوهاء فَوهاء، تبطِل الحقَّ بالبكاء، تنسى الفضلَ وتُنكر الجميل، وتُكثِر على ذلك التّعليل والتّدليل، يقول النبي : ((اطَّلعتُ في النار فإذا أكثر أهلها النساء))، فقيل: لِم يا رسول الله؟ قال: ((يكفُرن العشير ـ يعني: الزوج ـ ويكفُرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدّهرَ ثمّ رأت مِنك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ)) أخرجه البخاري(1)[1].
أيّها الزّوجان الكريمان، اتَّقيا الله في حياتِكما الزوجيّة، بُلاَّها بالحقوق، ولا تدمِّراها بالعُقوق، وليقُم كلّ واحدٍ منكما بما أوجبَ الله عليه تِجاه رفيق عمُره وشريك حياته، واخضعا لنصوص النّقل ومَنْطِق العقل قبل أن يستبدَّ بكما الشّقاق ويحصلَ الطلاق والفراق ويأكلَ أحدكما مِن النّدم كفَّيه ويعضَّ على يديه ويقُدَّ شعرَه ويمضغَ شفتَيه، واحتكِما لقول المولى جلّ وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، وقولِ النبيِّ : ((ألا إن لكم مِن نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا)) أخرجه الترمذي(2)[2].
أيّها المسلمون، إنَّ من رام شريكًا للحياة بريئًا من الهفوات سليمًا من الزّلاّت فقد رام أمرًا مُعوِزًا، وطلب وصفًا معجِزًا، يقول النبيّ : ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خُلقًا رضيَ منها آخر)) أخرجه مسلم(3)[3]، ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((أيّما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاق من غير بأسٍ فحرامٌ عليها رائحة الجنة)) أخرجه أحمد(4)[4].
أيّتها المرأة المسلمة والزّوجة المؤمنة، كوني لبعلك أرضًا يكن لكِ سماء، وكوني له مِهادًا يكُن لك عمادًا، وكوني له أمَة يكن لك عَبدًا، تعهَّدي وقتَ طعامِه، والزَمي الهدوءَ عند منامِه، فإنّ مرارة الجوع ملهَبَة، وتنغيصَ النوم مغضَبَة، اصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحُسن السّمع والطّاعة، ولا تُفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا، واحذري أنواعَ التقصير، واجتنبي أسبابَ التّكدير، ولا تصومي صيامَ تطوّعٍ وزوجُك شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذني في بيتِه لمن يكرَه إلا بإذنِه، واعلمي أنّك أشدّ ما تكونين له إعظامًا أشدّ ما يكون لك إكرامًا، ولا تلحِفي به فيقلاك، ولا تتباعدِي عنه فينساك، واجتهدي على نفسك بما هو أدعى لرغبته وأملأ لعينِه، وليكُن ذلك وفقَ القيود الشرعيّة والآداب المرعيّة، وإذا دعاك لحاجتِه فحقِّقي رغبتَه وأجيبي دعوتَه، يقول رسول الهدى : ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبت أن تجيبَ فبات غضبانَ عليها لعنتها الملائكة حتّى تصبح)) متفق عليه(5)[5].
قومي بخدمتِه بنفسٍ راضية؛ فإنّ في خدمته تقويةَ مودَّة وإرساءَ محبّة، ولتكن أسماء بنتُ أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنها وعن أبيها لكِ في ذلك أسوةٌ وقدوة، تقول رضي الله عنها: تزوَّجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضحٍ وغير فرسه، فكنت أعلفُ فرسَه وأستقي الماءَ وأخرز غَربَه، وأعجن ولم أكن أحسِن أخبز، فكان يخبز لي جارات لي من الأنصار، وكنَّ نسوةَ صدق، وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله على رأسي، وهي منّي على ثلثَي فرسخ. أخرجه البخاري(6)[6].
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفِ ما قامت به زوجه فاطمة بنتُ رسول الله ورضي عنها: إنّها جرّت بالرّحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقربة حتّى أثّرت في نحرها، وقمّت البيتَ حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القِدر حتّى دكِنت ثيابُها. أخرجه أبو داود(7)[7].
وحسبُ المرأةِ طوبَى وبشرَى قولُ الصّادق المصدوق : ((أيّما امرأةٍ ماتت وزوجُها راضٍ عنها دخلت الجنّة)) أخرجه الترمذي(8)[8]، وقوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((إذا صلّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخلي الجنةَ من أيّ أبواب الجنّة شئتِ)) أخرجه ابن حبان(9)[9].
