الاثنين، 16 مارس 2015

الطريق إلى الله متعددة متنوعة


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات:35]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى [الفجر:23].

أيها المسلمون، إنه إذا كانت سبل الباطل وطرقه كثيرة لا تكاد تحصر فإن الطريق إلى الله تعالى في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إليه وإلى رضوانه وجناته، كما قال سبحانه: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه, وجمع السبل المخالفة له لأنها كثيرة متعددة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي خط خطًا مستقيًا ثم قال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية(1)[1].
فالطريق إلى الله أيها الإخوة واحد؛ لأنه سبحانه الحق المبين، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل.
وأما ما يقع في كلام أهل العلم من أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة وأن الله جعلها كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلاً فهو قول صحيح أيضًا، لا ينافي وحدة الطريق إليه, وبيان ذلك كما قال العلامة الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: "أن الطريق واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه هي التي جعلها الله سبحانه برحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدًا، لاختلاف استعداد العباد وقابلياتهم, ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكه إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت هذه الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقًا يقتضيه استعداده وقوته وقبوله.
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ووحدة دينه، ومنه الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))(2)[2]، فأولاد العلات من كان والدهم واحدًا وأمهاتهم متعددة، فشبه صلوات الله وسلامه عليه دين الأنبياء بالأب الواحد، وشبه شرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها ـ أي هذه الشرائع ـ وإن تعددت فمرجعها لأب واحد.
وإذا تقرر هذا فمن الناس من يكون العلم والتعليم سيد عمله وطريقه إلى الله، قد وفر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله، فلا يزال كذلك، عاكفًا على طريق العلم والتعليم, عاملاً بما علم, حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته, كما قال سبحانه: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ الآية [النساء:100].
ومن الناس من يكون الذكر وتلاوة القرآن سيد عمله، هو الغالب على أوقاته، قد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله الصلاة، فمتى قصر في ورد منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها أظلم عليه قلبه، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقه إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه, ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه الحج والاعتمار.
ومنهم الجامع لتلك المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الكادح إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صفوف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها، والقيام بأدائها, مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن، قد سلمت إليه المبيع منتظرًا منه تسليم الثمن، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ [التوبة:111].
فهذا يا عباد الله، هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة نفوذًا يتصل به قلبه، ويتعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبق في قلبه إلا محبة الله ومحبة أمره، فكانت عاقبة ذلك أن قربه ربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في دينه ومعاشه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه المقيم لكل شيء من المخلوقات، طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه, وآثره على ما سواه, ورضيه به من دون الناس ربًا وحبيبًا ووكيلاً وناصرًا ومعينًا وهاديًا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له، وشوقًا إليه، وشكرًا له.
ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقة موصلة إلى الله ثم تركها، وأقبل على إراداته وراحاته ولذاته ونزواته وقع في آثار المعاطب، وأودع قلبه سجن المضايق، وعذب في حياته عذابًا لم يعذب به أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره، وتشتت عليه شمله، يستغيث فلا يغاث، ويشتكي فلا يُشكى، قد رحلت أفراحه وسروره مدبرة، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته، قد أبدل بأنسه وحشة, وبعزه ذلاً، وبغناه فقرًا.
ذلك بأنه عرف طريقه إلى ربه ثم تركها ناكبًا عنها، مكبًا على وجهه، فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه، وتلذذ براحاته فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأنس، ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط لاعراضه عن إلهه الحق أسفل سافلين، وإعراض الكون عنه إذا أعرض عن ربه حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على الأرض، روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فلا تسل عما يحل به من العذاب الأليم؛ لوقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, فهذه عاقبة إعراضه وإيثار شهوته وشطحاته على مرضاة ربه.
فمن أعرض عن الله بالكلية ـ يا عباد الله ـ أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والنحس في أعماله وأحواله، وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومعاشه.
فالمحروم كل المحروم إذن هو من عرف الطريق إليه ثم أعرض عنها، أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها، ولم ينفذ إلى ربه منها، لا سيما إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات المحرمة، أو انصرف بجملته إلى الشطحات والنزوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره، وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، ثاويًا في سجن الهوى، مقيمًا في أسر العدو، هائمًا في أدوية الحيرة"(3)[3].
وصدق سبحانه إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].


 فيا عباد الله، إن الله إذا أقبل على عبده السالك إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلماته، وظهر عليه آثار إقبال من بهجة الجلال ونضرة الجمال, وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم سبحانه، فإذا أحب عبده أحبوه، وإذا والى وليًا والوه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض))(4)[1].
ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ إليه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على كل ما تبلغون به محبة الله بإخلاص العمل لله، ومتابعة رسول الله .
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/435), وسنن الدارمي (1/78).
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم... (3443), ومسلم في الفضائل (2635).
(3) طريق الهجرتين (1/278-283) بتصرف واختصار.
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: ذكر الملائكة (3209), ومسلم في البر والصلة والآداب (2637).

(1/2849)

0 التعليقات:

إرسال تعليق