الأحد، 29 مارس 2015

شرح حديث أبي ذر القدسي

 

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 إنَّ من فضل الله علينا وكرمه وجوده ما أخبرنا به نبيّنا في ذلكم الحديث القدسي الذي رواه نبيُّنا عن ربّنا جلَّ جلاله. حديث عظيمٌ ابتُدئ بتنزيه الله عن الظلم، وخُتم بكمال عدلِ الله الذي يستبين للخلائق في أعظم موقفٍ عظيم يومَ وقوفِهم بين يدَي ربّهم. حديثٌ إذا تأمَّله المؤمن وجد أنّه حديث يملأ قلبَ المؤمن يقينًا بالله وثِقة بالله واعتمادًا على الله، ويعلِّق رجاءَه وأملَه بالله وحدَه. حديثٌ يبيِّن الله فيه كمالَ غِناه عن خلقه وكمالَ افتقار الخلق إليه، يبيِّن فيه ربّنا جلّ وعلا أنّ طاعاتِ العباد منفعتُها لأنفسهم، وأنّ ضررَ المعاصي يعود عليهم، فلا تزيد طاعاتهم في ملك الله، ولا تنقص معاصيهم من ملك الله. حديثٌ فيه بشرى للتائبين وتحذير للمعرضين، فسبحان الحكيم العليم.

روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، عن رسول الله فيما يرويه عن ربّه تعالى أنّه قال: ((يا عبادي، إنّي حرّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا. يا عبادي، كلّكم ضالّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم. يا عبادي، كلّكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعِمكم. يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخرَكم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلبِ رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلاًّ مسألتَه ما نقصَ ذلك مِن ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخِل البحر. يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصِيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه))(1)[1].

 ما أعظمَها من جُمل، وما أعظمَ فوائدَها، فالظلمُ الذي هو وَضع الشيء في غير موضعِه نقصٌ في حقّ البشر، والله جلّ وعلا منزَّه عن العيوب والنقائص، مع قدرتِه على ذلك لكنّه جلّ وعلا حرَّمه على نفسه، وأوجب على نفسِه العدلَ: ((إنّي حرمتُ الظلمَ على نفسي))، والله يقول لنا: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، ويقول جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، ويقول: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الأعراف:160]، ويقول: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فحاشاه ظلمَ العباد، ويقول: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه:112]. فهو جلّ وعلا أعدلُ العادلين، والظلم غيرُ لائق به، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وفي الكتاب الذي كتبه ربّنا فوقَ العرش: ((إنّ رحمتي سبقت غضبي))(2)[2].

وحرّم الظلمَ بين العباد، وجعله بينهم محرّمًا، والظلمُ أعظمه الشرك بالله بعبادةِ غيره، فإنّ هذا أعظمُ الظلم إذ وُضِعت العبادة لغير مستحقِّها، وظلمُ العبد لنفسِه بانتهاكِه ما حرَّم الله عليه أو ترك ما أوجب الله عليه، فإنّ هذا مِن ظلم العبد لنفسه بتركِ واجب أو بفعل محرم، فهذا ظلمٌ منه لنفسه، وظلم العباد فيما بينهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي الحديث: ((اتّقوا الظلمَ، فإنّ الظلمَ ظلمات يوم القيامة))(3)[3]، وفيه: ((إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِته))، ثم تلا قوله تعالى: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ [هود:102](4)[4].

ومظالمُ العباد يومَ القيامة يُقتصّ من الظالمِ لمن ظلمه، حتّى إذا لم يبقَ من حسناتِه شيء أخذَ مِن سيّئات مَن ظلمهم فحُملت عليه ثمّ طرِح في النار، يقول : ((أتدرون من المفلس فيكم؟)) قالوا: المفلسُ فينا من لا دينارَ له ولا متاع، قال: ((ولكنّ المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمالٍ أمثال الجبال، يأتي وقد ضرَب هذا وشتمَ هذا وسفك دمَ هذا وأكلَ مالَ هذا، فيأخذ هذا من حسناتِه، ويأخذ هذا من حسناتِه، فإن قضي ما عليه وإلاّ أخِذ من سيّئاتهم فطُرحت عليه ثمّ طرح في النّار))(5)[5]. ونهانا ربّنا بقوله: ((فلا تظالموا)) لا يظلِم بعضكم بعضًا في دم أو مالٍ أو عِرض، وفي الحديث: ((من اقتطَع قيدَ شِبر من أرضٍ طُوِّقه يومَ القيامة من سَبع أرضين))(6)[6].