أيّها الزوج الكريم، اتّق الله في زوجك، لا تكلِّفها ما لا تطيق، وأعِنها عند الضِّيق، وأشفِق عليها إذا تعِبت، ودارِها إذا مرِضت، وراعِها عندَ ظرفِ حملِها ونفاسها ورضاعها، وأجزِل لها الشّكر، وتلقّاها ببرٍّ وبِشر، واعلَم أنَّ قوامتَك لا تعني القهرَ والغلبةَ والاستبداد والاحتقار، بل هي قوامة تحفَظ لها كرامتَها، وتستوجب تعليمَها وتأديبها وإعفافها، ولا يكن جلَّ همِّك مراقبة أخطائها وإحصاءُ زلاّتها، ولا تبالِغ في إساءة ظنٍّ بلا ريبَة، ولا تتغاضَ عمَّا يُخلُّ بالدّين والمروءة، واحذَر شكًّا قاتِلاً وظنًّا مدمِّرًا، يقول النبيّ : ((غَيرتان: إحداهما يحبُّها الله، والأخرى يبغِضها الله. الغيرةُ في الرّيبة يحبّها الله، والغيرة في غيره يبغضها الله)) أخرجه أحمد(10)[10].
أيّها الزوجُ الكريم، إيّاك والمعاتبةَ الكثيرة، فإنّها تورث الضّغينة، ولا تمنَع أهلَك رِفدَك فيملّوا قربَك، ويكرَهوا حياتَك، ويستبطِئوا وفاتَك، يقول النبي: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يقوت)) أخرجه أبو داود(11)[11].
كُن جوادًا كريمًا، فمَن جاد ساد، ومن أضعَف ازدَاد، ولا خيرَ في السّرف، ولا سَرَف في الخير، وعاشروهن بالمعروف، أطعموهنّ واكسوهنّ، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، يقول رسول الله : ((اتَّقوا اللهَ في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمةِ الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوَتهنّ بالمعروف)) أخرجه مسلم(12)[12]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا أنفقَ الرجل على أهله نفقةً يحتسبُها فهي له صدقة)) متفق عليه(13)[13].
أيّها المسلمون، لقد كان سيّدُ الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام جميلَ العشرة، دائمَ البِشر مع أهله، يتلطَّف معهنّ، ويضاحكهنّ ويداعبهنّ، ويقول بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه: ((خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))(14)[14]، ويقول : ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلَقًا، وخياركم خيارُكم لنسائهم)) أخرجه البخاري(15)[15]، ويقول عليه الصلاة والسلام حاثًّا وآمرًا: ((استوصوا بالنّساء خيرًا)) أخرجه البخاري(16)[16].
أيّها الأزواج، لا تتجاوَزوا ما شرَع الله لكم من الضّرب غيرِ المبرِّح حالَ النشوز إلى ما حرّم عليكم من الضّرب المفظع والاعتداءِ الموجِع والجَلد المروِّع، فإنّ عواقبَه وخيمة وأضراره جسيمة، وفي البخاريّ أنّ النبيَّ قال: ((لا يجلِد أحدكم امرأتَه جلدَ العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم))(17)[17].
لقد تجاوَز رجالٌ على عهدِ رسول الله ، فطاف النّساء بآلِ رسول الله يشتكين الضربَ من أزواجهنّ، فقال رسول الله : ((لقد طاف بآل محمّدٍ نساء كثير يشتكين مِن أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)) أخرجه أبو داود(18)[18]، وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((ولا تضربِ الوجهَ ولا تقبِّح)) أخرجه أحمد(19)[19]، فويل للظالم، ويل للظالم يوم اقتصاصِ المظالم.
أيّها الأزواج، إنَّ السهرَ والسمَر خارجَ المنزل من مثيرات القلق والأرق، ينغِّص على الزّوجة حياتَها، ويزعزع ويزلزل استقرارَها، ويَضيع بسببه الأولاد فلذةُ الأكباد وثمرة الفؤاد، حتّى يصيروا فريسةً لوحوش الظلام وفتنِ هذا الزّمان، فاحذروا هذا السهرَ واجتنبوه ولا تقربوه.
