الجمعة، 6 مارس 2015

مِن معاني الأخلاق الشّريفة

  • الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِه.
    أمّا بعد:

     في خِضَمِّ هذه العصورِ المتأخِّرة برزَت وبصورةٍ جليّة آلياتٌ مستجدَّة وإحداثيّاتٌ خدَمت معظمَ بقاع الأرض في تغطيةِ حاجياتها وتحسينيّاتها، حتى أصبحت طوفانًا مادّيًا جارفًا منحدِرًا من فوَّهَة بركانٍ فجَّرته الحضارة الماديّة الجافّة، والتي اجتالت على حسابها كثيرًا من المعايير الفاضلةِ، كما أنَّ حمأة التّنافس على اكتساب مستجدّات هذه الحياة لا ينبغي أن تكونَ حاجزًا مانعًا عن بقاء المبادئ الإنسانيّة الشريفة، والتي رعاها الإسلامُ حقَّ رعايتها، بل وطالب بها ودعا إليها في كلّ حينٍ وآن، مهما اتَّسع الناس في مادّيتهم أو ضاقوا.
    ما أشدَّه مضَضًا ما تعانيه الأمّة المسلمة اليوم، إنّ كثيرًا من موروثاتها الروحيّة ليَذهبُ فُرُطًا، وإنّ الغفلة قد بلغت من النّاس مبلغَ من يظنّ أنه مسرمَد في هذه الحياة، وكأنّ رحى الأيّام لن تدورَ عليه يومًا ما، مما أبرز الصدرَ الوحر واللسانَ المذِق، والذي على إثرِه تندرس جملةٌ مِن معاني الأخلاق الشّريفة كما يُدرَس وشْي الثوب، حتى لا يُدرى ما زهدٌ ولا رحمة ولا صِلة ولا تواضع ولا لين، بل لقد أصبحَت مفاهيم بعضِ السّذَّج من الناس تجاه التّعامل مع الآخرين ومعاشرتهم: إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك.
    ثُمّةَ زَعموا أنّ الفلسفةَ الأخلاقيّة العظمى عندهم هي في انطلاق النظرةِ للآخَرين من زاوية: كم تملك؟ وما مركزُك؟ ويرونَ أنّ في ذلك غنية وضمانًا للسّلام والرخاء، وعِوضًا عن التربيّة والتّهذيب الروحيّ، وأنّ ما عداها فهي سجايَا وخِصال أكلت عليها السِّنون وشرِبت، هكذا يزعُم جفاة الأخلاقِ الحميدة الذين أثَّرت فيهم المعاني النفسيّة التي تعلو بعَرَض مِن الدنيا وتهبِط بعرَض، وأنَّ أيَّ خللٍ في الحياة الاعتياديّة فإنّ المال يرمِّمها، والحسبَ والجاه يرأب الصدعَ فيها.
    أما إنّه لو أدرك المسلِم أنَّ أوّل حقٍّ عليه للمسلمين هو أن يحملَ في نفسه معنى النّاس لا معنى ذاتِه لَعِلم أنّ من فاق الناس بنفسه الكبيرة دونَ تميّز كانت عظمته حقيقةً في أن يفوقَ نفسَه الكبيرة، متخطِّيًا ما فيها من طمع وجشعٍ وكبرياء، وبمثل هذا يصبِح الناس أحرارًا متى حكمتهم معاني الدَّعةِ والتّواضع والتوادِّ والتعاطف تحت ظلِّ الإسلام الوارف.
    وأمّا المركز والمال والجاه فإنما هي عوارضُ سرعانَ ما تزول بعد ما كانت رسمًا ظاهرًا لا يمسُّ بواطن القلوب, فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرْضِ [الرعد:17].
    كتب وهبُ بن منبّه إلى مكحول: "أما بعد: فإنّك قد أصبتَ بظاهرك عندَ الناس شرفًا ومنزلة، فاطلب بباطن عملِك عند الله منزلةً وزُلفى، واعلم أنّ إحدى المنزلتين تنازع الأخرى"(1)[1].
