الجمعة، 6 مارس 2015

أيّها المسلم فكن مجتنبًا للضَّر



الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أمّا بعد: أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.

عبادَ الله، أخوَّةُ الإيمان تقتضِي مِن المؤمنِ أن يحبَّ لأخيه الخيرَ ويكره له الشرّ، يحبّ له ما يحبّ لنفسه، يكره له ما يكره لنفسه. إذًا فما يسعى في إلحاق الضّرر به، لا في بدنِه ولا في عِرضه ولا في مالِه ولا في ولدِه، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عن إلحاق الضّرَر بجميع صوَره وأشكاله، فإنّ إلحاقَ الضّرَر بالمسلم نوع من الأذى والله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]، ونبيّنا يقول: ((لا ضرَرَ ولا ضِرار))(1)[1]، وفي حديث آخر يقول : ((من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه))(2)[2]. إذًا فالجزاء من جِنس العمل، فمَن سعى في الخير فرّج كربَ مكروب وهمَّ مهموم فرّج الله كرَبَه وهمّه، ومن يسَّر على مُعسِر يسّر الله عليه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، وعكس ذاك والعياذ بالله من مكَر بإخوانه المسلمين مُكِر به، ومن ضارّهم ألحق الله به الضّرر، ومن أساء إليهم سلّط الله عليه جزاءً وفاقًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].

أيّها المسلم، فكن مجتنبًا للضَّرر، سواء في نفسك بأن تُلحقَ بها ضررًا أو بزوجتك أو بأولادك أو بجيرانك أو بمَن تعامله أو بمَن لك عليه سُلطة تنفيذيّة، فكن بعيدًا عن الضّرر بكلّ معناه وصوَره لتكونَ من المؤمنين حقًّا.

والله جل وعلا قد بيّن لنا أنوعًا من الضّرر نهانا عن الوقوع فيها، فمِن ذلكم الإضرار في الوصيّة قال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12].

الإضرار في الوصيّة يكون بأحدِ أمرين: إمّا أن يوصيَ لوارثٍ بشيء فوقَ حقّه الذي يستحقّه من الميراث، فيكون بذلك مضارًّا ببقيّة الورثة، ولذا قال الرّسول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث))(3)[3]. ومنها ثانيًا: أن يوصيَ بأكثرَ من الثلث لغير الوارثين، والوصيّة بأكثر من الثلث لا تجوز إلا بموافقةِ الورثة، ونبيّنا يقول: ((الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذَرَ ورثتَك أغنياءَ خير من تذرَهم عالةً يتكفَّفون النّاس))(4)[4]، ويقول : ((إنّ الله تصدّق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم زيادةً في حسناتِكم))(5)[5]. إذًا فلا تجوز الوصيّة بأكثر من الثّلث، فإن فعل كان مضارًّا بذلك، ولهذا قال الله: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:182]، وفي الحديث المرويّ عنه : ((وإنّ العبدَ ليعمل بطاعة الله سبعين سنةً، فيحضره الموت، فيجور في وصيّته فيدخل النّار، وإنّ العبدَ ليعمل بمعصية الله سبعين سنة، فيحضره الموت، فيعدِل في وصيّته فيدخل الجنة))(6)[6]، وذلك أنّ الله جلّ وعلا جعل الوصيّة مشروطةً بعدم الضّرر، والإضرارُ في الوصيّة من كبائر الذّنوب كما قال ابن عبّاس(7)[7] لأنّ الله قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14].

ومِن أنواع الضّرر الضّرر بالمرأة أحيانًا، فبعضُ النّاس يُلحِق الضّرر بامرأتِه، إذا لم يكن في قلبِه محبّةٌ لها أحبّ أن يلحِقَ الضّرر بها، فربّما طلّقها ثمّ راجعها لأجل الإضرار والإساءة، قال تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ [البقرة:231]. كانوا في الجاهلية يطلِّق فإذا قارب انقضاءَ العدّة راجعها لإلحاق الضّرر بها، فجاء الإسلام وحدّد الطلاق بثلاث، ثم أيضًا مع هذا أرشد المسلمَ إذا أراد أن يُراجع بعد الطلاق فليراجع مراجعةَ مَن يُحبّ القيام بالواجب والمعاشرة بالمعروف، لا مراجعة من يريد الإضرارَ والإساءة، قال تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذالِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحًا [البقرة:228].

