الجمعة، 6 مارس 2015

السفر والارتحال والسياحة والانتقال

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، هدانا إلى أقوم السنن والآداب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة منيب أواب، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير من خشي ربه بالغيب وإليه أناب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين سواقب الأحساب، وعلى الصفوة الخيرة من الأصحاب, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:

 فيا عباد الله، خير الوصايا الوصية بتقوى الله رب البرايا، فتقواه سبحانه أنفع الذخائر للمسلم وأبقاها، وآكد المطاب وأقواها، في قفوها منازل الحق والتوفيق، وفي التزامها الاهتداء إلى الرأي الثاقب الوثيق، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ في كل أحوالكم، في حلكم وارتحالكم، وظعنكم وانتقالكم، ومن تنكب سواء التقوى انقلب خاسئاً وهو حسير، فلبئس المولى وبئس العشير.
أيها المسلمون، في دوامة التنامي الحضاري السريع، وفي خضم التقدم التقني المذهل، في أعقاب هذا العصر الوثاب، وما قابل ذلك من انحسار ملحوظ, بل وسريع في الجانب القيمي والأخلاقي والنفسي بِأَخَرة، أورث ذلك كله توسعاً مذموماً، وانفتاحاً محموماً، في كثير من المجالات، واستحكام أنماط وعادات في الحياة المعاصرة، وحدوث ظواهر مستجدة لم تكن على قدر من حسبان سلفنا الصالح رحمهم الله.
ولتلك الموروثات المعاصرة في شريعتنا ـ بمقاصدها وأهدافها ـ ضوابطها وأحكامها وآدابها، كما أسفرت هذه المدنية المادية عن تبرّم فئام من الناس من المكث في بلدانهم والاستقرار في أوطانهم، والتطلع بينهم إلى التنقل بين كثير من الأقطار, وحطّ عصا الترحال لجَوْب عدد من الأصقاع والأمصار، كل بحسب مقصده ومراده وبغيته ومرامه، وما أن يأفل نجم العام الدراسي، وينبلج صبح الفصل الصيفي، وتتوسط شمس الإجازة كبد السماء، تسفح الوجوه بفيحها وأوارها, وتشتد لفحات الهواجر، ويلتهب رَأْد الضحى، حتى ينزع الناس إلى مواطن الأفياء الظليلة الندية، والمياه الشفافة الرقراقة، والأجواء المخملية النضرة، إجماماً للنفوس، وتطلباً لمتناهي سكونها وهدوئها.
وفي غمرة هذه الأوقات المحتدمة تتبدّى ظاهرة جدّ مقلقلة، وتبرز قضية على غاية من الأهمية، جديرة بأن تسبر أغوارها، وتجلى مزاياها وعوارها، كيف، وقد غالى في فهمها أقوام ومعانيها، وشطوا عن حقيقتها ومراميها، وأكبر الظن ـ يا رعاكم الله ـ أنها قد خالجت أذهانكم, ولم تعد خافية على شريف علمكم، تلكم ـ دام توفيقكم ـ هي قضية السفر والارتحال، والسياحة والانتقال.
معاشر المسلمين، الأصل في السفر الإباحة، والأسفار قسمان:
سفر للمعصية ـ عياذاً بالله ـ، وسفر للطاعة، وسفر الطاعة يتضمن الواجب كسفر الحج وتحصيل الرزق عند انعدامه ونحو ذلك، ومنه ما هو مستحب كزيارة البقاع المقدسة، ومنه زيارة ذوي القربى وصلة الرحم والحب في الله، والسفر لطلب العلم وزيارة أهله، وإغاثة الفقراء والمنكوبين.
وأما السفر المباح فما كان للتطبب, والاتجار والتسبب، وما كان للسياحة والنزهة وترويح النفوس وتجرد عن نية الثواب والطاعة، فالأمور بمقاصدها، ولكل امرئ ما نوى، والنية إذا حسنت تحيل العادات إلى عبادات، وإذا عرفت فالزم.
إخوة العقيدة، إن السفر الذي احتُسب فيه الأجر والثواب, وحُرص فيه على الطاعة وأنزه الآداب لهو بحق روضة للعقول, وبلوغ للأنس المأمول، وهو مَجْلاة للسأم والكلال، وبُعداً عن الرتابة والنمطية والإملال، وفضاء رحب للاعتبار والادكار، قُلْ سِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20].
إبان السفر تتجلى عظمة الخالق البارئ سبحانه، فتخشع له القلوب أمام بديع السموات والأرض، أمام بديع خلق الطبيعة الخلابة, وتسبّحه الروح لمفاتنها الأخّاذة الجذابة، أراض شاسعة فِيح، أنبتت أجمل زهو بأطيب ريح، رياض أُنُف، وحدائق غلب، ونخيل باسقات، وواحات مُورقات، رواسٍ شمّاء، وأرض مدحية وسماء, وأنهار تجري بأعذب ماء.
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَاله مَّعَ اللَّهِ [النمل:60]، أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلاهٌ مَّعَ اللهِ [النمل:61].
فسبحان الله ـ عباد الله ـ، مشاهد في الطبيعة ذائعة، ومخلوقات بديعة رائعة، تدهش الألباب، وفي إتقانها العجب العجاب، تفعم النفس والقلب مسرّة وابتهاجاً، لكن شريطة أن تكون على ممس من القلب والروح والفكر، وسبحان الله، كم يغلب على كثير من الناس أن يمروا بهذه المناظر وكأنهم إزاءها دون نواظر. أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ [الحج:46].
يقول الإمام أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: "فنعوذ بالله من عيون شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرة غير خبيرة".
إخوة الإيمان، ومن الحثّ اللطيف على السفر النافع المفيد قول الثعالبي رحمه الله: "من فضائل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار, وبدائع الأقطار, ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى, ويدعوه شكراً على نعمه".
إن العُلا حدثتني وهي صادقة* فيما تحدث أن العز في النُقَل
وهل بلغ الصحابة الأجلاء، والسلف النبلاء، والأئمة الفقهاء، ما بلغوا من ذُرا القمم, وقصب السبق بين الأمم إلا بالرحلة في طلب الحديث، وتحصيل العلوم والمعارف.
ومن المعروف أن الكُحْل نوع من الأحجار كالثرى يرمى على الطرق, فإذا تغرّب جُعِل بين الجفن والحدق.
أيها المصطافون، أيها المسافرون، يا من عزمتم على جَوْب الأمصار والأقطار، وركوب الأجواء والبحار، واقتحام الفيافي والقفار، وتحدي الشدائد والأخطار, تلبثوا ملياً، وتريثوا فيما أنتم بسبيله، وليكن في نواياكم أسوتكم ونبيكم ، حيث ارتحل من مكة إلى المدينة، حاملاً النور والضياء والهدى والإصلاح، وكذلك صحابته الكرام في أثره، حيث كانوا لنشر رسالتهم الربانية المشرقة أجل السفراء، وسار في ركابهم جلّة العلماء، فشقّوا الأرض شقاً، وذرعوها سفراً وتسياراً، طلباً للعلم والإفادة, والصلاح والسعادة، وتصعّداً في واقي الطهر والنبل، كل ذلك على كثرة المخاوف، وشُح الموارد، وخشونة المراكب، وقلة المؤانس, فهلاّ اعتبرنا بهم وشكرنا الباري جلّ في علاه على نعمه السوابغ.
وفي زمننا هذا المتضخم بالدعة والرفاه، وجدب النفوس من الآمال الغوالي أصبح السفر والتنقل ظاهرة جديرة بالاهتمام والتذكير بالآداب الشرعية والضوابط المرعية.
كيف, وبعض الناس يمتطون هذه الأيام متون الطائرات وأرفه المركبات، أإلى صلة الأرحام والقرابات؟ كلا، أإلى طلب العلم والأخذ من العلماء؟ كلا، أإلى الأعمال الخيرية والدعوية؟ كلا، أإلى مواطن الطهر والفضيلة؟ بكل الحُرقة: لا, وكلا، بل إلى مستنقعات الآثام والشرور, ومباءات المعاصي والفجور, لمبارزة الملك الديان, بالذنوب والعصيان، حيث أملى لهم الشيطان, أن هاتيك المنتجعات والشطآن, هي أدواء علاج الملل من الصيف اللافح، وأجواء الترفيه والسياحة والاصطياف.
أي دين وقيم عند من يسافرون إلى مباءات الأوبئة الفتاكة أجاركم الله؟! التي أسعرتها معطيات الحضارة السافرة، وألهبتها الشبكات الخبيثة المذهلة، وأذكاها الجفاف الروحي، واليباب الفكري والترف المادي الزائف، فكان هذا الفهم الخاطئ لمعنى السفر والسياحة، التي آضت عند بعض المنهزمين صناعة للتفلت من القيم, والتنصل من المبادئ والثوابت، في الوقت الذي تحولت فيه السياحة المعاصرة إلى استراتيجيات بنّاءة تخدم المثل والمبادئ, وتنبني على الفضائل العليا لتحقيق المصالح العظمى، مما كان سبباً في خلط الأوراق لدى كثيرين, بين السياحة البريئة والترويح المشروع وبين ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.
حتى صرفت فئام من الأمة عن تأريخها وأصالتها وتراثها ولغتها، فأضحوا مُزَعاً تائهين أسرى الميليّة والتقليد والتبعية، والتقاليد المستوردة النشاز, حين هبت أعاصير الشهوات والملذات، وثارت لوثات الخلل الفكري والأخلاقي والانحرافات على جملة من السلوكيات في كثير من المجتمعات فتركتها في دياجير الظلمات.
وبنحو ذلك بعض الفتيات والأسر ممن حرموا متانة الدين وقوة الأخلاق, وعمق الأصالة والأعراق، حيث هتك بعضهن ـ هداهن الله ـ حجاب الطهر والاحتشام، ومما زاد الطين بلة والداء علة، اصطحاب البنين والبنات من المراهقين والمراهقات الذين سرعان ما تنغرز في أفئدتهم تلك الأوضاع الفاضحة والمشاهد المتهتكة.
فيا سبحان الله! كيف تقضي المرأة سحابة عامها كريمة معززة ثم تسافر لتطّرح خمارها وحياءها، فاتنة مفتنة.
أتقضي الفتاة ربيع عامها في جو مصون محافظ ثم تسافر لتبدد حياءها وحشمتها؟!
هل نحن ـ رجالاً ونساءً ـ في شك من ديننا؟! أولسنا على ثقة من قيمنا وثوابتنا؟!
إذن لماذا هذا الانفصام في الشخصية, والتناقض والازدواجية في قضايانا الاجتماعية.
وإنكم لتأسفون أن يعلق كل هذا على مشجب الترويح والترفيه, زعموا، ومحل الصواب أن هذا ضرب من خيانة الأمانة في التربية والتنشأة والله عز وجل يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وهؤلاء وأمثالهم في كل مكان ـ إلا من رحم الله ـ كالغراب الأعصم, لا يعودون من أسفارهم إلا بكآبة المنظر, وسوء المنقلب, وندامة المعتقد الذي استعاذ منه المصطفى ، لطّخوا أبصارهم فيما حرم الله، حتى غار منها ماء الحياء وراؤه، وجمعوا إلى العصيان عقوق امتهان الأوطان، وهل أبرز صوراً من الإرهاب والإخلال بأمن المجتمع إلا ضروب من الأسفار, غير منضبطة بما في الشريعة والأسفار.
وللأوطان في دم الشرفاء الأحرار حقوق واجبة وديون مستحقة مما يعظم المسؤولية في رعايتها حق رعايتها وتنشئة الأجيال على أمنها وعنايتها.
أمة الإسلام، وأنّى تندمل جروحنا النازفة وشروخُنا الراعفة وفي الأمة من لا يبالي بدين ولا قيم ولا أمن ولا ذمم, فليت شعري! أبمثل هذا تبنى المجتمعات ويشاد صرح الحضارات؟! وليت شعري! أبمثل هذا تعمر الأوقات وتدوم الخيرات والبركات وتستجلب البهجة والسعادة والمسرات؟!.
أيها المسافرون، إن النار حفت بالشهوات، فلا يكلِمنّ الشيطان دينكم بدعوى الترفيه والاصطياف في بقاع وبيئة شائكة.
ويا بغاة الشر كفوا وأقصروا، وتذكروا وازدجروا.
وإلى الذين اضطروا إلى السفر وعزموا عليه الله الله من إقامة شعائر دينكم والاستمساك بأخلاقكم والولاء لعقيدتكم وأمتكم في عزة وإباء، وليكن منكم في السويداء أمن دينكم وقيمكم في الذُرا جمالة وجلالا، وفي القمة عزة وكمالاً، فكونوا له خير سفراء وطبقوه خير منهاج وأحسن مثالاً.
أيها الأحبة في الله, شُكر النعم رباط تمنعنا من الإباق, وإننا لنشكر المنعم المتفضل سبحانه أن طهر ديار الحرمين من كثير من الأدران, وبسط في أرجائها ظلال الأمن والأمان, كما نلهج بالشكر له جل جلاله وهو أهل الشكر أن خص بلادنا المباركة بالجمال الخلاب, والمناخ الآسر الجذاب, أحاط بذلك أمن وارف الظلال تفتقده كثير من الأصقاع, فحبذا المروج الخضراء, والمقام النشي والهواء, والمواقع المنمنمة الفيحاء, والجداول المنسابة بالري والماء, مما يحقق المقصد المشروع من السفر والسياحة في أوفر أسباب الحشمة والعفاف, وفي سياج منيع للدين والفضيلة, وفي بُعد عن أسباب الشر والفساد والرذيلة.
أينما أرسلت رائد الطرف في هذا الثرى الأفيح، وكيف بكم إذا كانت السياحة تعبدية في عرصات الحرمين الشريفين, إنها الطهر والنماء والرقي في معارج الخير والسناء ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [الجمعة:4].
ولقد منّّ الله على بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله فجعلها واحة إيمان, ودوحة أمن وأمان، حباها الله من مقومات السياحة الحسية والمعنوية ما ليس لغيرها, ويأتي في الذؤابة منها تحكيم الشريعة التي فيها تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد, ودرء المفاسد عنهم والحفاظ على دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم، ومجانبة مسالك العنف والإرهاب، والقتل والإرعاب، وإراقة الدماء المعصومة بغير وجه حق، والتعرض للمسلمين والمعاهدين والمستأمنين باعتداء أو إيذاء ونحو ذلك من صور الإفساد في الأرض، وبروز النسف والتفجير والعنف والتدمير, ويزيد الأمر خطورة حينما يصل الإجرام ذروته، في أفضل البقاع مكة المكرمة والمدينة النبوية التَيْن لهما من الحرمة والمكانة والقدسية ما لا يخفى على كل ذي بصيرة، ومما زاد الأمر ضِغثاً على إبالة، مصاحف مفخخة، ومساجد متحذة وكر للجريمة والتستر على أصحابها عياذاً بالله.
لكن الله بلطفه وكرمه، ثم بالجهود الموفقة المبذولة من ولاة الأمر نصر الله بهم دينه، أحبط هذه المحاولات الإرهابية البائسة، وكشف عوارها ومن يقفوا وراءها.
ألا فلتدومي سالمة يا أرض الحرمين الشريفين، ولتعيشي هانئة يا موئل العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضل الله الخروج من الأزمات أكثر تماسكاً وأشد تلاحماً بحمد الله، ولتبقي بإذن الله على مر الدهور, وكر العصور شامةً في دنيا الواقع, ومثلاً يُحتذى, وأنموذجاً يقتفى في الأمن والأمان, وبذلك تتضح لك أخي السائح المبارك, والمسافر الكريم صورة الارتباط الوثيق بين الأمة والسياحة والسفر والأمان.
ألا شاهت وجوه الأعداء المتربصين, وخسئت أعمال المعتدين المفسدين المجرمين, وردّ الله كيد الكائدين إلى نحورهم, وحفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من شر الأشرار, وكيد الفجار, إنه خير مسؤول, وأكرم مأمول.

 فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن شريعتنا الغراء قد أحاطت المسافر بجملة من الأحكام والآداب ابتداء من العزم على السفر وإلى غاية الإياب منه، منها:
أولاً: الإخلاص لله، وحسن المقصد وشرف الغاية ونبل الهدف، ومنها ثانياً: إذن الوالدين ورضاهما، قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويحرم السفر بغير إذنهما، لأن الجهاد إذا منع مع فضله فالسفر المباح أولى".
ثالثاً: التماس الوصية والدعاء من أهل الصلاح والفضل، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني أريد سفراً فزودني، قال: ((زودك الله التقوى))، قال: زدني، قال: ((وغفر ذنبك)) قال: زدني بأبي أنت وأمي، قال: ((ويسر لك الخير حيثما كنت))(1)[1]، الله أكبر يا لها من وصية, ما أعظمها وأجمعها.
رابعاً: توخي المرافق المطاوع الموافق الذي يدلك على الله مظهره, ويذكرك إن غفلت مخبره، وما سمي السفر سفراً إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ومعادنهم وطباعهم.
خامساً: الحرص على أدعية السفر فهي حصن حصين وكافية واقية من كل سوء بإذن الله، فيسن للمسافر إذا استوى على راحلته أن يقول: سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13، 14].
((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى..)) الحديث(2)[2].
وبعامة فعلى المسافر أن يكثر من ذكر الله عز وجل ودعائه, يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده))(3)[3].
ويجتهد المسافر في تمثل أدعية السفر ومعرفة مواطنها.
سادساً: فقه أحكام السفر وآدابه تعلماً ومساءلة لأهل العلم, وقوفاً على أحكام السفر وآدابه, كرخصة المسح على الخفين وقصر الصلاة وجمعها ومدة ذلك وكيفيته ومعرفة اتجاه القبلة والمحافظة على الصلاة في أوقاتها وغير ذلك.
أخي المسافر الكريم، وإذا قضيت نهمتك من سفرك فعجل بالرجوع إلى أهلك واسلك طريق العودة غير متوانِ إلى ديارك، يقول : ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله))(4)[4] خرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن هذه الأحكام والآداب والأذكار لا تزال تحكم المسلم في شريعته ودينه في السفر كما في الحضر رفعاً للمشقة والإصر، وتذكيراً له بأنه موصول بخالقه في كل زمان وعلى أية حال, والله المسؤول أن يسلم المسافرين في جوه وبره وبحره من المسلمين, وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين, إنه جواد كريم.

__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: ما يقول إذا ودع إنساناً (3444)، وقال حسن غريب، وقال الألباني في صحيح الترمذي (2739): "حسن صحيح".
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره (1342) من حديث ابن عمر.
(3) أخرجه الإمام أحمد (9323)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وحسنه، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3115).
(4) أخرجه البخاري في الحج، باب: السفر قطعة من العذاب (1804)، ومسلم في الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب (1927).
(1/2822)

فمن اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه

الحمد لله ربّ العالمين، القويّ المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فاتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
أيّها المسلمون، إنَّ خيرَ ما وُعِظت به القلوب وهُذِّبت به النّفوس آياتٌ مِن كتاب الله تعالى أو أحاديث من كلام رسول الله ، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
فألقوا الأسماعَ، وافتَحوا القلوب، وتفكّروا بالعقول في كلماتٍ معدودات لسيّد البشر محمّد ، جمعت الدّينَ الإسلاميّ كلَّه، واستوعبت مصالحَ الدين والدّنيا، فما مِن خير إلاّ تضمّنته هذه الكلمات، ولا شرٍّ إلا حذّرت منه؛ لأنّ نبيّنا أوتيَ جوامعَ الكلِم واختُصر له الكلامُ اختصارًا، فألفاظه القليلةُ جمعت المعانيَ النّافعة العظيمةَ الكثيرة، وقد تكون الكلمة الواحدةُ متضمِّنةً الإسلامَ بتعاليمه كلِّها، كقوله : ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه(1)[1]، وقوله : ((البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النّفس وتردّد في الصّدر وكرِهت أن يطّلعَ عليه النّاس وإن أفتاك النّاس)) رواه أحمد وروى مسلم بعضه(2)[2].
ومِن جوامع كلِمِه النّافعة المباركة قوله : ((الدّين النصيحة، الدّين النصيحة، الدّين النصيحة))، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتِهم)) رواه مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه(3)[3].

وهذا الكلام النبويّ المبارك فيه حصرٌ وفيه قصر، بمعنى أنّ الدين محصور ومقصور في النّصيحة، فمن اتّصف بالنّصيحة فقد أحرَز الدينَ كلَّه، ومن حُرم النصيحةَ فقد فاته من الدين بقدر ما حُرم من النصيحة.