    بمثلِ هذا كلِّه ـ عباد الله ـ يتَّصل ما بين العظيم والسّوقة، وما بين الغنيّ والفقير، اتّصالَ التواضع في كلّ شيء، بعيدًا عن معاني الدّينار والدّرهم وحِماهما، حتى يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى.
    أيّها المسلمون، التواضعُ بين المسلمين خصلةٌ مرجوَّة، هي أسٌّ في خلقِ المجتمعات، ومِِقبض رحى حُسنِ الاتّصال بينهم، لها موادٌّ من الحكمة وأضدادٌ من خلافِها، بتمامِها وصفائها يميز الله الخبيثَ من الطيّب، والأبيض من الأسود المربادِّ المجخِّي كما الكوز.
    إنّه لا بدّ أن يكونَ للتواضع بين ظهرانينا محلٌّ طريّ لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌّ يُهَشُّ أمامه ويُبَشّ، محلّ يوحِي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرَّقت نواحيهم، وإلا كان تواضعًا مفقودًا في تيهِ العقل المادّي الذي اكتسى فاقدُه ثيابَ كبر مدمّرةً، لا يهشُّ له الناظر، بل تغضُّ منه العيون، وتنبو عنه الأفئدة الحيّة، وينفضّ الناس من حوله، وحينئذ يكشِف مضمارُ المجتمع عن الستار المسدَل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنَفَة وطوفان الإعوازِ إلى التواضع.
    إنّه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنعَ عن التواضع أو يجبنَ عن تحقيقه؛ إذ به تكتسَب السلامة، وتورَث الألفة، ويُرفَع الحِقد، ويشعر الجميع بحقوقِهم تجاهَ غيرهم، والعكس بالعكس.
    ألا فإنّ تواضعَ الشريفِ إنما هو زيادةٌ في شرفِه، كما أنّ تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلِّمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم.
    فيا سبحانَ الله، كيف لا يتواضَع من خُلق من نطفة مذِرة، وآخرُه يعود جيفةً قذِرة، وهو بينهما يحمل العذِرةَ أجلَّكم الله؟!
    إنّه لو لم يكن في التّواضع خصلة تُحمد إلا أنّ المرءَ كلَّما كثُر تواضعه كلَّما ازدادَ بذلك رفعةً لكان الواجِب على كلّ واحد منّا أن لا يتزيَّى بغيره.
    ولا جَرَم عباد الله، فإنّ رسول الله يقول: ((ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة ـ يعني كاللجام ـ، والحَكَمة بيدِ مَلَك، إن تواضَع قيل للملك: ارفع الحَكَمَة، وإن أراد أن يرفعَ قيل للملك: ضعِ الحَكَمة)) رواه الطبرانيّ والبزّار بسند حسن(2)[2]، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ما تواضَع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله))(3)[3].
    فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ إنما هو امرؤ استعبده الكبر القاتل والعجبُ الغالب، فهو عنيدٌ صلت، به يخبو قبسه ويكبو فرسه.
    فاقدُ التّواضع عقله محصود؛ لأنّه بعُجبه وأنَفَته يرفع الخسيس ويخفِض النّفيس، كالبحر الخضمّ تسهل فيه الجواهر والدرّ، ويطفو فوقَه الخشَاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفَّة ما يميل إلى الخِفّة.
    فاقدُ التواضع ـ عبادَ الله ـ عديم الإحساس بعيد المشاعر، شقيٌّ لا يتَّعظ بغيره، غير مستحضرٍ أنّ موطِئه قد وطِئه قبلَه آلاف الأقدام، وأنَّ مَن بعده في الانتظار.
    ألا وإنّه ما رُئي أحَدٌ ترك التّواضعَ وترفَّع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذّلّة لمن فوقه، ومن استطالَ على الإخوان فلا يثقَنَّ منهم بالصفاء.
    من تكبَّر فلم يتواضع فقد رمى بثِقله في ثلاث خصال مذمومة:
    أوّلها: أنه لا يتكبّر على أحد حتى يُعجَب بنفسه، ويرى لها الفضلَ على غيرها.
    وثانيها: ازدراؤه بالناس مِن حوله، لأنّ من لم يستحقر الناس لم يتكبّر عليهم، وكفى بالمستحْقِر لمن أكرمه الله بالإيمان طغيانًا، وأنَّى للمستكبر أن يستعبد الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!