وأخبرنا تعالى أنّ هداية قلوبنا بيده جلّ وعلا، يهدي من يشاء بفضله، ويضلّ من يشاء بعدله، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، قال تعالى: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178]، فهو يهدي من يشاء فضلا وكرمًا، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:83]، فاسألِ الله الهداية، فهو القادر عليها، يهدي قلبَ من يشاء فيحبّ الخيرَ ويألفه، ويحول بين قلبِ من يشاء، فينصرف عن الخير فلا يقبَله.

وكلُّ ما بِنا من خير فمن الله فضلا وكرمًا وجودًا، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت:60]. فطعامنا وكسوتنا كلّها من الله فضلا علينا، فإن شاءَ تفضّل، ولو أراد غيرَ ذلك لم يمكنكَ الحصولُ على أيِّ شيء، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ.

الرسلُ وأتباعهم وظيفتُهم هداية التوضيح والبيان، وأمّا قبول الحقّ من عدمِه فالأمرُ بيد الله، يقول الله لنبيّه في شأن عمّه أبي طالب لمّا لم يقبل الهدى: إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء [القصص:56].

وأخبرنا ربّنا أنّنا نخطئ في ليلنا ونهارنا، فالعبادُ مهما يكن حالهم فالأخطاءُ صادرة منّا، قوليّة أو فعليّة، والمعصوم من عصَم الله، نخطئ في ليلنا ونهارنا، فكم أخطاء منّا ننساها ونتجاهلها، والله محيط بها وعالمٌ بها، ولكنّه تعالى جعل لنا ملجأً في محوِ الذنوب والخطايا أن نستغفرَه ونتوبَ إليه: ((يا عبادي، إنّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم))، قال تعالى: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. مهما عظُم الذنب، ومهما كثرت الخطايا وتجاوز الحدود، إذا تُبتَ إلى الله منها بإقلاعِك عن الخطأ وعزمك أن لا تعودَ وندمِك على الماضي فستجدُ الله توّابًا رحيمًا، يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، وهو يحبّ من عبده أن يتوبَ إليه، وهو يفرَح بتوبة عبده وإنابتِه، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221].

ويبيّن لنا تعالى أنَّ العبادَ لن يستطيعوا أن يلحِقوا به ضررًا، ولا أن يوصِلوا نفعًا، فهو غنيّ عنهم، وإنّما ضرر الأمر إليهم، فالله غنيّ حميد، لا يستطيع العباد أن يوصِلوا إليه ضررًا أو يجلبوا نفعًا، فهو الغنيّ الحميد، والكلُّ عبيدٌ له وخاضعون لقدرته.

وأخبرنا تعالى أنَّ العبادَ كلَّهم لو أطاعوه وكانوا على قلب رجلٍ واحد في الطاعة والاستقامة فإنّ ذلك لا يزيد في ملك الله شيئًا، ولو اتّفقوا على المعصية ما نقص ذلك من ملكه شيئًا، فلا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضرّه معصية العاصي، إنّما ضرر المعاصي على أهلها، ومنفعة الطائعين لأنفسهم، مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].

وأخبرنا تعالى عن كمال جودِه وسعةِ عطائه وإحسانه، وأنَّ الخلق كلَّهم لو اجتمعوا في صعيد واحد وكلٌّ سأل مسألةً غير مسألة الآخر أعطي كلاًّ مرادَه، فإنّ ملك الله لا ينقصه ذلك، ((يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، ألم تروا إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟!))(7)[7]، يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29]، بل هو جلّ وعلا يحبّ من عباده أن يسألوه، يحبّ منهم أن يطلبوه ويلتجئوا إليه، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. كلّما دعوتَ ربَّك وكلّما سألته حاجة وكلّما اضطررتَ إليه أدناك وقرَّبك وأعطاك وحقَّق لك آمالَك، وكلّما تكبّرت عن دعائِه وأعرضتَ عن سؤاله أبغضَك وعاقبك، وابنُ آدم كلَّما احتجتَ إليه تكبّر عليك وبخل، وكلّما استغنيتَ عنه قرُب منك وأحبَّك، فلا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الفضلُ فضله والعطاء عطاؤه، يحبّ من عباده أن يسألوه دائمًا، يحبّ من عباده أن يتوبوا إليه، يحبّ من عباده أن يستغفروه، يحبّ من عباده أن يلتجئوا إليه، يحبّ من عباده أن يفوِّضوا إليه أمرهم، ويشكوا إليه بثّهم وحزنَهم، فإنّه أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.