ومِن أنواع الضّرر بالمرأةِ أيضًا أن يُضارّ بها لأجل أن تفتديَ منه وتدفعَ له ما دفع لها ولم يكن من المرأة خطأ ولا تقصيرٌ في واجب، لكن ما قسَم الله محبةً بينهما، فيلحق الضّرر بها أو بأهلها أو بشرفِها لأجل أن يُعطَى ما دفع فيُمسِك عن القيل والقال، وهذا غايةُ الخِسّة والدّناءة، ولهذا قال الله: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ [النساء:19]، فعضلُ المرأة والإساءة إليها لأجل أن تفتديَ بنفسها منه من غيرِ نقصٍ حصل منها هذا نوعٌ من الضّرر.

ومِن الضّرر بالمرأة أيضًا أن لا يعدِل بينها وبين ضرّتها، وأن يميل مع [واحدة] دون الأخرى، فهذا من الضّرر المنهيِّ عنه لأنّه خلاف العدل المأمور به شرعًا.

ومن أنواع الضّرر بالمرأة أو بالزّوج أن يُؤخَذ من المرأة أولادُها الصّغار لأجل إلحاق الأذى والضّرر بها، قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، فلا يضارّ الرجل المرأةَ بأخذ ولدِها الصغار لإفجاعها وإلحاقِ الأذى بها، كما لا تضارّ المرأة الرجلَ الذي فارقها بعدم القيامِ بحقّ الأولاد لأجل أن تضطرّه إلى أمورٍ يعجز عنها. فكلٌّ من الرّجل والمرأة لا يلحق الضّررَ بصاحبه، والنتيجة عند ذلك ضياعُ الأولاد وإصابتهم بالأزمات النفسيّة، فإنّ نزاع الزوجين النتائجُ السيئة تلحق بالأولاد.

ومِن أنواع الضّرر أيضًا الضّرر بالمعسِر العاجز عن التّسديد، فإنّ الله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فإذا عجز الغريم عن الدَّين وعلمتَ عجزَه عن الوفاء وعدمَ قدرتِه على الوفاء فلا تُلحِق الضّررَ به قولاً أو فعلاً لأنّه عاجز عن الوفاء، وعليك الانتظارُ حتى يفرّج الله الأمر.

ومِن أنواع الضّرَر أيضًا ما يتحكّم به بعض النّاس في البيع، فإذا أتاه المضطرّ المحتاجُ وعلم ضررَه وحاجتَه ضاعف عليه القيمةَ أضعافًا كثيرة، فما يستحقّه بألفِ ريال لا يعطيه تقسيطًا إلا بألفين أو أكثر، يتحكّم في مصير هذا العاجز المضطرّ، والبيع بالتّقسيط والأجل جائز، والزيادةُ لأجل التأجيل جائزة، لكن بالرّفق وعدمِ إلحاق المشقّة واستغلالِ ضرورتِه وحاجتِه، أن تحمّلَه من الديون ما يعجز عن وفائه، فإمّا أن تعينَه وترفُق به، وإلا فعدمُ إعطائك إيّاه أولى من إلحاق الضّرر به.

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر احتكارُ الأشياء وعدم بيعها إلا عندما يحتاج الناس إليها، فإنّ المحتكر خاطِئ ومتوعَّد بوعيدٍ شديد.

ومِن أنواع الضّرر الذي يُنهَى المسلم عنه الغشُّ في المعاملات وكِتمان عيوبِ السِلَع والتدليس والكذب وعدمُ الوضوح في البيع والشراء، هذا من إلحاق الضّرر بالمسلم، والمسلم مأمورٌ بالبعد عنه، ومن غشّنا فليس منّا.

ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن يكونَ الإنسان مُروِّجًا لسِلَع تضرّ بالناس في دينهم ودنياهم، فمروِّجو المخدّرات والمسكرات والساعون في بثّها في المجتمع المسلمِ هؤلاء قد ألحقوا ضررًا بالأمّة، وسعَوا في إفسادها وتدمير كيانِها والقضاء في قيَمها وأخلاقها، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

أيّها المسلم، وإنّ من أنواع الضّرر أن تلحقَ الأذى والضّرر بجارك، فتسيء إليه، إمّا أن تضَع في بيتك أمورًا تضرُّ به وتسيء إليه بجميع أنواع الضّرر، سواء كان هذا الضّرر بأصواتٍ مزعجة أو بفَتح نوافذَ ربّما تطّلع منها على عوراتِه أو تضَع في بيتك ما يقلِقه ويضجره، فإنّك مأمور بإكرام الجار، ومنهيّ عن إلحاقِ الضّرر بالجار، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره.

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر المنهيِّ عنه الضّرر في الشهادة وكتابةِ العقود، قال تعالى: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ [البقرة:282]. فالشّاهد لا يضارّ، ولا يُدعَى إلى الشهادة في وقت هو لا يستطيع الحضورَ [فيه]، أو يكلَّف ما لا يطيق، كما أنّ الكاتبَ أيضًا لا يكلَّف بما لا يطيق، وكذلك الكاتب والشّاهد لا يضارّان في كتابتهما وشهادتهما، فشاهدُ الزّور يُعتبرَ مضارًّا بمَن شهد عليه، لأنّ شهادتَه ظلم وعدوان، وكاتب العقود بغير ما أمِر بكتابته يكون مضارًّا بما كتب، ومَن عنده شهادة يتوقَّف حصول الحقّ عليها إذا كتمَها كان مضارًّا بمَن له الحقوق؛ لأنّ الله يقول: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

هكذا أيّها المسلم، دين الإسلام يدعوك إلى الخير، يحذِّرك من إلحاق الضّرر بإخوانك المسلمين بكلّ ما تحمِله الكلمة من معنى.

فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنترفّع عن الإضرارِ بإخوانِنا، لنكونَ مؤمنين حقًّا.




واعلم ـ أيّها المسلم ـ أنّ أولادك مِن بنينَ وبنات أمانة في عنقِك، فإيّاك وإلحاقَ الضّرر بهم.

إنّ مِن إلحاق الضّرر بالفتاة أن تمنَعها من كفءٍ أراد الزواجَ بها وتعلم أهليّتَه لذلك، فتمنع زواجَ الفتاة لمصلحةٍ ترجوها منها، مرتّبٌ تقبِضه كلَّ شهر، تمنعُها الزواجَ مراعاةً لمصالحك الخاصّة، متجاهلاً منفعةَ الفتاة ومصلحتَها في المستقبل، هذا كلّه من الضّرر.

ومِن الضّرر أيضًا أن لا تزوّجَها إلاّ أن تعاوَض عن زواجها بزواجٍ لك أو لأحدِ أبنائك، فترتكبُ نكاحَ الشّغار الذي نهى عنه محمد (8)[1].

ومِن الضّرر بالأولادِ تفضيل بعضهم على بعض حتى تكون الشّحناء والعداوة بينهم.

ومِن أعظم الضّرر بالأولاد من بنينَ وبنات إهمالُ تربيتهم وإهمال توجيهِهم وعدمُ النظر في ذلك، فإنّ هذا نقصٌ في حقِّك، فالواجب أن تتّقيَ الله في أولادك بتربيتهم وتوجيههِم ودعوتِهم إلى الخير وترغيبهم فيه.

ومِن أنواع الضّرر ـ أيّها المسلم ـ أن تعرفَ لذي حقٍّ حقّه فلا تعطِي أهلَ الحقوق حقوقَهم، الواجبُ أن تقضيَ ما في ذمّتك من الحقوق، والنبيّ يقول: ((مطلُ الغنيّ ظلمٌ، يُحلّ عرضَه وعقوبتَه))(9)[2].