    وثالث الخصال: منازعة الله جلّ وعلا في صفاته، إذ الكبرياء والعظمَة له وحدَه لا شريك له، يقول سبحانه في الحديث القدسيّ: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدًا منهما ألقيتُه في جهنّم)) رواه مسلم(4)[4].
    ألا فليتَ شِعري، ما الذي يحمِل الكثيرين على أن يركنوا إلى العُجب والأنفة، وينأَوا بأنفسهم عن التّواضع وخفض الجناح؟! أفيكون السبب في ذلك فِطرةً يُفطر عليها المتكبِّر، فيدَّعي جِبِلِّيتها وصعوبةَ الخلاص منها؟! كلاّ والله، فالنّبي يقول: ((إنّ الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخَر أحد على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد)) رواه مسلم(5)[5].
    أم أنّ ذلك نقيصةٌ يجدها المرء في نفسه، ثُمَّةَ يسدُّ ثُلمتَها بعُجْبٍ وفخر يحتال بهما على نفسِه، ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقةَ الشّرف والرفعة، وأنها في التّواضع لا في الفرار منه، بحجّة سدِّ النقيصة أو قضاء الوطَر، يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (وجدنا الكرمَ في التقوى، والغنى في اليقين، والشّرفَ في التواضع)(6)[6].
    ثمّ إن لم يكن الأمرُ لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمِل المرءَ على ذلك؟‍! هل هو الحسد والتشفّي وحبّ الذات، أم هو سورةٌ كسَورة الخمرةِ تأخذ شاربها كلَّ مأخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاوَد حتى يصير مدمِنًا، فيستوي عنده حال الخُمار والإفاقة؟!
    وأيًّا كان ذلك فإنّ النأيَ عن التواضع سِمة مرذولة وخَصلة مستهجنةٌ ووسمٌ تعلق به نار الحدّادين؛ لأنّ عين المعجَب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل، حتى يكون أسرعَ ما يتسرَّب الإيمان من امرئٍ هذه حاله كما يتسرَّب السائل من الإناء المثلوم.
    ويا لله العجَب، كيفَ لا ينظر أمثالُ هؤلاء إلى سِيَر الأسلاف مِن قبلهم؟! وعلى رأسِهم إمامنا وقدوتُنا سيّد ولد آدم ذو النسب الرفيع والجاهِ الوسيع، فها هو قد نام على الحصير، وابتسَم في وجهِ مَن أوجعه، ووقَف إلى جانب امرأةٍ في الطريق تشكو إليه، وشرِب مع أصحابه في إناء واحد وكان آخرَهم شُربًا، كما أكل مع أهل الصفّة، ثم دخل مكّة في الفتح متواضعًا، ومشى في الأسواق والناس من حوله، يأكل مما يأكلون منه، ويشرَب مما يشربون، بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامه عليه.
    وهذا خليفتُه الصدّيق رضي الله تعالى عنه كان يحلِب لأهل الحيِّ أغنامهم، فلما بُويع بالخلافة قالت جاريةٌ منهم: الآن لا يحلِب لنا منائحَ(7)[7] دارنا، فسمِعها فقال: (بلى، لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلتُ فيه)(8)[8].
    ثُّمَّةَ الفاروق، وما أدراكم ما الفاروق، خطبَ بعد خلافتِه فقال: (اعلَموا أنّ تلك الشدّة قد أُضعِفت، ولكنّها إنما تكون على أهل الظلم والتعدِّي على المسلمين، فأمّا أهلُ السلامة والدين والقَصد فأنا ألين لهم من بعضِهم لبعض، وإنّني بعد شدَّتي تلك أضع خدِّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)(9)[9]، فلا إله إلا الله، أحقيقةٌ ما نسمع أم هو نسج من الخيال؟! أهو فُتون يتردَّد أم هي حقيقة اكتنفتها قلوبُ من يعرفون ما الدّنيا وما الله؟!
    عند الترمذي والحاكم أنّ جبير بنَ مطعم قال: تقولون: فيَّ التِّيه(10)[10]، وقد ركبتُ الحمار، ولبستُ الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله : ((من فعَل هذا فليس فيه مِن الكبر شيء))(11)[11].