وتفسير النّصيحة هي القيامُ بحقوق المنصوح له مع المحبّة الصادقةِ للمنصوح له، والحقوقُ تكون بالأقوال وتكون بالأفعال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي رحمه الله: "النّاصح الخالص من الغلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصَح"(4)[4]، وقال الخطابيّ: "وأصل النّصح في اللّغة الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصه من الشّمع"(5)[5].
والنّصح من صفاتِ الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، والغشّ والخداع والمكر وفسادُ النوايا من صفات الكفّار والمنافقين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وقال تعالى عن صالح عليه السلام: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79]، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93]، وقال تعالى: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ [التوبة:91]، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعتُ النبيَّ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصحِ لكل مسلم. رواه البخاري ومسلم(6)[6]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصَحَك فانصَح له، وإذا عطس فحمِد الله فشمِّته، وإذا مرِض فعُده، وإذا مات فاتبَعه)) رواه مسلم(7)[7]. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ قال: ((ثلاثٌ لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) رواه أحمد وابن حبان(8)[8]. ومعنى الحديث أنّ هذه الخلال الثلاث تصلح القلوبَ وتطهّرها من الخيانة والغلّ والخبائث.
وصُلحاءُ هذه الأمّة هم المتّصفون بالنصيحة لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: "ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحابَ رسول الله بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه"، قال: "الذي كان في قلبه الحبّ لله عز وجلّ والنصيحة في خلقه"(9)[9]، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصدر والنّصح للأمّة"(10)[10]، وسئل ابن المبارك رحمه الله: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "النّصح لله"(11)[11]، وقال معمر: كان يقال: "أنصحُ الناس لك من خاف الله فيك"(12)[12]، وقال بعض السلف: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوسِ النّاس فإنما وبّخه"(13)[13].
ومعنى النّصيحة لله تعالى هي عبادتُه وحدَه لا شريك له بإخلاصٍ ومتابعة للهدي النبويّ مع كمال الذلّ والخضوع والمحبّة لله عز وجل، وعدمُ الإشراك به في الدعاء أو الذبح أو النّذر أو الاستعانة أو الاستعاذة أو الاستغاثة أو التّوكّل أو الرّجاء أو الرّغبة أو الرّهبة أو أيّ نوع من أنواع العبادة لقول الله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
والنّصيحة لله تعالى هي الإيمان بصفاتِه جلّ وعلا التي وصف بها نفسَه أو وصفه بها رسوله ، وإثباتُها كلِّها لله إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهُه عزّ وجلّ عمّا لا يليق به تنزيهًا بلا تعطيل للصفات، واعتقادُ توحُّده وتفرُّده سبحانه بالخلق والتّدبير وتصريف الكونِ في الدّنيا والآخرة، لقوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، ولقوله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، والتقرّبُ إليه بكلّ فريضةٍ ونافلة، ومجانبة محرَّماته، فمَن قام بهذه الحقوق لربّه فقد نصح لخالقه، وفي مراسيل الحسن البصريّ عن النبيّ قال: ((أرأيتُم لو كان لأحدكم عبدان فكان أحدُهما يطيعه إذا أمره، ويؤدّي إليه إذا ائتمَنَه، وينصح له إذا غاب عنه، وكان الآخر يعصيه إذا أمَرَه، ويخونه إذا ائتمَنَه، ويغشّه إذا غاب عنه، أيكونان سواء؟)) قالوا: لا، قال: ((فكذلكم أنتم عندَ الله عزّ وجلّ)) خرجه ابن أبي الدنيا(14)[14]، وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((قال الله تعالى: أحبُّ ما تعبَّدني به عبدي النصحُ لي)) رواه أحمد(15)[15].
ومِن النّصح لله تعالى محبّة ما يحبّ الله تعالى من الأقوال والأفعال، وبغضُ ما يبغضه الله تعالى من الأقوال والأفعال.
قال بعض أهل العلم: "جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلب للمنصوح له مَن كان، وهي على وجهين: أحدهما فرض، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترضة لله هي شدَّة العناية من النّاصح باتباع محبّة الله في أداء ما افترض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّته على محبّة نفسه، وذلك أن يَعرِض أمران: أحدهما لنفسه والآخر لربّه، فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كان لنفسِه"(16)[16].
وأمّا معنى النّصيحة لكتاب الله تعالى فشدّةُ حبِّه وتعظيمُه وشدّة الرّغبة في فهمه والعنايةُ بتدبُّره والاهتمام بحفظه بقدر الاستطاعة وبقدر ما يوفِّق الله تعالى ويعين ومداومة تلاوته والتخلُّق بآدابه والتّحاكم إليه ودعوة النّاس إلى العناية به تعلُّمًا وتعليمًا.
وأمّا معنى النّصيحة لرسول الله فطاعةُ أمره واجتناب نهيِه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه ونُصرة سنّته، والعناية بهديه تعلُّما وتعليمًا، وبُغض من يكرَه سنّتَه، والاقتداء به ظاهرًا وباطنًا ومحبتُه أكثرَ من النفس والمال والأهل والولد، والردُّ من العلماء على الأهواء المضلّة بالكتاب والسنّة والذبُّ عن سنّة رسول الله .
ومعنى النّصيحة لأئمّة المسلمين الدعاءُ لهم بالصّلاح وحبُّ صلاحهم وحبُّ عدلهم ورشدهم وحبُّ اجتماع الكلمة عليهم ومحبةُ نشر حسناتهم وبُغض ذكر مثالبهم وطاعتُهم في طاعة الله ومحبةُ إعزازهم وعدمُ الخروج عليهم بالأقوال أو الأفعال وبُغض من يرى الخروجَ عليهم ومناصحتُهم فيما يعود على الأمّة بالخير في دينهم ودنياهم بالرّفق والحكمة والإخلاص لله تعالى وعدمُ الدعاء عليهم.
وأمّا معنى النّصيحة لعامّة المسلمين فأن يحبَّ لهم ما يحبّ لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ويرحم الصغير منهم ويوقّر الكبير ومعاونتُهم على الحقّ وتعليمُهم وأمرُهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وأن يدفعَ عنهم الأذى والمكروهَ والأخطار التي تهدِّدهم، ومِن أعظم الأخطار الكبيرة وأكبر الشرور النازلة بالأمّة ما وقع من أعمالٍ تخريبيّة وإرهابيّة استحلّت الدمَ الحرام والمالَ الحرام وروَّعت الآمنين واستهدفت الأمنَ والاستقرار، نبعت من فكر تكفيريٍّ خارجيّ عاثَ في الأرض فسادًا، ذمَّه الرسول أشدَّ الذمّ، فمِن النصيحة لعامّة المسلمين اجتثاثُ هذا الفكر التكفيريّ وتحذيرُ المسلمين منه ورفعُ من عُلِم عنه الإعداد لهذا التخريب والإفساد للسّلطات ليلقى جزاءَه، وليكفَّ شرَّه عن الدّماء المعصومة والأموال المحرّمة، ولا يجوز التستُّر عليه بحال. والنّصحُ للمسلمين حمايتُهم من كلّ ضرر في عقيدتهم ودينهم ودنياهم، والخوارجُ يفسِدون الدّينَ والدّنيا.
بسم الله الرحمن الرحيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:24، 25].



 فاتقوا الله أيّها المسلمون، واخشوا يَومًا تُرجعُون فيهِ إِلى اللَّه ثمَّ توَفَّى كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهم لا يُظلمون.
وتمسكوا بوصيّة سيٍِّد البشر لمعاذ رضي الله عنه لمّا قال له: ((اتَّق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالق النّاس بخلقٍ حسن))(17)[1].
فإنّ لكلّ حسنةٍ ثوابًا، ولكلّ سيّئة عقابًا، فربّكم قائمٌ على كلّ نفس بما عمِلت، يُحصي على الخلقِ أعمالَهم، ثمّ يدينهم عليها، ويقول في الحديث القدسي: ((يا عبادِي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفِّيكم إيّاها، فمن وجدَ خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه))(18)[2].
وكلّ إنسانٍ يلقى كتابَه، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله، قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، فأعدُّوا لهذا اليوم، وقدِّموا لأنفسِكم أفضلَ ما تقدرون عليه من العمل.
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمَّ وارضَ عن الصحابة أجمعين...

__________
(1) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
(2) أخرجه أحمد (4/227، 228)، وأبو يعلى (1586، 1587)، والطبراني في الكبير (22/147، 148) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه بنحوه، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/351)، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1734): "حسن لغيره". ويشهد له حديث مسلم في البر (2553) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بنحوه.
(3) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
(4) انظر: تفسير القرطبي (7/234).
(5) انظر: جامع العلوم والحكم (ص79).
(6) أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
(7) صحيح مسلم: كتاب السلام (2162).
(8) أخرجه أحمد (4/80، 82)، وابن ماجه في المناسك (3056)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون". وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480). وصححه ابن حبان (67، 680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.
(9) انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
(10) 10] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/103)، والبيهقي في الشعب (7/439).
(11) 11] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81).
(12) 12] انظر: جامع العلوم والحكم (ص81-82).
(13) 13] انظر: جامع العلوم والحكم (ص82).
(14) 14] عزاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص78) لابن أبي الدنيا.
(15) 15] مسند أحمد (5/254)، وأخرجه أيضا الروياني (1193)، والطبراني في الكبير (8/206)، وأبو نعيم في الحلية (8/175)، والبيهقي في الزهد الكبير (702)، وأشار المنذري في الترغيب (2/362) إلى ضعفه، وقال الهيثمي في المجمع (1/87): "فيه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4032).
(16) 16] انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/691).
(17) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
(18) جزء من حديث أبي ذر القدسي الطويل في تحريم الظلم، أخرجه مسلم في البر (2577).
(1/2821)

أيّها المسلم فكن مجتنبًا للضَّر



الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله، أخوَّةُ الإيمان تقتضِي مِن المؤمنِ أن يحبَّ لأخيه الخيرَ ويكره له الشرّ، يحبّ له ما يحبّ لنفسه، يكره له ما يكره لنفسه. إذًا فما يسعى في إلحاق الضّرر به، لا في بدنِه ولا في عِرضه ولا في مالِه ولا في ولدِه، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عن إلحاق الضّرَر بجميع صوَره وأشكاله، فإنّ إلحاقَ الضّرَر بالمسلم نوع من الأذى والله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، ونبيّنا يقول: ((لا ضرَرَ ولا ضِرار))(1)[1]، وفي حديث آخر يقول : ((من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه))(2)[2]. إذًا فالجزاء من جِنس العمل، فمَن سعى في الخير فرّج كربَ مكروب وهمَّ مهموم فرّج الله كرَبَه وهمّه، ومن يسَّر على مُعسِر يسّر الله عليه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، وعكس ذاك والعياذ بالله من مكَر بإخوانه المسلمين مُكِر به، ومن ضارّهم ألحق الله به الضّرر، ومن أساء إليهم سلّط الله عليه جزاءً وفاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].

أيّها المسلم، فكن مجتنبًا للضَّرر، سواء في نفسك بأن تُلحقَ بها ضررًا أو بزوجتك أو بأولادك أو بجيرانك أو بمَن تعامله أو بمَن لك عليه سُلطة تنفيذيّة، فكن بعيدًا عن الضّرر بكلّ معناه وصوَره لتكونَ من المؤمنين حقًّا.

والله جل وعلا قد بيّن لنا أنوعًا من الضّرر نهانا عن الوقوع فيها، فمِن ذلكم الإضرار في الوصيّة قال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12].