ومِن أنواع الضّرر أن تعاملَ الناسَ بدرجاتٍ مختلِفة، فبعض النّاس إذا كان ذا عمل ومصلحةٍ وممّن يؤمّه الجمهورُ يراجعونَه ويبحثون عن معاملاتهم، فبعضهم نفسُه دنيئة، إن رأى ذا جاهٍ ومكانة أنجز معاملتَه وسعى في تخليصِها في أسرَع وقت، وإن رأى فقيرًا عاجزًا ضعيفَ القولِ قليلَ الحيلة ماطل في قضاءِ حاجته، وربّما أتعبَه الأيامَ والشهور؛ لأنّه لا يرجو منه منفعةً، فهو إنّما ينجِز معاملةَ من يرجو المنفعةَ منه، أمّا من لا يرجو منه منفعة ولا يحصِّل من ورائه مصلحة فهو يماطل بحقوقِه ويتهاون بذلك، وتلك خيانةٌ للأمانة التي اؤتمنتَ عليها، وهي إنجاز الأعمال والقيام بحقّ الخَلق كما أمرك بذلك ربّك: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].

ومِن أنواع الضّرر ما قد يضرّ العبد بنفسِه في أنواع العبادة، فإنّ العبادةَ التي أمر الله بها وسطٌ بين غلوّ الغالين وجفاءِ الجافين، ولهذا النبيّ أنكر على عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا تعمّق في العبادة، فجعل ليلَه قيامًا ونهاره صيامًا وأعرض عن أهله، فقال له: ((يا عبد الله بن عمرو، إنّ لربّك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا))(10)[3]، فأمره أن يقومَ بالحقوق كلِّها، وأن لا يفرّطَ في بعضِها على حسابِ البعض الآخر، فهذا من أنواع الضّرر لأنّ تعطيلَ جانبٍ من جوانب الخير [بسببِ] جانبٍ آخر يضرّ بالجانب الآخر، وفي الحديث: ((المتبتِّل لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى))(11)[4].

أيّها المسلم، ومِن أنواع الضّرر أن تلحقَ الضّرر بنفسِك بإزهاق نفسِك والعياذ بالله، وقد حذّرنا الله من ذلك فقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]. فإلحاق الضّرر بنفسِك بأيّ [نوعٍ] من أنواع الضّرر أعظمُه القتل وما دون ذلك، كلّ هذا محرّم عليك فعلُه، بل الواجبُ الصّبر والرّضا بما قضى الله وقدّر.

ومِن أنواع الضّرر التستُّر على المجرمين والآثمين وأربابِ الفساد والساعين في الأرض فسادًا، فمن تستّر عليهم أو آواهم أو أقامَ العُذرَ لهم فإنّه ملحِقٌ الضّررَ بنفسه وأمّته؛ لأنّ المؤمنَ يسعى في الخير جاهدًا وفي كفِّ الشرّ والأذى ما استطاعَ لذلك سبيلاً.

أسأل الله أن يوفِّقني وإيّاكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلَنا ممّن يسعى في الخير جهدَه ويبتعد عن الضّرر جهدَه، إنّه على كلّ شيء قدير.

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.

وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...