    ألا فليتنبَّه لذلك المغرورون المعجَبون بأنفسِهم وجاهِهم في حينِ إنهم بادو الكبرياء كالحو الوجوه، ومَن هذه حاله فلا يغترَّ بكونِه يملك ألفًا، فإنّ عليه من الحقوق والتّبعات ما قد يزيد على الألفين.
    ألا وإنّ حُسنَ الصورة وجمالَ المظهر لا يقدِّم في ذلك ولا يؤخِّر، فإنّ جمال الوجه في قبحِ نفسٍ كقنديلٍ على قبر مجوسي.
    وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوههم إذا كانت أخلاقهم غيرَ حِسان
    ومن قايَس بين الجمال والفعال تبيَّن له أنّ الملاحة بالقباحة لا تفي بالمقصود، فلِلَّه ماذا يعني لباسُ المظهر إذا كان المخبر عاريًا باديةً للناس سوأته؟! يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
    إنَّ مَن سُرَّ بأنَفَته فليعلمْ أنّ الجمل أشدُّ كبرًا منه، بل وأشدُّ منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشيَ المرِح المختال، يتصفَّح ذنَبَه وجناحيه فيقهقِه ضاحكًا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحِه، فأيُّ فخر وأيّ سرورٍ فيما تكون فيه صورة البهائم متقدِّمة عليه؟!
    فينبغي للعاقل إذا رأى مَن هو أكبر منه سنًّا تواضعَ له وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضَع له وقال: سبقتُه بالذّنوب، وإذا رأى من هو مثله عدَّه أخًا قريبًا، فلا يحقِرنَّ أحدًا من المسلمين، فكم من عودٍ منبوذ ربما انتُفِع به فحكَّ الرجل به أذنَه، وقد قال ابن عيينة: "لو قيل: أخرِجوا خيار هذه القرية لأخرجوا من لا نعرف".
    مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].



     فيا أيّها الناس، لا زلنا نؤكِّد بأنّ التّواضع شأنُه عظيم وأمره جسيم، قد تكلَّم فيه أهل العلم والحكمة، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجِلِهم، مبيِّنين ما له وما عليه بالأدلّة الشرعية، فجعلوا منه التواضعَ المحمود والتواضعَ المذموم.
    فكان من التّواضع المحمود أن يتركَ المرء التطاولَ على عباد الله والترفّع عليهم والإزراءَ بهم، حتى مع وقوع الخطأ عليه، فقد قال النبي : ((ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا)) رواه مسلم(12)[1].
    ومِن ذلك أيضًا التواضعُ للدّين والاستسلام لشرعِ الله بحيث لا تعارضه ـ أيها المرء المسلم ـ بمعقولٍ ولا رأي ولا هوًى، ولا تتَّهم للدّين دليلاً صحيحًا، وأن تنقادَ لما جاء به خاتم الرسل ، وأن تعبُدَ الله وفقَ ما أمرَك به، وأن لا يكونَ الباعث على ذلك داعي العادة، وأن لا ترى لنفسِك على الله حقًّا لأجل عملٍ عملتَه، وإنما تعلم أنّك ترجو رحمته وتخشى عذابَه، وأنّك لن تدخلَ الجنّة بعملك، وإنما برحمتِه لك.
    كما أنّ من التواضع المحمود أيضًا أن تتركَ الشهوات المباحة والملذّات الكماليّة احتسابًا لله وتواضعًا بعد التمكُّن منها والاقتدار عليها، دونَ أن توصَف ببخل أو طمعٍ أو شحّ، فقد قال النبي : ((من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدِر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ حُلل الإيمان شاء يلبسها)) رواه أحمد والترمذي(13)[2].
    وممّا يزيد الأمرَ وضوحًا أنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه، وأنّ المتواضعَ حقيقةً هو المقتدِر على الشيء لا العاجزُ عن تحصيله، فلقد قال رسول الله : ((يا عائشة، لو شئتُ لسارتْ معي جبال الذهب، جاءَني ملك فقال: إنّ ربَّك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئتَ نبيًّا عبدًا، وإن شئت نبيًّا ملِكًا، فنظرتُ إلى جبريل عليه السلام فأشار إليَّ أن ضعْ نفسَك، فقلتُ: نبيًّا عبدًا)) رواه أبو يعلى والطبرانيّ بسند حسن(14)[3].