الإضرار في الوصيّة يكون بأحدِ أمرين: إمّا أن يوصيَ لوارثٍ بشيء فوقَ حقّه الذي يستحقّه من الميراث، فيكون بذلك مضارًّا ببقيّة الورثة، ولذا قال الرّسول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث))(3)[3]. ومنها ثانيًا: أن يوصيَ بأكثرَ من الثلث لغير الوارثين، والوصيّة بأكثر من الثلث لا تجوز إلا بموافقةِ الورثة، ونبيّنا يقول: ((الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذَرَ ورثتَك أغنياءَ خير من تذرَهم عالةً يتكفَّفون النّاس))(4)[4]، ويقول : ((إنّ الله تصدّق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم زيادةً في حسناتِكم))(5)[5]. إذًا فلا تجوز الوصيّة بأكثر من الثّلث، فإن فعل كان مضارًّا بذلك، ولهذا قال الله: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:182]، وفي الحديث المرويّ عنه : ((وإنّ العبدَ ليعمل بطاعة الله سبعين سنةً، فيحضره الموت، فيجور في وصيّته فيدخل النّار، وإنّ العبدَ ليعمل بمعصية الله سبعين سنة، فيحضره الموت، فيعدِل في وصيّته فيدخل الجنة))(6)[6]، وذلك أنّ الله جلّ وعلا جعل الوصيّة مشروطةً بعدم الضّرر، والإضرارُ في الوصيّة من كبائر الذّنوب كما قال ابن عبّاس(7)[7] لأنّ الله قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].

ومِن أنواع الضّرر الضّرر بالمرأة أحيانًا، فبعضُ النّاس يُلحِق الضّرر بامرأتِه، إذا لم يكن في قلبِه محبّةٌ لها أحبّ أن يلحِقَ الضّرر بها، فربّما طلّقها ثمّ راجعها لأجل الإضرار والإساءة، قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ [البقرة:231]. كانوا في الجاهلية يطلِّق فإذا قارب انقضاءَ العدّة راجعها لإلحاق الضّرر بها، فجاء الإسلام وحدّد الطلاق بثلاث، ثم أيضًا مع هذا أرشد المسلمَ إذا أراد أن يُراجع بعد الطلاق فليراجع مراجعةَ مَن يُحبّ القيام بالواجب والمعاشرة بالمعروف، لا مراجعة من يريد الإضرارَ والإساءة، قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحًا [البقرة:228].

ومِن أنواع الضّرر بالمرأةِ أيضًا أن يُضارّ بها لأجل أن تفتديَ منه وتدفعَ له ما دفع لها ولم يكن من المرأة خطأ ولا تقصيرٌ في واجب، لكن ما قسَم الله محبةً بينهما، فيلحق الضّرر بها أو بأهلها أو بشرفِها لأجل أن يُعطَى ما دفع فيُمسِك عن القيل والقال، وهذا غايةُ الخِسّة والدّناءة، ولهذا قال الله: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ [النساء:19]، فعضلُ المرأة والإساءة إليها لأجل أن تفتديَ بنفسها منه من غيرِ نقصٍ حصل منها هذا نوعٌ من الضّرر.

ومِن الضّرر بالمرأة أيضًا أن لا يعدِل بينها وبين ضرّتها، وأن يميل مع [واحدة] دون الأخرى، فهذا من الضّرر المنهيِّ عنه لأنّه خلاف العدل المأمور به شرعًا.

ومن أنواع الضّرر بالمرأة أو بالزّوج أن يُؤخَذ من المرأة أولادُها الصّغار لأجل إلحاق الأذى والضّرر بها، قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، فلا يضارّ الرجل المرأةَ بأخذ ولدِها الصغار لإفجاعها وإلحاقِ الأذى بها، كما لا تضارّ المرأة الرجلَ الذي فارقها بعدم القيامِ بحقّ الأولاد لأجل أن تضطرّه إلى أمورٍ يعجز عنها. فكلٌّ من الرّجل والمرأة لا يلحق الضّررَ بصاحبه، والنتيجة عند ذلك ضياعُ الأولاد وإصابتهم بالأزمات النفسيّة، فإنّ نزاع الزوجين النتائجُ السيئة تلحق بالأولاد.

ومِن أنواع الضّرر أيضًا الضّرر بالمعسِر العاجز عن التّسديد، فإنّ الله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فإذا عجز الغريم عن الدَّين وعلمتَ عجزَه عن الوفاء وعدمَ قدرتِه على الوفاء فلا تُلحِق الضّررَ به قولاً أو فعلاً لأنّه عاجز عن الوفاء، وعليك الانتظارُ حتى يفرّج الله الأمر.

ومِن أنواع الضّرَر أيضًا ما يتحكّم به بعض النّاس في البيع، فإذا أتاه المضطرّ المحتاجُ وعلم ضررَه وحاجتَه ضاعف عليه القيمةَ أضعافًا كثيرة، فما يستحقّه بألفِ ريال لا يعطيه تقسيطًا إلا بألفين أو أكثر، يتحكّم في مصير هذا العاجز المضطرّ، والبيع بالتّقسيط والأجل جائز، والزيادةُ لأجل التأجيل جائزة، لكن بالرّفق وعدمِ إلحاق المشقّة واستغلالِ ضرورتِه وحاجتِه، أن تحمّلَه من الديون ما يعجز عن وفائه، فإمّا أن تعينَه وترفُق به، وإلا فعدمُ إعطائك إيّاه أولى من إلحاق الضّرر به.

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر احتكارُ الأشياء وعدم بيعها إلا عندما يحتاج الناس إليها، فإنّ المحتكر خاطِئ ومتوعَّد بوعيدٍ شديد.

ومِن أنواع الضّرر الذي يُنهَى المسلم عنه الغشُّ في المعاملات وكِتمان عيوبِ السِلَع والتدليس والكذب وعدمُ الوضوح في البيع والشراء، هذا من إلحاق الضّرر بالمسلم، والمسلم مأمورٌ بالبعد عنه، ومن غشّنا فليس منّا.

ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن يكونَ الإنسان مُروِّجًا لسِلَع تضرّ بالناس في دينهم ودنياهم، فمروِّجو المخدّرات والمسكرات والساعون في بثّها في المجتمع المسلمِ هؤلاء قد ألحقوا ضررًا بالأمّة، وسعَوا في إفسادها وتدمير كيانِها والقضاء في قيَمها وأخلاقها، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

أيّها المسلم، وإنّ من أنواع الضّرر أن تلحقَ الأذى والضّرر بجارك، فتسيء إليه، إمّا أن تضَع في بيتك أمورًا تضرُّ به وتسيء إليه بجميع أنواع الضّرر، سواء كان هذا الضّرر بأصواتٍ مزعجة أو بفَتح نوافذَ ربّما تطّلع منها على عوراتِه أو تضَع في بيتك ما يقلِقه ويضجره، فإنّك مأمور بإكرام الجار، ومنهيّ عن إلحاقِ الضّرر بالجار، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره.

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر المنهيِّ عنه الضّرر في الشهادة وكتابةِ العقود، قال تعالى: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [البقرة:282]. فالشّاهد لا يضارّ، ولا يُدعَى إلى الشهادة في وقت هو لا يستطيع الحضورَ [فيه]، أو يكلَّف ما لا يطيق، كما أنّ الكاتبَ أيضًا لا يكلَّف بما لا يطيق، وكذلك الكاتب والشّاهد لا يضارّان في كتابتهما وشهادتهما، فشاهدُ الزّور يُعتبرَ مضارًّا بمَن شهد عليه، لأنّ شهادتَه ظلم وعدوان، وكاتب العقود بغير ما أمِر بكتابته يكون مضارًّا بما كتب، ومَن عنده شهادة يتوقَّف حصول الحقّ عليها إذا كتمَها كان مضارًّا بمَن له الحقوق؛ لأنّ الله يقول: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

هكذا أيّها المسلم، دين الإسلام يدعوك إلى الخير، يحذِّرك من إلحاق الضّرر بإخوانك المسلمين بكلّ ما تحمِله الكلمة من معنى.

فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنترفّع عن الإضرارِ بإخوانِنا، لنكونَ مؤمنين حقًّا.




واعلم ـ أيّها المسلم ـ أنّ أولادك مِن بنينَ وبنات أمانة في عنقِك، فإيّاك وإلحاقَ الضّرر بهم.

إنّ مِن إلحاق الضّرر بالفتاة أن تمنَعها من كفءٍ أراد الزواجَ بها وتعلم أهليّتَه لذلك، فتمنع زواجَ الفتاة لمصلحةٍ ترجوها منها، مرتّبٌ تقبِضه كلَّ شهر، تمنعُها الزواجَ مراعاةً لمصالحك الخاصّة، متجاهلاً منفعةَ الفتاة ومصلحتَها في المستقبل، هذا كلّه من الضّرر.

ومِن الضّرر أيضًا أن لا تزوّجَها إلاّ أن تعاوَض عن زواجها بزواجٍ لك أو لأحدِ أبنائك، فترتكبُ نكاحَ الشّغار الذي نهى عنه محمد (8)[1].

ومِن الضّرر بالأولادِ تفضيل بعضهم على بعض حتى تكون الشّحناء والعداوة بينهم.

ومِن أعظم الضّرر بالأولاد من بنينَ وبنات إهمالُ تربيتهم وإهمال توجيهِهم وعدمُ النظر في ذلك، فإنّ هذا نقصٌ في حقِّك، فالواجب أن تتّقيَ الله في أولادك بتربيتهم وتوجيههِم ودعوتِهم إلى الخير وترغيبهم فيه.

ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن تعرفَ لذي حقٍّ حقّه فلا تعطِي أهلَ الحقوق حقوقَهم، الواجبُ أن تقضيَ ما في ذمّتك من الحقوق، والنبيّ يقول: ((مطلُ الغنيّ ظلمٌ، يُحلّ عرضَه وعقوبتَه))(9)[2].

ومِن أنواع الضّرر أن تعاملَ الناسَ بدرجاتٍ مختلِفة، فبعض النّاس إذا كان ذا عمل ومصلحةٍ وممّن يؤمّه الجمهورُ يراجعونَه ويبحثون عن معاملاتهم، فبعضهم نفسُه دنيئة، إن رأى ذا جاهٍ ومكانة أنجز معاملتَه وسعى في تخليصِها في أسرَع وقت، وإن رأى فقيرًا عاجزًا ضعيفَ القولِ قليلَ الحيلة ماطل في قضاءِ حاجته، وربّما أتعبَه الأيامَ والشهور؛ لأنّه لا يرجو منه منفعةً، فهو إنّما ينجِز معاملةَ من يرجو المنفعةَ منه، أمّا من لا يرجو منه منفعة ولا يحصِّل من ورائه مصلحة فهو يماطل بحقوقِه ويتهاون بذلك، وتلك خيانةٌ للأمانة التي اؤتمنتَ عليها، وهي إنجاز الأعمال والقيام بحقّ الخَلق كما أمرك بذلك ربّك: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

ومِن أنواع الضّرر ما قد يضرّ العبد بنفسِه في أنواع العبادة، فإنّ العبادةَ التي أمر الله بها وسطٌ بين غلوّ الغالين وجفاءِ الجافين، ولهذا النبيّ أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا تعمّق في العبادة، فجعل ليلَه قيامًا ونهاره صيامًا وأعرض عن أهله، فقال له: ((يا عبد الله بن عمرو، إنّ لربّك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا))(10)[3]، فأمره أن يقومَ بالحقوق كلِّها، وأن لا يفرّطَ في بعضِها على حسابِ البعض الآخر، فهذا من أنواع الضّرر لأنّ تعطيلَ جانبٍ من جوانب الخير [بسببِ] جانبٍ آخر يضرّ بالجانب الآخر، وفي الحديث: ((المتبتِّل لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى))(11)[4].

