الاثنين، 16 مارس 2015

الإسلام بين عجز علمائه وجهل أبنائه

الحمد لله الذي من اعتصم بحبله وفقه وهداه, ومن اعتمد عليه حفظه ووقاه, أحمده سبحانه وأشكره وأثنى عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ومصطفاه, صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, ومن سار على نهجه وهداه, وسلم تسليماً كثيراً.

 فاتقوا الله عباد الله، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70، 71].

اتقوا الله واقصدوا مرضاته، وسارعوا إلى مغفرته وجناته, ولا تغرنكم الدنيا، ولا يلهينكم زخرفها، حلالها حساب, وحرامها عقاب، ومصيرها إلى الخراب، فكم من ذاهب بلا إياب من الأهل والأحباب في رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة.

وبعد: أيها المسلمون، في الأعصار المتأخرة من تاريخ أمتنا، وقبل بضعة عقود كانت الأمة في مجملها تعيش غفوة في دينها وإعراضاً عن قرآنها وسنة نبيها وانقطاعاً من تاريخها.

لقد كان المسلم المستقيم على دينه في أكثر ديار المسلمين يعيش غربة في وطنه ووحشة بين أبناء جلدته في غربة الدين، وذلك في ظل الهزيمة الشاملة للمسلمين أمام الاستعمار، والذي لم يكن الاحتلال العسكري أخطر أسلحته، بل الفكري والثقافي، ومحاولة إقناع المسلمين بأن الإسلام قد انتهى عصره، وأن التغريب هو حتمية التاريخ، وانخدع بذلك بعض أبناء المسلمين، فيمموا فكرهم ومنهجهم جهة الشرق والغرب, حتى تطبعت بعض ديار المسلمين وانطبع أهلها على نظام حياة بعيد عن الإسلام.

ولقد كان المأزق الحقيقي للأمة أن صار الإسلام بين عجز علمائه وجهل أبنائه، وهذه سنة الله في الأمم إذا ابتعدت عن كتاب ربها ومنهاجه، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

حتى إذا احلولك الظلام وأرخى سدوله على الأرض أو كاد أذن الله حينها بانفراج, ولعتمات الليل بنفس وانبلاج، فشهدت الأمة عودة صادقة لجموعها وانعطافة جادة لشبابها، فوصلوا من حبال دينهم مارث، وأحيوا في نفوسهم ما درس، فعمرت المساجد وأحييت السنن، وأقبل الشباب أفواجاً لطلب العلم، وقامت فريضة الجهاد بعدما كانت غائبة أو مغيبة، وظهرت عودة حميدة للدين في صفوف الأمة رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، في كل أنحاء العالم, بحمد الله تعالى.

وبقدر ما استبشر الصالحون والأخيار بهذه العودة العامة للدين، والتمسك بحبل الله المتين بقدر ما أغاضت الصحوة قلوب الكافرين والمنافقين، فقالوا: نزوة عما قليل تزول، أو تيار سيذهب ويحول، وسعوا في تثبيط شبابها ولمز شيوخها، وتشويه سيرتها ومسيرها، وأصبح انتشار ركاب الإيمان غصة في حلوق الشانئين، ومشكلة تؤرق الظالمين, إلا أن الله غالب على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فقامت على سوقها واجتازت الحدود وتخطت السدود، وأصبحت هماً حقيقياً وخصماً صعب المراس لأعاديها، ولا خوف عليها فلديها من الأصالة والوعد الإلهي بالتمكين ما يؤهلها للبقاء بل للغلبة، وإنما الخطر المحدق، والهم المقلق والخوف منها عليها, ومن شمالها على يمينها.

أيها المسلمون، إن الإسلام كما يرزأ بأعدائه وشانئيه فإنه يرزأ أحياناً بأبنائه ومحبيه، وذلك إذا جفوا الصراط الأقوم، وحادوا عن السبيل الأهدى، فإليكم يا شباب الإسلام ممن انتظرتهم الأمة عقوداً في غفوتها، فطلعوا نجوماً زهراً في صحوتها، إليكم همسات مصحوبة بدعوات، وكلمات بالحب مقرنات, من فؤاد أقضه ما يرى من تجاوزات ومخالفات مما يمكن أن يعيق الخطا ويفرح العدا، ويجعل بأس المسلمين بينهم.