أيّها المسلمون، إنّ ظهورَ المعاصي والمخالفات وانتشارَ المنكرات في كثير من البيوتات من أعظم أسباب خرابِها ودمارها، ولقد دبَّ الشّقاء والشقاق وثارَت ثائرة الغيرة واشتعلت نيران الشكّ والحيرة بين كثير من الأزواج بسبب طبَق القنوات الخطرِ المحدِق والشرّ المطبق، فحين رأى غيرَها ورأت غيرَه رغِب عنها وزهدت فيه، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117]، نعوذ بالله من الخزيِ والعار ومن فعل يقرِّب إلى النار.
فاتّقوا الله عبادَ الله، وطهِّروا بيوتكم ممّا يستوجب اللعنةَ والطرد والإبعاد، قُل إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27].
أيّها المسلمون، ألا فلتذهبِ المرأةُ مربيةَ أجيال برقِّة طَبع ولطافة حسّ وذكاءِ عاطفة، وليذهَبِ الرجل قوّامًا وقائدًا بقوّةِ بأس وجلالة فِكر وسلامة تقدير وتدبير، وليذهبِ الاثنان إلى حياةٍ كريمة في ظلِّ تمسّك بالدين وفعلٍ للواجبات واجتنابٍ للمحرمات وتعاونٍ على البر والتقوى، و((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى، ثمّ أيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأةً قامت من الليل فصلّت، ثمّ أيقظت زوجها فصلّى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))(20)[20].
وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]. فيا أيّها المسلمون اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، العدلُ يدعو إلى الألفَة ويبعَث على الطّاعة، وبالعدل والإنصاف يدوم الحبّ والائتلاف، وليس للجائر جار، ولن تُعمَر له دار.
أيّها المعدِّدون، اتقوا الله واعدلوا بين أزواجكم، اعدِلوا بينهنّ في مسكنهنّ وملبسهنّ ومأكلهنّ ونفقةٍ عليهنّ والمبيتِ عندهنّ، واحذَروا الجورَ والحيف، فإنّه من أسباب العذاب وموجبات العقاب، يقول النبيّ : ((إذا كانت عندَ الرجل امرأتان فلم يعدِل بينهما جاءَ يوم القيامة وشقُّه ساقط)) أخرجه أحمد(21)[1]، وكان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائِه، فأيتهنّ خرج سهمُها خرج بها معه. متفق عليه(22)[2]. وكان يقسِم بين نسائه ويعدِل بينهن، ويقول : ((اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك)) يعني القلب، أخرجه أبو داود(23)[3].
اعدِلوا بينهن، وراعوا ما يحصل بينهن من الغيرة التي لا يقدرن على دفعها، ولا سبيل لهن إلى رفعها ومنعها، غيرةٌ تغيّر القلبَ والطبع، وتهيّج الغضب وتقلِب الوضع، فعن جسرةَ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيتُ صانعةَ طعام مثل صفية، أهدت إلى النبي إناءً فيه طعام، فما ملكتُ نفسي أن كسرتُه، فقلت: يا رسول الله، ما كفارته؟ قال: ((إناءٌ كإناء، وطعام كطعام)) أخرجه أحمد(24)، وعن عائشة مرفوعًا: ((إنَّ الغيرى لا تبصِر أسفلَ الوادي من أعلاه)) أخرجه أبو يعلى(25).
فتعاملوا بالعقل والحِكمة، واحذَروا قالةَ السوء وصاحبَ السوء وعملَ السوء، وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلّث بكم ـ أيّها المؤمنون ـ من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين...

__________
(1) صحيح البخاري: كتاب الإيمان (29) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الكسوف (907).
(2) سنن الترمذي: كتاب الرضاع (1163) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9169)، وابن ماجه في النكاح (1851)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (929، 2464).
(3) صحيح مسلم: كتاب الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) مسند أحمد (5/277، 283) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الطلاق (2226)، والترمذي في الطلاق (1187)، وابن ماجه في الطلاق (2055)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (748)، وابن خزيمة كما في الفتح (9/410)، وابن حبان (4184)، وانظر تخريجه في الإرواء (2035).
(5) صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3237)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1436) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) صحيح البخاري: كتاب النكاح (5224)، وأخرجه أيضا مسلم في السلام (2182).
(7) سنن أبي داود: كتاب الأدب (5062)، وأخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية (1/70، 2/41)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1075).
(8) سنن الترمذي: كتاب الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1161)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في النكاح، باب: حق الزوج على المرأة (1854)، وأبو يعلى (6603)، والطبراني في الكبير (23/374)، والحاكم (4/173) من طريق مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها، ومساور هذا وأمّه مجهولان، قال الذهبي في الميزان (4/95): "مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة فيه جهالة، والخبر منكر"، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1426).
