الأربعاء، 11 مارس 2015

القنوط واليأس

نحمد الله رب العالمين حمد عباده الذاكرين الشاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الزمر: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، لهذه الآية الكريمة سبب نزول، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك))، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك))(1)[1]، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات الكريمة، وربط الرواة هذه المناسبة بآيات من سورة الفرقان، ونصها: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً [الفرقان:68-71].
أيها المسلمون، كما أخرج الشيخان، البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت هذه الآية قُلْ ياعِبَادِىَ [الزمر:53].
وأخرج الحاكم والطبراني عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نقول ما لمفتتن توبة إذا ترك دينه بعد إسلامه ومعرفته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم قُلْ ياعِبَادِىَ).
فهذه الآية الكريمة يا مسلمون تنهى عن القنوط واليأس من رحمة الله، وينبغي على الشخص مرتكب المعاصي أن يتوب توبة نصوحاً، وأن يقلع عن معاصيه ثم يرجو من الله الرحمة والمغفرة له.
أيها المسلمون، إن القنوط هو اليأس من رحمة الله عز وجل، وهو مرض من أمراض القلوب المعنوية التي تتناقض مع الإيمان، وإن القنوط صفة من الصفات الذميمة المنهي عنها، وقد ورد لفظ القنوط مع مشتقاته في القرآن الكريم ست مرات، كما ورد لفظ اليأس مع مشتقاته في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة.
أيها المسلمون، لقد عالج القرآن الكريم ظاهرة القنوط واليأس من خلال الإيمان والتوحيد، وينحو ديننا الإسلامي العظيم باللائمة على من يتصف بالقنوط لأن الاتصاف به يؤدي إلى إنكار رحمة الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى الإصرار على ارتكاب المعاصي والموبقات، مع أن رحمة الله قد وسعت كل شيء لقوله في سورة الأعراف: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ويقول عز وجل في سورة الشورى: وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28]، فالله رب العالمين واسع الرحمة، فإنه ينزل المطر من بعد ما يأس الناس من نزوله.
أيها المسلمون، لقد كشف القرآن الكريم نفسية القانطين اليائسين بأنهم أنانيون ولا يبحثون إلا عن مصالحهم الخاصة، فيقول سبحانه وتعالى في سورة هود: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9]، ويقول في سورة الإسراء: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً [الإسراء:83]، ويقول في سورة الروم: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36]، أي إذا أذقنا الكفار نعمة من النعم فرحوا بها بطراً ورئاء، وإذا أصابتهم شدة بسبب أفعالهم المنكرة، إذا هم ييأسون من رحمة الله.
أيها المسلمون، لقد وصف القرآن الكريم اليائسين بالضلال في قوله عز وجل في سورة الحِجر على لسان إبراهيم عليه السلام: قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر:56]، ولا يخفى أن الكفار يتصفون باليأس لقوله سبحانه وتعالى في سورة يوسف: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87]، وفي سورة العنكبوت: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:23]، وما ينطبق على الأفراد فإنه ينطبق على الأمم والشعوب.
أيها المسلمون، أما المؤمن الصادق فإنه يشكر الله دائماً حين النعم ويصبر ويرجو رحمة ربه حين الشدائد، فلا ييأس ولا يقنط، ولا يتذلل ولا يستسلم إلا لله.
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، لقد مرت محن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليببيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وثبات وتضحية، وذلك بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإيمان راسخ وعمل نافع بناء، كما ابتليت أمتنا الإسلامية ولا تزال بنكبات وهزائم متوالية في القرن الماضي وفي بداية هذا القرن، غير أن ذلك يجب أن لا يفقدنا الثقة بالله عز وجل خالق الكون والإنسان والحياة، القائل في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، القائل في سورة آل عمران: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
أيها المسلمون، يا خير أمة أخرجت للناس، إن النكسات والنكبات التي تنتاب الأمم الواعية لا تضعف من قوتها ولا تفقدها الثقة بنفسها ولا تيأس ولا تقنط، بل إن ذلك يحفزها للرجوع إلى الله عز وجل قولاً وعملاً، وللأخذ بالأسباب.
على الأمة الإسلامية أن تبتعد عن الذنوب والآثام والفوضى والخصام، كيف تنهض أمة هذه صفاتها؟
على الأمة الإسلامية أن تحذر من المثبطين للعزائم والذين يصطادون في الماء العكر، ومن الذين يشمتون بما حل بالمسلمين، وأن نحذر من الطابور الخامس الذي يثير الإشاعات والتثبيطات بين المسلمين، على الأمة الإسلامية أن تبحث عن الأعمال التي تعيد مد الإسلام وتحيي الأمل في نفوس المسلمين، كيف لا، وقد بشرنا رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))(2)[2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.