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر أن تلحقَ الضّرر بنفسِك بإزهاق نفسِك والعياذ بالله، وقد حذّرنا الله من ذلك فقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]. فإلحاق الضّرر بنفسِك بأيّ [نوعٍ] من أنواع الضّرر أعظمُه القتل وما دون ذلك، كلّ هذا محرّم عليك فعلُه، بل الواجبُ الصّبر والرّضا بما قضى الله وقدّر.

ومِن أنواع الضّرر التستُّر على المجرمين والآثمين وأربابِ الفساد والساعين في الأرض فسادًا، فمن تستّر عليهم أو آواهم أو أقامَ العُذرَ لهم فإنّه ملحِقٌ الضّررَ بنفسه وأمّته؛ لأنّ المؤمنَ يسعى في الخير جاهدًا وفي كفِّ الشرّ والأذى ما استطاعَ لذلك سبيلاً.

أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلَنا ممّن يسعى في الخير جهدَه ويبتعد عن الضّرر جهدَه، إنّه على كلّ شيء قدير.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...

__________

(1) روي هذا المتن عن عدد من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345)، وحسنه النووي في الأربعين، ورواه مالك في الموطأ من هذا الوجه مرسلا (1461)، قال ابن عبد البر في التمهيد (20/158): "لا يسند من وجه صحيح". وعن عبادة بن الصامت عند ابن ماجه في الأحكام (2340)، وعبد الله في زوائد المسند (5/326)، والبيهقي (6/156، 10/133)، وهو منقطع. وعن ابن عباس عند أحمد (1/313)، وابن ماجه في الأحكام (2341)، وأبي يعلى (2520)، والطبراني في الكبير (11/302)، وسنده ضعيف. وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط (1033)، وسنده ضعيف أيضا. وعن جابر عند الطبراني في الأوسط (5193)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص304): "إسناده متقارب، وهو غريب، ورواه أبو داود في المراسيل مرسلا، وهو أصح". وعن أبي هريرة عند الدارقطني، قال ابن رجب: "إسناده فيه شك". وعن عمرو بن عوف المزني، قال ابن عبد البر (20/157): "إسناده غير صحيح". وعن ثعلبة بن أبي مالك عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2200)، والطبراني في الكبير (2/86). فلا تخلو طرق هذا الحديث من مقال، لكن كما قال النووي: "إن بعض طرقه تقوي بعضا"، قال ابن رجب: "وهو كما قال... وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث... وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم". وانظر: إرواء الغليل (896).

(2) أخرجه أحمد (3/453)، وأبو داود في الأقضية (3635)، والترمذي في البر (1940)، وابن ماجه في الأحكام (2342) من حديث أبي صرمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3091). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345).

(3) أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث))، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".

(4) أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(5) ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة أخرجه ابن ماجه في الوصايا (2709) وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك، قال البزار كما في نصب الراية (4/400): "لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوي". ومنهم أبو الدرداء أخرجه أحمد (6/440)، والطبراني في مسند الشاميين (1484)، وأبو نعيم (6/104)، قال البزار كما في نصب الراية: "قد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء، ولا نعلم له عن أبي الدرداء غير هذه الطريق، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان، وقد احتمل حديثهما"، وقال الهيثمي في المجمع (4/212): "رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط". ومنهم معاذ بن جبل أخرجه الدارقطني (4/150)، والطبراني في الكبير (20/54)، قال الحافظ في التلخيص (3/91): "فيه إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: "فيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/226) عن معاذ موقوفا. ومنهم خالد بن عبيد السلمي أخرجه الطبراني (4/198)، قال الحافظ في التلخيص: "خالد مختلف في صحبته، رواه عنه ابه الحارث وهو مجهول". ومنهم أبو بكر الصديق أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/275)، وابن عدي في الكامل (2/386) وفيه حفص بن عمر العدني قال ابن عدي: "أحاديثه كلها منكرة المتن والسند". والحاصل أن طرق الحديث كلها ضعيفة، لكن قد يقوّي بعضها بعضا كما قال الحافظ في بلوغ المرام، وقد حسّن الحديث الألباني في الإرواء (1641).

(6) أخرجه أحمد (2/278)، وأبو داود في الوصايا (2867)، والترمذي في الوصايا (2117)، وابن ماجه في الوصايا (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال المنذري كما في تحفة الأحوذي (6/255): "شهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (614).

(7) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/88)، وابن منصور في سننه (258، 259، 260)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/227، 228)، والنسائي في الكبرى (6/320)، وابن جرير في تفسيره (4/288، 289)، والبيهقي في الكبرى (6/271)، وروي مرفوعا وصحح وقفه غير واحد من الحفاظ، قال ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/486): "وهو صحيح عن ابن عباس من قوله"، وصححه الحافظ في الفتح (5/359).

(8) أخرجه البخاري في النكاح (5112)، ومسلم في النكاح (1415) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(9) هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).

(10) أخرجه البخاري في الصوم (1974، 1975، 1977)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.

(11) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1179)، والبزار كما في مجمع الزوائد (1/62)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص95)، والقضاعي في مسند الشهاب (1147، 1148)، والبيهقي في الكبرى (3/18) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((المنبتّ))، قال الهيثمي: "فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب"، وفي سنده اختلاف بينه البيهقي، وقال المناوي في الفيض (2/544): "روي موصولا ومرسلا ومرفوعا وموقوفا، واضطرب في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمرو، ورجح البخاري في التاريخ إرساله"، وانظر: السلسلة الضعيفة (1/21)، وضعيف الجامع (2020).

(1/2819)

مِن معاني الأخلاق الشّريفة

  • الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه.
    أمّا بعد:

     في خِضَمِّ هذه العصورِ المتأخِّرة برزَت وبصورةٍ جليّة آلياتٌ مستجدَّة وإحداثيّاتٌ خدَمت معظمَ بقاع الأرض في تغطيةِ حاجياتها وتحسينيّاتها، حتى أصبحت طوفانًا مادّيًا جارفًا منحدِرًا من فوَّهَة بركانٍ فجَّرته الحضارة الماديّة الجافّة، والتي اجتالت على حسابها كثيرًا من المعايير الفاضلةِ، كما أنَّ حمأة التّنافس على اكتساب مستجدّات هذه الحياة لا ينبغي أن تكونَ حاجزًا مانعًا عن بقاء المبادئ الإنسانيّة الشريفة، والتي رعاها الإسلامُ حقَّ رعايتها، بل وطالب بها ودعا إليها في كلّ حينٍ وآن، مهما اتَّسع الناس في مادّيتهم أو ضاقوا.
    ما أشدَّه مضَضًا ما تعانيه الأمّة المسلمة اليوم، إنّ كثيرًا من موروثاتها الروحيّة ليَذهبُ فُرُطًا، وإنّ الغفلة قد بلغت من النّاس مبلغَ من يظنّ أنه مسرمَد في هذه الحياة، وكأنّ رحى الأيّام لن تدورَ عليه يومًا ما، مما أبرز الصدرَ الوحر واللسانَ المذِق، والذي على إثرِه تندرس جملةٌ مِن معاني الأخلاق الشّريفة كما يُدرَس وشْي الثوب، حتى لا يُدرى ما زهدٌ ولا رحمة ولا صِلة ولا تواضع ولا لين، بل لقد أصبحَت مفاهيم بعضِ السّذَّج من الناس تجاه التّعامل مع الآخرين ومعاشرتهم: إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك.
    ثُمّةَ زَعموا أنّ الفلسفةَ الأخلاقيّة العظمى عندهم هي في انطلاق النظرةِ للآخَرين من زاوية: كم تملك؟ وما مركزُك؟ ويرونَ أنّ في ذلك غنية وضمانًا للسّلام والرخاء، وعِوضًا عن التربيّة والتّهذيب الروحيّ، وأنّ ما عداها فهي سجايَا وخِصال أكلت عليها السِّنون وشرِبت، هكذا يزعُم جفاة الأخلاقِ الحميدة الذين أثَّرت فيهم المعاني النفسيّة التي تعلو بعَرَض مِن الدنيا وتهبِط بعرَض، وأنَّ أيَّ خللٍ في الحياة الاعتياديّة فإنّ المال يرمِّمها، والحسبَ والجاه يرأب الصدعَ فيها.
    أما إنّه لو أدرك المسلِم أنَّ أوّل حقٍّ عليه للمسلمين هو أن يحملَ في نفسه معنى النّاس لا معنى ذاتِه لَعِلم أنّ من فاق الناس بنفسه الكبيرة دونَ تميّز كانت عظمته حقيقةً في أن يفوقَ نفسَه الكبيرة، متخطِّيًا ما فيها من طمع وجشعٍ وكبرياء، وبمثل هذا يصبِح الناس أحرارًا متى حكمتهم معاني الدَّعةِ والتّواضع والتوادِّ والتعاطف تحت ظلِّ الإسلام الوارف.
    وأمّا المركز والمال والجاه فإنما هي عوارضُ سرعانَ ما تزول بعد ما كانت رسمًا ظاهرًا لا يمسُّ بواطن القلوب, فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرْضِ [الرعد:17].
    كتب وهبُ بن منبّه إلى مكحول: "أما بعد: فإنّك قد أصبتَ بظاهرك عندَ الناس شرفًا ومنزلة، فاطلب بباطن عملِك عند الله منزلةً وزُلفى، واعلم أنّ إحدى المنزلتين تنازع الأخرى"(1)[1].
    بمثلِ هذا كلِّه ـ عباد الله ـ يتَّصل ما بين العظيم والسّوقة، وما بين الغنيّ والفقير، اتّصالَ التواضع في كلّ شيء، بعيدًا عن معاني الدّينار والدّرهم وحِماهما، حتى يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.
    أيّها المسلمون، التواضعُ بين المسلمين خصلةٌ مرجوَّة، هي أسٌّ في خلقِ المجتمعات، ومِِقبض رحى حُسنِ الاتّصال بينهم، لها موادٌّ من الحكمة وأضدادٌ من خلافِها، بتمامِها وصفائها يميز الله الخبيثَ من الطيّب، والأبيض من الأسود المربادِّ المجخِّي كما الكوز.
    إنّه لا بدّ أن يكونَ للتواضع بين ظهرانينا محلٌّ طريّ لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌّ يُهَشُّ أمامه ويُبَشّ، محلّ يوحِي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرَّقت نواحيهم، وإلا كان تواضعًا مفقودًا في تيهِ العقل المادّي الذي اكتسى فاقدُه ثيابَ كبر مدمّرةً، لا يهشُّ له الناظر، بل تغضُّ منه العيون، وتنبو عنه الأفئدة الحيّة، وينفضّ الناس من حوله، وحينئذ يكشِف مضمارُ المجتمع عن الستار المسدَل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنَفَة وطوفان الإعوازِ إلى التواضع.
    إنّه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنعَ عن التواضع أو يجبنَ عن تحقيقه؛ إذ به تكتسَب السلامة، وتورَث الألفة، ويُرفَع الحِقد، ويشعر الجميع بحقوقِهم تجاهَ غيرهم، والعكس بالعكس.
    ألا فإنّ تواضعَ الشريفِ إنما هو زيادةٌ في شرفِه، كما أنّ تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلِّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم.
    فيا سبحانَ الله، كيف لا يتواضَع من خُلق من نطفة مذِرة، وآخرُه يعود جيفةً قذِرة، وهو بينهما يحمل العذِرةَ أجلَّكم الله؟!
    إنّه لو لم يكن في التّواضع خصلة تُحمد إلا أنّ المرءَ كلَّما كثُر تواضعه كلَّما ازدادَ بذلك رفعةً لكان الواجِب على كلّ واحد منّا أن لا يتزيَّى بغيره.
    ولا جَرَم عباد الله، فإنّ رسول الله يقول: ((ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة ـ يعني كاللجام ـ، والحَكَمة بيدِ مَلَك، إن تواضَع قيل للملك: ارفع الحَكَمَة، وإن أراد أن يرفعَ قيل للملك: ضعِ الحَكَمة)) رواه الطبرانيّ والبزّار بسند حسن(2)[2]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ما تواضَع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله))(3)[3].
    فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ إنما هو امرؤ استعبده الكبر القاتل والعجبُ الغالب، فهو عنيدٌ صلت، به يخبو قبسه ويكبو فرسه.
    فاقدُ التّواضع عقله محصود؛ لأنّه بعُجبه وأنَفَته يرفع الخسيس ويخفِض النّفيس، كالبحر الخضمّ تسهل فيه الجواهر والدرّ، ويطفو فوقَه الخشَاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفَّة ما يميل إلى الخِفّة.
    فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ عديم الإحساس بعيد المشاعر، شقيٌّ لا يتَّعظ بغيره، غير مستحضرٍ أنّ موطِئه قد وطِئه قبلَه آلاف الأقدام، وأنَّ مَن بعده في الانتظار.
    ألا وإنّه ما رُئي أحَدٌ ترك التّواضعَ وترفَّع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذّلّة لمن فوقه، ومن استطالَ على الإخوان فلا يثقَنَّ منهم بالصفاء.
    من تكبَّر فلم يتواضع فقد رمى بثِقله في ثلاث خصال مذمومة:
    أوّلها: أنه لا يتكبّر على أحد حتى يُعجَب بنفسه، ويرى لها الفضلَ على غيرها.
    وثانيها: ازدراؤه بالناس مِن حوله، لأنّ من لم يستحقر الناس لم يتكبّر عليهم، وكفى بالمستحْقِر لمن أكرمه الله بالإيمان طغيانًا، وأنَّى للمستكبر أن يستعبد الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
    وثالث الخصال: منازعة الله جلّ وعلا في صفاته، إذ الكبرياء والعظمَة له وحدَه لا شريك له، يقول سبحانه في الحديث القدسيّ: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدًا منهما ألقيتُه في جهنّم)) رواه مسلم(4)[4].
    ألا فليتَ شِعري، ما الذي يحمِل الكثيرين على أن يركنوا إلى العُجب والأنفة، وينأَوا بأنفسهم عن التّواضع وخفض الجناح؟! أفيكون السبب في ذلك فِطرةً يُفطر عليها المتكبِّر، فيدَّعي جِبِلِّيتها وصعوبةَ الخلاص منها؟! كلاّ والله، فالنّبي يقول: ((إنّ الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخَر أحد على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد)) رواه مسلم(5)[5].
    أم أنّ ذلك نقيصةٌ يجدها المرء في نفسه، ثُمَّةَ يسدُّ ثُلمتَها بعُجْبٍ وفخر يحتال بهما على نفسِه، ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقةَ الشّرف والرفعة، وأنها في التّواضع لا في الفرار منه، بحجّة سدِّ النقيصة أو قضاء الوطَر، يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (وجدنا الكرمَ في التقوى، والغنى في اليقين، والشّرفَ في التواضع)(6)[6].
    ثمّ إن لم يكن الأمرُ لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمِل المرءَ على ذلك؟‍! هل هو الحسد والتشفّي وحبّ الذات، أم هو سورةٌ كسَورة الخمرةِ تأخذ شاربها كلَّ مأخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاوَد حتى يصير مدمِنًا، فيستوي عنده حال الخُمار والإفاقة؟!
    وأيًّا كان ذلك فإنّ النأيَ عن التواضع سِمة مرذولة وخَصلة مستهجنةٌ ووسمٌ تعلق به نار الحدّادين؛ لأنّ عين المعجَب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل، حتى يكون أسرعَ ما يتسرَّب الإيمان من امرئٍ هذه حاله كما يتسرَّب السائل من الإناء المثلوم.
    ويا لله العجَب، كيفَ لا ينظر أمثالُ هؤلاء إلى سِيَر الأسلاف مِن قبلهم؟! وعلى رأسِهم إمامنا وقدوتُنا سيّد ولد آدم ذو النسب الرفيع والجاهِ الوسيع، فها هو قد نام على الحصير، وابتسَم في وجهِ مَن أوجعه، ووقَف إلى جانب امرأةٍ في الطريق تشكو إليه، وشرِب مع أصحابه في إناء واحد وكان آخرَهم شُربًا، كما أكل مع أهل الصفّة، ثم دخل مكّة في الفتح متواضعًا، ومشى في الأسواق والناس من حوله، يأكل مما يأكلون منه، ويشرَب مما يشربون، بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.
    وهذا خليفتُه الصدّيق رضي الله تعالى عنه كان يحلِب لأهل الحيِّ أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلِب لنا منائحَ(7)[7] دارنا، فسمِعها فقال: (بلى، لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلتُ فيه)(8)[8].
    ثُّمَّةَ الفاروق، وما أدراكم ما الفاروق، خطبَ بعد خلافتِه فقال: (اعلَموا أنّ تلك الشدّة قد أُضعِفت، ولكنّها إنما تكون على أهل الظلم والتعدِّي على المسلمين، فأمّا أهلُ السلامة والدين والقَصد فأنا ألين لهم من بعضِهم لبعض، وإنّني بعد شدَّتي تلك أضع خدِّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)(9)[9]، فلا إله إلا الله، أحقيقةٌ ما نسمع أم هو نسج من الخيال؟! أهو فُتون يتردَّد أم هي حقيقة اكتنفتها قلوبُ من يعرفون ما الدّنيا وما الله؟!
    عند الترمذي والحاكم أنّ جبير بنَ مطعم قال: تقولون: فيَّ التِّيه(10)[10]، وقد ركبتُ الحمار، ولبستُ الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله : ((من فعَل هذا فليس فيه مِن الكبر شيء))(11)[11].
    ألا فليتنبَّه لذلك المغرورون المعجَبون بأنفسِهم وجاهِهم في حينِ إنهم بادو الكبرياء كالحو الوجوه، ومَن هذه حاله فلا يغترَّ بكونِه يملك ألفًا، فإنّ عليه من الحقوق والتّبعات ما قد يزيد على الألفين.
    ألا وإنّ حُسنَ الصورة وجمالَ المظهر لا يقدِّم في ذلك ولا يؤخِّر، فإنّ جمال الوجه في قبحِ نفسٍ كقنديلٍ على قبر مجوسي.
    وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوههم إذا كانت أخلاقهم غيرَ حِسان
    ومن قايَس بين الجمال والفعال تبيَّن له أنّ الملاحة بالقباحة لا تفي بالمقصود، فلِلَّه ماذا يعني لباسُ المظهر إذا كان المخبر عاريًا باديةً للناس سوأته؟! يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
    إنَّ مَن سُرَّ بأنَفَته فليعلمْ أنّ الجمل أشدُّ كبرًا منه، بل وأشدُّ منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشيَ المرِح المختال، يتصفَّح ذنَبَه وجناحيه فيقهقِه ضاحكًا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحِه، فأيُّ فخر وأيّ سرورٍ فيما تكون فيه صورة البهائم متقدِّمة عليه؟!
    فينبغي للعاقل إذا رأى مَن هو أكبر منه سنًّا تواضعَ له وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضَع له وقال: سبقتُه بالذّنوب، وإذا رأى من هو مثله عدَّه أخًا قريبًا، فلا يحقِرنَّ أحدًا من المسلمين، فكم من عودٍ منبوذ ربما انتُفِع به فحكَّ الرجل به أذنَه، وقد قال ابن عيينة: "لو قيل: أخرِجوا خيار هذه القرية لأخرجوا من لا نعرف".
    مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].