(9) صحيح ابن حبان (4163) من طريق هدبة عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (4598)، وقال ابن حبان: "تفرد بهذا الحديث عبد الملك بن عمير من حديث أبي سلمة، وما رواه عن عبد الملك إلا هدبة بن المنهال وهو شيخ أهوازي". وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف، أخرجه أحمد (1/191)، والطبراني في الأوسط (8805)، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواته رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات". وفي الباب عن أنس عند أبي نعيم في الحليلة (6/308)، و عن عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني، وقد حسنه الألباني في آداب الرفاف (ص286).
(10) 10] مسند أحمد (4/154) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (10/409 ـ المصنف ـ)، والروياني (186)، والطبراني في الكبير (17/340)، وصححه ابن خزيمة (2478)، والحاكم (1525)، وقال الهيثمي في المجمع (4/329): "رجاله ثقات"، وأعله الألباني في السلسلة الضعيفة (3962) بجهالة أحد رواته.
(11) 11] سنن أبي داود: كتاب الزكاة (1692) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/160، 193، 194، 195)، والنسائي في الكبرى (9177)، والبزار (2415)، والطبراني في الأوسط (4354، 5155)، والبيهقي في الكبرى (7/467، 9/25)، وصححه ابن حبان (4240)، والحاكم (1515)، والنووي في رياض الصالحين (ص94)، وانظر تخريجه في الإرواء (989). وهو عند مسلم في الزكاة (996) بلفظ: ((كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملِك قوته)).
(12) 12] صحيح مسلم: كتاب الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي .
(13) 13] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (55)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1002) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(14) 14] أخرجه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3895)، والدارمي في النكاح (2360) دون الشطر الثاني، والبيهقي في السنن الكبرى (7/468) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (4177)، وله شواهد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
(15) 15] أخرجه أحمد (2/250)، والترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها (1162)، وأبو داود في السنة، باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682) دون الشطر الأخير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (1/3)، والألباني في السلسلة الصحيحة (284). ولم يخرجه البخاري بهذا السياق.
(16) 16] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5186) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الرضاع (1468).
(17) 17] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5204) من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الجنة (2855) بنحوه.
(18) 18] سنن أبي داود: كتاب النكاح (2146) من حديث إياس بن عبد الله رضي الله عنه، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (9167)، وابن ماجه في النكاح (1985)، والدارمي في النكاح (2219)، والبيهقي في الكبرى (7/304، 305)، وصححه ابن حبان (4189)، والحاكم (2765)، وقال الحافظ في الفتح (9/303-304): "له شاهد من حديث ابن عباس في صحيح بن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقي"، وأورده الألباني في صحيح سنن أبي داود (1879).
(19) 19] مسند أحمد (4/447)، ووأخرجه أيضا أبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، وابن ماجه في النكاح (1850)، والنسائي في الكبرى (9171)، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
(20) 20] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في الصلاة، باب: قيام الليل (1113)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الترغيب في قيام الليل (1592)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل (1326) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (3/183-1148)، وابن حبان (6/307-3567)، والحاكم (1/309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1287).
(21) مسند أحمد (2/347، 471)، وأخرجه أيضا أبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141)، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (912).
(22) صحيح البخاري: كتاب الهبة (2594)، صحيح مسلم: كتاب التوبة (2770) عن عائشة رضي الله عنها.
(23) سنن أبي داود: كتاب النكاح (2134) من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا أحمد (6/144)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971)، وقد اختلف في إرساله ووصله، ورجح الترمذي وغيره من الحفاظ إرساله، وصحح الموصول ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وقال ابن كثير في تفسيره (3/502): "إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات"، وانظر تخريجه في الإرواء (2018، 2024).
(24) مسند أحمد (6/148)، وأخرجه أيضا أبو داود في البيوع (3568)، والنسائي في عشرة النساء (3957)، والبيهقي في الكبرى (6/96)، كلهم من طريق فليت عن جسرة عن عائشة، قال البيهقي: "فليت العامري وجسرة بنت دجاجة فيهما نظر"، أما الحفظ فحسن إسناده في الفتح (5/125)، وأورده الألباني في ضعيف أبي داود (762).

(25) مسند أبي يعلى (4670)، قال الحافظ في الفتح (9/325): "سنده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/322): "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وسلمة بن الفضل وقد وثقه جماعة ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وبهاتين العلتين أعله الألباني في السلسلة الضعيفة (2985).