يا أبناء أرض الإسراء والعراج، أمس الخميس مر عامان على أحداث أمريكا التي عرفت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحتى الآن لم تعرف أمريكا كيف ومتى وقعت هذه الأحداث ومتى خطط لها ؟ وقامت أمريكا إزاء ذلك خلال هذين العامين بحربين ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، ولكن أمريكا، وحتى الآن لم تحقق أحلامها، فالمقاومون والمجاهدون المسلمون في أفغانستان والعراق لا يزالون يحاربون المحتلين، ولن يمكنوهم من ديار الإسلام حتى يرحلوا عنها، فعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتحدوا كما أمرهم الله رب العالمين بقوله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، ويحذر سبحانه وتعالى المسملين من الفرقة والاختلاف بقوله: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وذلك حتى يتمكن المسلمون من دحر الغزاة والمحتلين الذين يدعون بأنهم يحاربون الإرهاب حسب تفسيراتهم، وهم فعلاً الذين يقومون بالأعمال الإرهابية في أفغانستان والعراق.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج بعد أيام تصادف ذكرى صبرا وشاتيلا في لبنان، هذه المجزرة التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من أهل فلسطين اللاجئين في لبنان، ولا يزال المجرمون الذين قاموا بمجزرة صبرا وشتيلا يمارسون المجازر ضد شعبنا الفلسطيني المرابط الأبي، ولا تزال محاولات الاغتيال قائمة غير قاعدة في غزة وفي غيرها، بحجة الدفاع عن النفس، وتتحمل السلطات المحتلة مسؤولية العنف الذي يقع في ديارنا المباركة المقدسة، إن الهدف من القتل والاغتيال والبطش والاعتقال والإبعاد والهدم والانهيار هو لفرض الاستسلام، وإن شعبنا الذي يطالب بإنهاء الإحتلال لن يقبل الاستسلام، ولن يقبل الدنية والمذلة والضيم والظلم، لأنه شعب حضاري، ولأنه صاحب حق شرعي، يستمد حقه من الله رب العالمين، ولأن جذوره ممتدة عبر آلاف السنين في هذه الديار، هذا وإن الله عز وجل لن يغفر لحكام الدول العربية والإسلامية سكوتهم وصمتهم إزاء ما يقع بحق هذا الشعب المرابط، ولأنهم أي الحكام لم يلبوا صرخات ونداءات الثكالى والأرامل والأيتام التي انطلقت من المدن والقرى والمخيمات، وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، أما المسجد الأقصى المبارك قرة عيون المسلمين، فهو يواجه في هذه الأيام تحديات جديدة بهدف رفع يد المسلمين عنه، ولن يتحقق هذا الهدف بإذن اله وعونه وتاييده، فللبيت رب يحميه، ونحمل السلطات المحتلة مسؤولية ما تقوم به من المس بحرمة الأقصى، فالأقصى للمسلمين وحدهم، والمسلمون هم سدنته وحراسه، ولن يتخلوا عنه، لأن التخلي عنه بمثابة تخلٍ عن جزء من العقيدة والإيمان، وسيبقى أهل الرباط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، سيبقون ملتفين حوله، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وينبغي على أهل الرباط أن يتواجدوا وبشكل استمراري في المسجد الأقصى المبارك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (4477)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب (86).
(2) رواه بنحوه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816)، قال الهيثمي: رواه عبد الله مجادة من خط أبيه، والطبراني ورجاله ثقات، مجمع الزوائد (7/288).
(1/2856)

0 التعليقات:

إرسال تعليق