    أمّا التواضع المذموم ـ يا رَعاكم الله ـ فهو التّواضع أمامَ نُصرة دينِ الله سبحانه، والذي يسبِّب التخاذلَ وهجرَ النّصيحة وهجر الأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكر والخنوعَ أمام الباطل والبعدَ عن نصرة الظالم والمظلوم، حتى يكون مَن هذه حاله كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
    كما أنَّ مِن التّواضع المذموم تواضعَ المرء لصاحب الدنيا والجاه والنسب رغبةً في شيء مما عنده حتى يُصبح عالةً أمام المغريات فيفتَن بها.
    وعلى رأسِ الفِتن النّاقضة للتّواضع المحمود اتّباع الهوى والانحرافُ عن المنهج القويم والغلوّ في الدين أو الغلوّ في التفلّت من الدّين، وكذا الإحداثُ في الدّين والاعتداء على الحرمات أو الاستهانة بها كحرمةِ الدّين والمال والنّفس والعرض والعقل، والبعدُ عن طاعة الله ورسوله وأولي الأمر من المسلمين فيما هو طاعة لله وعدمُ ردِّ الأمور إلى الله والرسول عند التنازع كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، إضافةً إلى الاستهانةِ بعلماءِ المسلمين الربّانيّين وعدمِ الرّجوع إليهم، وذلك من خلال الاستقلال بالرأي دونهم أو الإحساس بالكمَال الزائف الدّاعي إلى الاستغناء عنهم وعمّا يحملونه من نور وهدايةٍ وإخلاص ووسطيّة، يقودون من خلالها سفينةَ المجتمع إلى مرفأ الأمان والفَلاح المبين.
    وحاصلُ الأمر ـ عبادَ الله ـ أنّ التّواضع مِن أعظمِ ما يتخلَّق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأسُّها، بل ما مِن خُلُق في الإسلام إلا وللتّواضع منه نصيب، فبِهِ يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعمُّ الإيثار، وتزول القسوَة والأنانيّة والتشفّي وحبّ الذات، وهلمّ جرًّا.
    اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسَد، اللهمّ إنّا نعوذ بك من الغلّ والحسد، ونعوذ بك اللهمّ أن نجرّ بهما على مسلمٍ سوءًا يا ذا الجلال والإكرام.
    هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم ـ أيها المسلمون ـ فقال عزّ من قائل عليم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
    اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

    __________
    (1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/54، 5/178) بنحوه.
    (2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/218) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (3/352)، والهيثمي في المجمع (8/82)، والسيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض (5/467)، وله شواهد ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (538).
    (3) أخرجه مسلم في البر (2588).
    (4) أخرجه مسلم في البر (2620) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحوه.
    (5) أخرجه مسلم في كتاب الجنة (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
    (6) انظر: إحياء علوم الدين (3/343).
    (7) جمع منيحة وهي الناقة أو الشاة المعارة للمنفعة.
    (8) أخرجه الطبري في تاريخه (2/354).
    (9) أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص360-361) من طريق سعيد بن المسيب عن عمر بنحوه.
    (10) 10] أي: يتهمونه بالكبر.
    (11) 11] أخرجه الترمذي في البر (2001)، والبيهقي في الشعب (8195)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم (7373)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1627).
    (12) أخرجه مسلم في البر (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    (13) أخرجه أحمد (3/438، 439)، والترمذي في صفة القيامة (2481)، وأبو يعلى (1484، 1499)، والطبراني في الكبير (20/180، 188)، والبيهقي في الشعب (5/150، 151) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (206، 7372)، وهو في السلسلة الصحيحة (718).
    (14) أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/381)، وأبو يعلى في المسند (4920) من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن طريقه الذهبي في السير (2/195) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وعزاه الهيثمي في المجمع (9/19) لأبي يعلى وحسّن إسناده، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (2045).
    (1/2818)

0 التعليقات:

إرسال تعليق