__________

(1) روي هذا المتن عن عدد من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345)، وحسنه النووي في الأربعين، ورواه مالك في الموطأ من هذا الوجه مرسلا (1461)، قال ابن عبد البر في التمهيد (20/158): "لا يسند من وجه صحيح". وعن عبادة بن الصامت عند ابن ماجه في الأحكام (2340)، وعبد الله في زوائد المسند (5/326)، والبيهقي (6/156، 10/133)، وهو منقطع. وعن ابن عباس عند أحمد (1/313)، وابن ماجه في الأحكام (2341)، وأبي يعلى (2520)، والطبراني في الكبير (11/302)، وسنده ضعيف. وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط (1033)، وسنده ضعيف أيضا. وعن جابر عند الطبراني في الأوسط (5193)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص304): "إسناده متقارب، وهو غريب، ورواه أبو داود في المراسيل مرسلا، وهو أصح". وعن أبي هريرة عند الدارقطني، قال ابن رجب: "إسناده فيه شك". وعن عمرو بن عوف المزني، قال ابن عبد البر (20/157): "إسناده غير صحيح". وعن ثعلبة بن أبي مالك عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2200)، والطبراني في الكبير (2/86). فلا تخلو طرق هذا الحديث من مقال، لكن كما قال النووي: "إن بعض طرقه تقوي بعضا"، قال ابن رجب: "وهو كما قال... وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث... وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم". وانظر: إرواء الغليل (896).

(2) أخرجه أحمد (3/453)، وأبو داود في الأقضية (3635)، والترمذي في البر (1940)، وابن ماجه في الأحكام (2342) من حديث أبي صرمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3091). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه الدارقطني (3/77)، والبيهقي (6/69)، وصححه الحاكم (2345).

(3) أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث))، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".

(4) أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(5) ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة أخرجه ابن ماجه في الوصايا (2709) وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك، قال البزار كما في نصب الراية (4/400): "لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوي". ومنهم أبو الدرداء أخرجه أحمد (6/440)، والطبراني في مسند الشاميين (1484)، وأبو نعيم (6/104)، قال البزار كما في نصب الراية: "قد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء، ولا نعلم له عن أبي الدرداء غير هذه الطريق، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان، وقد احتمل حديثهما"، وقال الهيثمي في المجمع (4/212): "رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط". ومنهم معاذ بن جبل أخرجه الدارقطني (4/150)، والطبراني في الكبير (20/54)، قال الحافظ في التلخيص (3/91): "فيه إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: "فيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/226) عن معاذ موقوفا. ومنهم خالد بن عبيد السلمي أخرجه الطبراني (4/198)، قال الحافظ في التلخيص: "خالد مختلف في صحبته، رواه عنه ابه الحارث وهو مجهول". ومنهم أبو بكر الصديق أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/275)، وابن عدي في الكامل (2/386) وفيه حفص بن عمر العدني قال ابن عدي: "أحاديثه كلها منكرة المتن والسند". والحاصل أن طرق الحديث كلها ضعيفة، لكن قد يقوّي بعضها بعضا كما قال الحافظ في بلوغ المرام، وقد حسّن الحديث الألباني في الإرواء (1641).

(6) أخرجه أحمد (2/278)، وأبو داود في الوصايا (2867)، والترمذي في الوصايا (2117)، وابن ماجه في الوصايا (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال المنذري كما في تحفة الأحوذي (6/255): "شهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (614).

(7) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9/88)، وابن منصور في سننه (258، 259، 260)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/227، 228)، والنسائي في الكبرى (6/320)، وابن جرير في تفسيره (4/288، 289)، والبيهقي في الكبرى (6/271)، وروي مرفوعا وصحح وقفه غير واحد من الحفاظ، قال ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/486): "وهو صحيح عن ابن عباس من قوله"، وصححه الحافظ في الفتح (5/359).

(8) أخرجه البخاري في النكاح (5112)، ومسلم في النكاح (1415) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(9) هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).

(10) أخرجه البخاري في الصوم (1974، 1975، 1977)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه.

(11) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1179)، والبزار كما في مجمع الزوائد (1/62)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص95)، والقضاعي في مسند الشهاب (1147، 1148)، والبيهقي في الكبرى (3/18) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((المنبتّ))، قال الهيثمي: "فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب"، وفي سنده اختلاف بينه البيهقي، وقال المناوي في الفيض (2/544): "روي موصولا ومرسلا ومرفوعا وموقوفا، واضطرب في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمرو، ورجح البخاري في التاريخ إرساله"، وانظر: السلسلة الضعيفة (1/21)، وضعيف الجامع (2020).

(1/2819)

0 التعليقات:

إرسال تعليق