نقف مع الشباب وقفة أثارها وأجاشها وهيج شجونها ما أفرزته الأزمان المتأخرة من اختلاف في المناهج والرؤى واجتهاد من غير أهله وأحكام ورؤى غير واضحة، يذكي ذلك تقصير في الاستمداد من العلم الشرعي والعلماء وسعار من المستفزين لهم بفكرهم أوعملهم أو تسلطهم في ميدان الفسق أو الفكر المنحرف, إضافة إلى تسلط الأعداء واحتلال الأراضي ونهب الثروات, مما أفرز ردة فعل لم تضبط في بعض الأحيان بميزان العلم والعقل.

شباب الإسلام، إننا نرى أن الفصل في قضايا الشعوب ومعالجة الشؤون المصيرية للأمم عند أهل الأرض قاطبة تكون من اختصاص علمائها وشأن كهولها, ممن عركتهم الحياة وحنكتهم التجارب.

وفي غزوة بدر قال النبي لأصحابه: ((أشيروا علي أيها الناس)) فقام أبو بكر فتكلم, ثم قام عمر فتكلم, ثم قام المقداد بن عمرو فتكلم, ثم قام سيد الأنصار سعد بن معاذ فتكلم رضي الله عنهم أجمعين(1)[1]. مع أن في الصحابة شباباً يدكون الجبال بعلمهم وفروسيتهم وفضلهم.

لكن ذلك توارى لدينا في واقعنا المعاصر فأصبح الحديث عن تلك القضايا ومعالجة تلك الشؤون كلأً مباحاً للشبان والشيب والعالم والجاهل, بل تجد من يتقحم في مسائل لو عرضت للفاروق لجمع لها أهل بدر, وأصبح الحديث عن القضايا الشرعية ومصائر الأمة ميداناً للعوام في الشريعة والصحافيين, وقد قال النبي في الاصطفاف للصلاة: ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى))(2)[2].

فالقضايا الكبرى كاستعداء بعض الأمم وجر الأمة إلى مواجهات غير متكافئة وتحديد ساح المعارك كل ذلك مما يجب أن تقف عنده جرأة الشباب وإقدامهم, وينتهي دونها بحثهم واجتهادهم, ويكلوا الأمر فيها للعلماء الربانيين الذين شابت لحاهم في الإسلام, وهم بعد ذلك معذورون أمام الله كما يعذرون في التاريخ.

نعم التاريخ الذي نقل إلينا أن إيقاف زحف التتر كان بتوجيه وحكمة العلماء الربانيين وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فاقرؤوا التاريخ.

لقد آن للأمة أن تقتنع أن الحديث في المصائب والبث في القضايا الكبرى ليس كل أحد, فليس بالضرورة لمن برع في فن الوعظ والتأثير مثلاً أن يحسن الخوض في تلك الشؤون, وليس لمن أكرمه الله في البلاء في دروب الجهاد أن يحتكر توجيه الأمة في هذه القضايا.

إننا كما نذود عن تلك القضايا الجاهلين بالدين الكاشحين عنه والشانئين أهله فإننا أيضاً نذود المحبين له الراغبين في نصرته إذا توارى العلم والحلم خلف حجب من العواطف وقلة التجارب إذا نأت عن الموقف الشرعي الصحيح, وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]. وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].

شباب الإسلام، أبناءه ومحبيه، إن شريعة الإسلام كما جاءت بالسيف والرمح فقد جاءت بالرفق والنصح، وكما جاءت بمنازلة العدو فقد جاءت بالصبر على بلائه والكف عن إيذاءه ليس لذاته ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين في مواطن تعمل فيها الأدلة ويعرفها الراسخون في العلم.

ولقد اقتيد أبو جندل رضي الله عنه يرسف في قيوده يسوقه مشرك من أمام النبي وهو يصيح: أأرد أفتن. وأطيب الخلق يرى ويصبر؛ لأنه يعلم أن العاقبة خير, وهو ما حصل كما في صحيح البخاري.