     فيا أيّها الناس، لا زلنا نؤكِّد بأنّ التّواضع شأنُه عظيم وأمره جسيم، قد تكلَّم فيه أهل العلم والحكمة، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجِلِهم، مبيِّنين ما له وما عليه بالأدلّة الشرعية، فجعلوا منه التواضعَ المحمود والتواضعَ المذموم.
    فكان من التّواضع المحمود أن يتركَ المرء التطاولَ على عباد الله والترفّع عليهم والإزراءَ بهم، حتى مع وقوع الخطأ عليه، فقد قال النبي : ((ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا)) رواه مسلم(12)[1].
    ومِن ذلك أيضًا التواضعُ للدّين والاستسلام لشرعِ الله بحيث لا تعارضه ـ أيها المرء المسلم ـ بمعقولٍ ولا رأي ولا هوًى، ولا تتَّهم للدّين دليلاً صحيحًا، وأن تنقادَ لما جاء به خاتم الرسل ، وأن تعبُدَ الله وفقَ ما أمرَك به، وأن لا يكونَ الباعث على ذلك داعي العادة، وأن لا ترى لنفسِك على الله حقًّا لأجل عملٍ عملتَه، وإنما تعلم أنّك ترجو رحمته وتخشى عذابَه، وأنّك لن تدخلَ الجنّة بعملك، وإنما برحمتِه لك.
    كما أنّ من التواضع المحمود أيضًا أن تتركَ الشهوات المباحة والملذّات الكماليّة احتسابًا لله وتواضعًا بعد التمكُّن منها والاقتدار عليها، دونَ أن توصَف ببخل أو طمعٍ أو شحّ، فقد قال النبي : ((من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدِر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ حُلل الإيمان شاء يلبسها)) رواه أحمد والترمذي(13)[2].
    وممّا يزيد الأمرَ وضوحًا أنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه، وأنّ المتواضعَ حقيقةً هو المقتدِر على الشيء لا العاجزُ عن تحصيله، فلقد قال رسول الله : ((يا عائشة، لو شئتُ لسارتْ معي جبال الذهب، جاءَني ملك فقال: إنّ ربَّك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئتَ نبيًّا عبدًا، وإن شئت نبيًّا ملِكًا، فنظرتُ إلى جبريل عليه السلام فأشار إليَّ أن ضعْ نفسَك، فقلتُ: نبيًّا عبدًا)) رواه أبو يعلى والطبرانيّ بسند حسن(14)[3].
    أمّا التواضع المذموم ـ يا رَعاكم الله ـ فهو التّواضع أمامَ نُصرة دينِ الله سبحانه، والذي يسبِّب التخاذلَ وهجرَ النّصيحة وهجر الأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكر والخنوعَ أمام الباطل والبعدَ عن نصرة الظالم والمظلوم، حتى يكون مَن هذه حاله كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
    كما أنَّ مِن التّواضع المذموم تواضعَ المرء لصاحب الدنيا والجاه والنسب رغبةً في شيء مما عنده حتى يُصبح عالةً أمام المغريات فيفتَن بها.
    وعلى رأسِ الفِتن النّاقضة للتّواضع المحمود اتّباع الهوى والانحرافُ عن المنهج القويم والغلوّ في الدين أو الغلوّ في التفلّت من الدّين، وكذا الإحداثُ في الدّين والاعتداء على الحرمات أو الاستهانة بها كحرمةِ الدّين والمال والنّفس والعرض والعقل، والبعدُ عن طاعة الله ورسوله وأولي الأمر من المسلمين فيما هو طاعة لله وعدمُ ردِّ الأمور إلى الله والرسول عند التنازع كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، إضافةً إلى الاستهانةِ بعلماءِ المسلمين الربّانيّين وعدمِ الرّجوع إليهم، وذلك من خلال الاستقلال بالرأي دونهم أو الإحساس بالكمَال الزائف الدّاعي إلى الاستغناء عنهم وعمّا يحملونه من نور وهدايةٍ وإخلاص ووسطيّة، يقودون من خلالها سفينةَ المجتمع إلى مرفأ الأمان والفَلاح المبين.
    وحاصلُ الأمر ـ عبادَ الله ـ أنّ التّواضع مِن أعظمِ ما يتخلَّق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأسُّها، بل ما مِن خُلُق في الإسلام إلا وللتّواضع منه نصيب، فبِهِ يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعمُّ الإيثار، وتزول القسوَة والأنانيّة والتشفّي وحبّ الذات، وهلمّ جرًّا.
    اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسَد، اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسد، ونعوذ بك اللهمّ أن نجرّ بهما على مسلمٍ سوءًا يا ذا الجلال والإكرام.
    هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيها المسلمون ـ فقال عزّ من قائل عليم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
    اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

    __________
    (1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/54، 5/178) بنحوه.
    (2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/218) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (3/352)، والهيثمي في المجمع (8/82)، والسيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض (5/467)، وله شواهد ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (538).
    (3) أخرجه مسلم في البر (2588).
    (4) أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
    (5) أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
    (6) انظر: إحياء علوم الدين (3/343).
    (7) جمع منيحة وهي الناقة أو الشاة المعارة للمنفعة.
    (8) أخرجه الطبري في تاريخه (2/354).
    (9) أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
    (10) 10] أي: يتهمونه بالكبر.
    (11) 11] أخرجه الترمذي في البر (2001)، والبيهقي في الشعب (8195)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم (7373)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1627).
    (12) أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    (13) أخرجه أحمد (3/438، 439)، والترمذي في صفة القيامة (2481)، وأبو يعلى (1484، 1499)، والطبراني في الكبير (20/180، 188)، والبيهقي في الشعب (5/150، 151) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (206، 7372)، وهو في السلسلة الصحيحة (718).
    (14) أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/381)، وأبو يعلى في المسند (4920) من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن طريقه الذهبي في السير (2/195) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وعزاه الهيثمي في المجمع (9/19) لأبي يعلى وحسّن إسناده، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2045).
    (1/2818)

الإصلاح بين المسلمين خُلُق كريم


الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد:

عبادَ الله، إنَّ مِن خُلُق المسلم حبَّ الخير لإخوانِه المسلمين؛ لذا تراه يسعى في الإصلاحِ بينهم والتوفيق فيما بينهم وتضييقِ هُوّةِ النزاع والاختلاف، يُمليه عليه إيمانُه الحقيقيّ الذي يدعوه لأن يحبَّ لإخوانِه المؤمنين ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.

أيّها المسلم، فالإصلاح بين المسلمين خُلُق كريم، يسعى فيه ذوو التُّقى والمروءة الذين يحبُّون الخيرَ، ويصبرون على فعلِ الخير، ويتقرَّبون بذلك لربّهم.

أيّها المسلم، لقد أمرنا الله جميعًا بأن نصلِحَ بين إخواننا: فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، فأمرنا ربُّنا أن نصلحَ ذاتَ بينِنا، وأن نوفِّقَ بين إخواننا، وأن نسعى في رَأب الصّدع ما وجدنا لذلك سبيلاً.

أيّها المسلم، لا يخلو المجتمع المسلمُ من اختلافٍ في وجهة النظر، سواء كان هذا الاختلافُ بين الأفراد كنزاعٍ بين رجل وأبيه، وبينه وبين أخيه، وبينه وبين جاره، وبينه وبين زوجته، وبينه وبين شريكه، وبينَه وبين أيِّ فردٍ من أفراد الأمّة المسلمة، أو كان هذا الاختلافُ بين جماعةِ المسلمين عمومًا. إذًا فموقفُ المسلم من هذا الاختلافِ العامّ والخاصّ أنّه يسعى في الإصلاح والتّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، فيصلح بين الأفراد إن استطاع، وبين الجماعةِ إن قدر على ذلك، المهمّ أن يؤدِّيَ واجبَه، وأن يقومَ بهذه المسؤوليّة، امتثالاً لقوله تعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.

أيّها المسلم، هذا الخُلُق الكريم يسعى فيه ذوو التّقى والمروءة والأخلاق الكريمة الذين يبتغون بسعيِهم مرضاةَ الله، فهم يخلِصون لله في هذا العمل؛ لذا قال الله: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

أخي المسلم، تأمَّل معي هذه الآيةَ تأمُّلاً صحيحًا، فقد أخبر الله أنَّ نجوى العباد فيما بينهم ليس كلُّ نجوى خيرًا، فلا خيرَ في كثير من النّجوى إلا نجوى من يأمر في نجواه بالصدقة أو يأمر بالمعروف أو يسعى في الإصلاح بين المتنازعَين، فالتّناجي إذا كان حقيقتُه أمرًا بصدقة، أمرًا بمعروف، سعيًا في الإصلاح بين الناس، فذلك النّجوى النافعة والنّجوى المباركة، وإلاّ فالتّناجي على الإثم والعدوان عملٌ مذموم، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9]. إذًا فالتّناجي بين الاثنين أو أكثر إذا كان هدفُ هذا التناجي أن يأمرَ بالصدقة والإحسان لعباد الله ويأمرَ بمعروفٍ وينهى عن منكر أو إصلاحٍ بين الناس فذاك النّجوى المباركة، ثم قال جلّ وعلا: وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، مَن يفعل هذه الأعمالَ يبتغي بها وجهَ الله لا يريد بها جاهًا في الدنيا ومكانًا في المجتمع، وأن يُنظَرَ إليه بأنّه رجل الإصلاح والتوفيق، لا يريد ثناءَ النّاس، إنّما يبتغي بعمله وجهَ الله جلّ جلاله، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.

أيّها المسلم، إصلاحُك بين المتنازعَين صدقةٌ مِنك على نفسك، يقول : ((يُصبح على كلِّ سُلامى من الناس صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشمس، تعدِل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجلَ في دابّته فتحمِله عليها أو ترفع له عليها متاعَه صدقةٌ، وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة))(1)[1]. إذًا فإصلاحُك بين النّاس صدقةٌ منك على نفسك، فاحرِص عليها وفَّقك الله للخير.

أيّها المسلم، كما سبق فالنّزاع يقع بين الأفرادِ وبين الجماعة، والنّزاع بين الجماعة يسعى ذوو التّقى في الإصلاح بينهم، ولذا قال الله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]، فأمر اللهُ بالإصلاح بين جماعة المسلمين، وأرشدنا إلى أن يكونَ صلحُنا صلحَ عدلٍ لا ظلمَ ولا جور، فلا يقصِد المصلحُ بصلحه نفعَ فئة والإضرارَ بالأخرى، وإنّما يعدل في إصلاحه، فيوفِّق بينَ وجهات النّظر، ويحاول التقريبَ والتَّسديد ما وجد لذلك سبيلا، ولأجل هذا جازَ أن يُعطى من تحمَّل في ذمّته دُيونًا لأجل الإصلاح، أن يُعطى جُزءًا من الزّكاة، ففي تفسير قول الله جلّ وعلا في المستحقِّين لها ـ أي: الزكاة ـ: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، قال العلماء: "الغارمون على قسمين: غارمٌ لمصلحة نفسه، وهو من تحمَّل ديونًا لمصلحةِ نفسه، فعجز عن تسديدها، فيُباح أن يُعطى من الزكاة، ثانيًا: غارمٌ تحمَّل لمصلحة الآخرين، للإصلاح بين الآخرين، فيُعطَى مِن الزّكاة قدرَ ما تحمّل ولو كان غنيًّا؛ لأنّ تلك مصلحةٌ عامّة للمسلمين، أن يصلحَ بين القبائل والفئات المتعدِّدة، فإذا تحمَّل حَمَالة في ذمّته جاز أن يأخذَ من الزكاة مقدارَ ما دفع لأجلِ الإصلاح والتّوفيق.

أيّها المسلم، وقد أمرنا ربّنا أن نُصلحَ بين الزّوجين إذا تنازعا: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]. إذًا فالإصلاحُ بين الزوجين يقوم به الأهلون أهلُ المرأة وأهلُ الرّجل، يسعَون في الإصلاح بين الزوجين، وينظرون في أسباب الخلاف والنّزاع، فيسعَون في الإصلاح بينهما ما أمكن ذلك، فهو خيرٌ من وقوفِ كلٍّ مع صاحبه، وتعصّبه لرأيِه، هذا غيرُ مطلوب، المطلوب الإصلاحُ بين الزوجين والتوفيق بينهما ومحاولةُ إزالةِ أسباب النزاع ووعظهما، وتذكيرهما حتى يرجعا إلى الحقّ ويعودا إلى الصواب.

أيّها المسلم، نزاعٌ يقع أحيانًا بين الرَّحم، إذا استمرَّ ذلك النزاع أدّى إلى قطيعةِ الأرحام وبُعد بعضهم عن بعض، والشيطان حريصٌ على هذا الأمر العظيم؛ لأنّ قطيعةَ الرحم أمرٌ يسخطه الله، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].