ثمّ يخبرنا تعالى أنَّ أعمالَنا كلَّها محصاة علينا، وأنّه جلّ وعلا محصٍ علينا كلَّ أعمالنا، قليلها وكثيرها، وسيجازي المحسنين بالإحسان، نسأله تعالى أن يمنَّ علينا بالتوبة النصوح، وأن يرزقَنا الالتجاء والاضطرارَ إليه، وأن يصلح قلوبَنا وأعمالنا، إنّه على كل شيء قدير.




يقول الله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه)).

 ما خُلِقتَ عبثًا، خُلقتَ لعبادة الله، وما تركتَ سُدى، بل أُمرت ونُهيت، وأخبر الله جلّ وعلا عن كمال علمِه بأعمالنا دقيقها وجليلها، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19].

علِم ما العباد الله عاملون قبلَ أن يخلقَهم، وكتب ذلك قبلَ خلق الخلائق بخمسين ألف سنة، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

 إنّنا محاطون أيضًا بأمور، أوّلا: أخبرنا الله أنّ هناك كرامًا كاتبين، يعلمون أعمالنا ويسجِّلون أفعالنا، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

فيحاسب الله العبادَ يوم القيامة، ويوقَفون على حقائق أعمالهم، فإن أرادوا الإنكارَ والتكذيب فإنَّ الله يقول: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، ويقول الله عنهم: وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَاسِرِينَ [فصلت:21-23]. فأعمالنا في الدنيا محصاة علينا، وسنوقف عليها يومَ القيامة، وسوف تطير الكتب إمّا باليمين أو بالشّمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19، 20]، حتى الكافر يُجزَى في الدنيا عن حسناته ليلقى الله يومَ القيامة ولا حسنةَ له، ولا يدخل النارَ أحد إلا وهو موقِن بأنّ النار أولى بِه من الجنّة لكمال عدلِ الله، ولما يرى الخلائق من كمال عدل الله بخلقه وعِظم حسابِه لهم، مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان:28]، ((ما منّا أحد إلا سيكلّمه ربّه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النّار، فاتّقوا الله ولو بشقّ تمرة))(8)[1].

يومَ الحساب والجزاء يوم عظيم، يشهَد فيه الخلائق أعمالَهم خيرها وشرَّها، ذلك اليوم العظيم، يومَ تبلى السرائر، يومَ يُبعث ما في القبور ويحصَّل ما في الصدور، وتنشر صحائف الأعمال، والخزي العظيمُ خزي ذلك اليوم، حينما تبدو سرائر العباد، وتنشر أعمالهم، نسأل الله الثبات والاستقامة.

فعلى العبدِ أن يحاسبَ نفسَه، فعسى أن يوفَّق لتدارك الأخطاء في ظلمه لنفسِه، أو في ظلمه لعباد الله، ليلقى اللهَ يوم القيامة خفيفَ الحساب، وذلك يسير على من يسّره الله عليه. فلنأخذ حذرَنا، ولنستعدَّ للحساب يومَ القيامة، فذاك الحساب العظيم بينَ يدَي ربّ العالمين.



اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...

__________

(1) أخرجه مسلم في البر (2577).

(2) أخرجه البخاري في التوحيد (7422، 7453، 7554)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3) أخرجه مسلم في البر (2578) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4) أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(5) أخرجه ومسلم في البر (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(6) أخرجه البخاري في المظالم (2453)، ومسلم في المساقاة (1612) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(7) أخرجه البخاري في التوحيد (7419)، ومسلم في الزكاة (993) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(8) أخرجه البخاري في التوحيد (7512)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه بنحوه.

(1/2795)


0 التعليقات:

إرسال تعليق