وقبل ذلك كان الإسلام في فترته الأولى حين بدأ يشب ويترعرع بين الحجر ودار ابن الأرقم كان أتباعه القلة يتعرضون للأذى والبطش ولم يأمر أحد منهم بالرد, وإنما بالصبر فكانت الخيرة في اتباع هذا الأمر حتى حمد الصحابة عاقبتهم وقويت شوكتهم.

إن مراعاة حال المسلمين قوة وضعفاً قدرة وعجزاً ظهوراً وانحساراً معتبرة في جريان الأحكام أو النهي والإلزام والتأثيم وعدمه, ونحن بحاجة إلى إعداد وبناء, وصبر ودعاء, ودعوة أقوى والتجاء.

وأمام الشباب كثير من الواجبات والمسؤوليات في تسلسل تقتضيه السنن الربانية وتوجيه النصوص الشرعية, حتى تستعيد الأمة صدارتها, وتأخذ مكانها الريادي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [غافر:77].



 أيها المسلمون، دعوة إلى شباب الأمة وعماد مستقبلها, ياغرة في جبين الدهر, ويادرة في جبين الأمة, دعوة صادقة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح, دعوة إلى العلم الشرعي وإلى العلماء الربانيين.

إن وجود المثيرات واستفزاز الظالمين مع الحمية والغيرة للدين ليست عذراً لمخالفة الشريعة أو الخروج عن السنة في معالجة الأحداث والقضايا, إن الله تعالى تعبدنا باتباع شريعته وسنته لا باتباع الهوى والاجتهاد المخالف للنص، وفي صلح الحديبية كما في البخاري لما عاهد النبي كفار مكة على أمور منها: أن يخرج من غير عمرة إلا في العام القابل, وأن يرد من أتاه مسلماً من مكة إلى أهل مكة, وأن لا يردوا من أتاهم مرتداً, فلم يعجب ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقال للنبي : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! فلم نعطِ الدنية في ديننا, وجادل في ذلك, ثم ذهب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له مثل ذلك, حتى قال له أبو بكر: إنه لرسول الله وليس يعصي ربه, وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فو الله إنه على الحق، إلى أن تبينت العاقبة أن الخير كله كان فيما أمضاه النبي قال عمر بعد ذلك: فعملت لذلك أعمالا، أي: من الصالحات(3)[1]، لعل الله أن يكفر عن مجادلته تلك.

إذن لا مجال للاجتهاد مع النص ولو كان في ذلك خذل في الظاهر أو ألمٌ في الباطل، فإن الخير كل الخير في اتباع الدليل واطراح هوى النفوس.

أيها المسلمون، وإذا غاب العلم الشرعي أو غيِّب تحولت الطاقات إلى كوارث, ولست مدعياً أن ما ذكرته السبب الوحيد فيما ذكر, ولكن الإيراد للتنبيه على عظم وأهمية مرتبة العلم الشرعي في التأثير في المواقف.

ولما جادل ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالعلم رجع منهم ثلاثة آلاف في موقف واحد.

وهاكم رعاكم الله قصة يتجلى فيها موقف العلم إزاء العاطفة رواها البخاري رحمه الله, وذلك عندما توفي النبي وماج الناس بين مصدق ومكذب, والعاطفة تقتضي الرغبة في عدم التصديق حتى قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد يهدد ويتوعد من يقول إن الرسول قد مات, وذلك لهول الفاجعة وعظم المصيبة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لأكن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشرا إلا يتلوها، قال عمر: والله ما هو ألا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي, وحتى أهويت على الأرض حينما سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات، رواه البخاري(4)[2].

قال ابن حجر: "في الحديث قوة جأش أبي بكر وكثرة علمه، وانظر كيف سارع عمر بالرجوع وتخلى عن تلك العاطفة عندما بلغه النص الشرعي الفاصل".

__________

(1) أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779).

(2) أخرجه مسلم في الصلاة (432).

(3) أخرجه البخاري في الشروط، باب: الشروط في الجهاد ... (2734)، ومسلم في الجهاد والسير (1785).

(4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: مرض النبي ووفاته (4454).

(1/2846)

0 التعليقات:

إرسال تعليق