إذًا فالمسلمُ يسعى بين أفرادِ الرّحم عندها يبدو ظاهرةُ النّزاع والشّقاق، فيصلح بين الرّحم، ويوفِّق بينهم، ويذكِّرهم صلةَ الرّحم وما لها عند الله من الثواب، ويأمر الجميعَ بالصّبر والتّحمُّل وعدم اللّجوج في النّزاع ولا سيّما في الأمور المادّية التافهة، فيحذِّرهم من قطيعة الرّحم، ويسعى بالتوفيق، ويقرِّب بينهم ما استطاع لذلك سبيلاً.

أخي المسلم، فقد يكون بين الإخوة أشقّاء أو نحوه نزاع، وقد يكون بين الأب وأبنائه إلى غير ذلك، فذو التّقى يصلح ويوفِّق ويرشِدُ إلى صِلة الرحم، ويحذِّر من القطيعة ونتائجها السيّئة في الدنيا والآخرة.

أيّها المسلم، والأخوان المسلمان قد يختصمان ولو كانا بعيدَي الرحم، لكن أخوّة الإسلام تجمعهما، فالمسلم يسعى في الإصلاح ما استطاع لذلك، فإنّ هذا خلُقٌ حميد، ونبيّنا كان يصلِح بين الجماعات وبين الأفراد، ويحثُّ كلاًّ على الخير والصبر والتحمُّل.

أيّها المسلم، إنَّ سعيك في الإصلاح بين المتخاصمَين ولا سيّما الرحم خُلُق كريم وصدقةٌ وعملٌ صالح، في حديث أبي الدّرداء يقول : ((ألا أنبِّئكم بما هو أفضل من درجة الصوم والصّدقة والصّلاة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البين، فإنّ فسادَ ذاتِ البَين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين))(2)[2]. إذًا فالساعون في الإصلاح هم في صدقةٍ وعمَل صلاح في أقوالهم وأعمالهم إن علِم الله منهم حسنَ النية وإخلاصَ العمل لله.

أيّها المسلم، ولمّا كان الإصلاح عملاً صالحًا يحبّه الله أباح لنا نبيّنا أن نتوسَّل بالكذب لأجل الإصلاحِ بين الناس، فيقول فيما صحَّ عنه: ((ليس الكذّابُ الذي يُصلح بين الناس فينمِي خيرًا أو يقول خيرا))(3)[3]، فليس هذا بكذّاب إذا كذب كِذبةً يريد بها الإصلاحَ بين المتنازعَين ولا سيما الرّحم، ويذكر لهذا حبَّ هذا له وموالاته له، وكراهيته لذلك النّزاع، ويُلقي على الآخر كذلك، فتلك كِذبة في مصلحةٍ ولأجل عملٍ طيّب، فأبيح الكذبُ في ذلك، وفي لفظٍ تقول الصحابيّة: لم أسمع النبيَّ يرخِّص في شيء ممّا يقوله النّاس إلا في ثلاثةٍ: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديثِ الرجل امرأتَه والمرأة زوجَها(4)[4]. إذًا ـ أخي ـ فلو كذبتَ لمصلحةٍ تريد بها لمَّ الشّعث، تريد بها تقريبَ وجهة النظر، تريد بها استئصالَ دَاء النّزاع، فإنّه مباحٌ لك الكذِب في ذلك لأجلِ الوصول إلى الغاية وهي إصلاح ذات البَين والتوفيق بين المتخاصمين.

أخي المسلم، إنّ شريعةَ الإسلام جاءت بالحثِّ على الإصلاح ولا سيّما في جانب القضاء، فالقضاءُ بين ذوي الرّحم يَسلك فيه القاضي الموفَّق الطريقةَ السليمة، فيجعل الرحمَ متواصلين ولا يجعلهم متقاطعين، يجعلهم متحابِّين ولا يجعلهم متباغضين، يسعى في رأبِ الصّدع، يسعى في جمع الكلِمة، يسعى في وحدةِ الصفّ، يسعى في التّوفيق ما وجد لذلك سبيلاً، ولذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ يقول له: (أرجِئوا فصلَ النزاع بين المتخاصمَين؛ فإنّ فصلَ القضاء يوجب الضغائنَ بينهما)(5)[5]، فإذا حكمتَ لقريبٍ على قريبه، وأدَنتَ هذا ورجّحتَ جانبَ هذا، اتَّخذ موقفًا قاسيًا من أخيه، واستمرّت العداوة والبغضاءُ والقطيعة، لكن إذا أرجأتَ الفصلَ بينهما وحاولتَ مرّةً بعد مرّة عسى أن يسأمَا النّزاع، ويعودا إلى الرّشد والمحبّة، فذاك المقصدُ الأسمى من هذه المهمّة.

أيّها المسلم، فلا تعجَز عن الإصلاح، ولا تقُل: النّاس وشأنهم، وكلٌّ يُصلح نفسَه، وكلٌّ يدافع عن حقّه. لا، بل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهم إزرَ بعض، ويواسي بعضهم بعضًا، ويتألّم بعضهم لألم البعض.

أسأل الله أن يصلحَ القلوبَ والأعمال، وأن يجعلنا وإيّاكم ممَّن وُفِّق للخير وهُدي سبيلَ الرشاد.




فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عباد الله، في يومِ القيامة تكونُ الخصومةُ بين الغرماء بين يدَي ربِّ العالمين، في الحديث: ((مَن كان لهُ عند أخيه مظلمة فليتحلَّل منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، إن يكن له حسنات أخِذ من حسناتِه، وإن لم يكن له حسناتٌ أخِذ من سيّئات مَن ظلمه، فطُرحت عليه ثمّ طرِح في النّار))(6)[1].

ومِن كمال كَرم ربِّنا وفضلِه وإحسانه أنّه تعالى يصلِح بين المتخاصمَين في ذلك اليوم العظيم، فيرضي المظلومَ حتّى يعفوَ عن ظالمه كرَمًا منه وجودًا.

بينما النبيّ جالسٌ بين أصحابه إذ ضحِك، فسأله عمر عن ذلك، فقال: ((في يومِ القيامةِ يجثو اثنان بين يدَي الله: ظالمٌ ومظلوم، فيقول المظلوم: يا ربِّ، خُذ مظلمَتي من هذا الظالِم، فيقول الظّالم: يا ربِّ، وأين هو وقد ذهبت الدنيا بأسرها؟! ـ أين أعطيه؟ ليس عندي ما أرضيه اليوم، الدّنيا انقضت ونحن في ذلك الموقف العظيم ـ، فيُصرُّ المظلوم على طلبه، فيقول الله له: ارفع رأسَك، فيرفع رأسَه، فإذا قصرٌ من ذهَب موشَّح باللؤلؤ، فيقول: يا ربّ، لمن هذا القصر؟ قال: تملِك ثمنَه، قال: وما ثمنُه؟ قال: تعفو عن ظالمِك، قال: يا ربّ، قد عفوتُ عنه، قال: خُذ بيده فادخُلا الجنّة))(7)[2]، فضلاً من ربّنا وكرمًا.

إذًا فيا أخي، اسعَ في الإصلاح، ويا أيّها المسلم، لِن في يدِ إخوانِك، وتداركِ الأمور، ولا تستقصِِ كلَّ الأشياء، ففي الإصلاحِ خير، وكَفٌّ للنزاع، وحَسمٌ لاستمرار القطيعة بين المسلمين، هكذا فليكن المسلمون.

أسأل الله للجميع التوفيق والسدادَ لكلِّ ما يحبّه الله ويرضاه.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين...

__________

(1) أخرجه البخاري في الجهاد (2891، 2989)، ومسلم في الزكاة (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((وأمرٌ بمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة))، وهذا الجزء أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(2) أخرجه أحمد (6/444)، وأبو داود في الأدب، باب: في إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (5092)، والبزار كما في نصب الراية (4/354)، وابن حجر كما في فيض القدير (3/106)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني على شرط الشيخين، انظر: غاية المرام (414).

(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2692)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.

(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605) عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.

(5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).

(6) أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(7) أخرجه الحاكم (8718) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "عباد ضعيف، وشيخه لا يعرف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (1469).

(1/2817)

WonderFox.DVD.Ripper.Pro.v7.2


 الوصف:

° WonderFox DVD  يوفر الحل الأمثل لتحويل دي في دي 

° الفيديو والصوت السائدة صيغ مثل DVD إلى AVI، DVD ل

MP4 °

 DVD إلى MKV، DVD إلى MPG للسريعة النسخ الاحتياطي دي في دي لباد، DVD إلى iPhone

° 5S، دي في دي لالروبوت، وغيرها، وأشكال وسائل الإعلام الجديدة وحفظ المضافة و

° المدعومة.


° والدعم من جميع أقراص الفيديو الرقمية DVD العادية بما في ذلك الفيلم، برنامج تلفزيوني،


° يضيف المسبقة الأمثل لجميع الأجهزة المحمولة البوب ​​مثل دي في دي ل

° فون 5S، دي في دي لباد ، DVD لسامسونج غالاكسي S5، سوني، نوكيا،

° بلاك بيري، HTC، اكس بوكس، جهاز الروبوت، الخ

التركيب:

فقط فك وتركيب. فك crack.rar إلى INSTALLDIR.

 

 

 

 Release Description:


°  WonderFox DVD Ripper provides the best solution to convert DVD to a wide
°  range of mainstream video and audio formats such as DVD to AVI, DVD to
°  MP4, DVD to MKV, DVD to MPG for quick back up DVD to iPad, DVD to iPhone
°  5S, DVD to Android, etc. And new media formats are keeping added and
°  supported.
°
°  In supports of all regular DVDs including DVD Movie, TV Show,
°  Tutorial(P90X/T25/.), etc. With the powerful dvd decryption technology,
°  it can remove/bypass DVD CSS, Region Code, Multi-angle, RCE, Sony
°  ARccOS, UOP and even Disney X-Project and even Cinavia.
°
°  It takes about 20 minutes to rip a 120 minutes' DVD to AVI video with
°  0-Quality-Loss and much less time to MPG(only 5~10 minutes). Moreover,
°  it adds optimized presets for all pop portable devices such as DVD to
°  iPhone 5S, DVD to iPad Air, DVD to Samsung Galaxy S5, Sony, Nokia,
°  BlackBerry, HTC, Xbox, Android device, etc.


  Installation:

  Just unpack & install. Unpack crack.rar to installdir.

 

 

لتحميل البرنامج

http://www.gulfup.com/?PRmXZB

 

 

WonderFox.DVD.Video.Converter.v7.7


 الوصف:

° تريد أن تتمتع بفيلم ليلة كاملة مع عائلتك بدلا من الانتظار

° لفترة طويلة ؟ WonderFox DVD تحويل الفيديو

° أفضل خيار. فإنه الحل الإمثل في مزق دي في دي  وتحويل الفيديو، وتحميل الفيديو على الانترنت،

تحرير ° الأفلام / الفيديو مع الأداء الممتاز.



 

لتحميل البرنامج

http://www.gulfup.com/?PRmXZB