الاثنين، 16 مارس 2015

محبة الله جل وعلا


الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.


  جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله : ((ما أعددت لها)) فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها من كثير صلاةٍ ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال : ((فأنت مع من أحببت))(1)[1].

وفي رواية قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : ((فإنك مع من أحببت))(2)[2].

وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: ((فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم))(3)[3].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه المحبة العظيمة: "هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص الآملون, وإلى أملها شمّر السابقون, وعليها تفان المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معرفة محبوبهم أوفر نصيبٍ" انتهى من كلامه رحمه الله.

معاشر المسلمين، ولنيل منزلة هذه المحبة, وللفوز بهذه السعادة ذكر العلماء أسباباً لتحصيلها وطرقاً كثيرة للفوز بها.

أصول هذه الأسباب وقوائد هذه الطرق مردها ما تتشنف أسماعنا به وما تصغي آذاننا إليه، أول هذه الأصول:

قراءة القرآن بتدبرٍ مع الفهم لمعانيه والتعقل لأسراره وحكمه، ولهذا فإن رجلاً من أصحاب نبينا استجلب محبة الله بتلاوة صورة الإخلاص, فظلّ يرددها في صلواته، فلما سُئل عن ذلك قال: إنها صفة الرحمن, وأنا أحبُ أن أقرأها، فقال النبي : ((فأخبروه أن الله يحبه)) رواه البخاري(4)[4].

الأصل الثاني عباد الله، التقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل, بعد الحرص العظيم على الالتزام بالواجبات والوقوف الجازم عند الحدود والفرائض, فرسولنا يحكي عن رب العزة جل وعلا أنه قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري(5)[5].

وثالث هذه الأصول معاشر المؤمنين، دوام ذكر الله جل وعلا على كل حالٍ ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربنا جل وعلا يقول: فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ونبينا يقول: ((إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه)) رواه ابن ماجه بسند صحيح(6)[6].

ويقول المصطفي وهو سيد الذاكرين: ((سبق المفردون))، قالوا: يا رسول الله, ومن المفردون؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) رواه مسلم(7)[7].

ورابع هذه الأصول إيثار محاب الله جل وعلا ومحاب رسوله على محاب النفس عند غلبات الهوى, والتسنم إلى محافه عز وجل وإن صعب المرتقى, فيؤثر العبد رضا الرحمن عز وجل على رضا غيره, وإن عظمت فيه المحن, وثقلت فيه المؤن, وضعف عنه الطول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جل وعلا على غيره هو عن أن يريد العبد ويفعل فيه مرضاته, ولو أغضب الخلق, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزم منهم, وأعلاها لسيد الخلق محمد " انتهى.

وذلك يا عباد الله لا يكون ولا يتحقق إلا بثلاثة أمور:

أولها: قهر هوى النفس، وثانيها: مخالفة الهوى، وثالثها: مجاهدة الشيطان وأوليائه.

وخامس هذه الأصول أيها المسلمون، أن يطالع القلب أسماء الله وصفاته, وأن يشاهدها ويعرفها, ويتقلب في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله التي أثبتها الوحيان كما اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان اعتقاداً كما جاءت في النصوص من غير تحريف ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل أحبه الله جل وعلا وأكرمه وأرضاه, فربنا جل وعلا يقول مرغباً منادياً عباده: وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وثبت عن المصطفى أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (8)[8].

سادس هذه الأصول إخوة الإسلام، مشاهدة بر الله جل وعلا بعباده, وإحسانه عليهم, والتعرف على آلائه ونعمه الظاهرة والباطنة, فإنها داعية إلى محبته سبحانه.

فالإنعام والبر واللطف معاني تسترق مشاعر الإنسان, وتستولي على أحاسيسه, وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة, ويوصل إليه المعروف, ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله, هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح.

فالمحبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر هو الله جل وعلا, والمستحق للمحبة كلها هو سبحانه وبحمده, وغيره فمحبوب فيه عز وجل, والإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواساه وأعانه على جميع أغراضه وأهدافه, إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله جل وعلا, وأن أنواع الإحسان لا يحيط بها حصرٌ: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [الأنعام:34].

وحينئذ إذا انطلق المسلم من هذا المنطلق فإنه حري بالتوفيق للقيام بواجب الشكر لله جل وعلا باللسان والقلب والعمل, ويفوز حينئذ بكل خير, ويسعد بكل عاقبة حميدة, فربنا جل وعلا وعد بالمزيد لمن شكره: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، ونبينا يقول: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, وليس ذلك إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم(9)[9]، وفي الحديث أيضاً: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها, ويشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم(10)[10].

سابع هذه الأصول, وهو من أعجبها وأعظمها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله عز وجل, والتذلل له سبحانه, والخشوع لعظمته بالقول والبدن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول عن خير الخلق: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا [الأنبياء:90].

ثامن هذه الأصول، تحين وقف النزول الإلهي لمناجاته جل وعلا وتلاوة كلامه والتأدب بآداب العبودية بين يديه, ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة النصوح إليه سبحانه, فربنا جل وعلا يقول عن صفوة الخلق: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فأصحاب الليل هم أشرف أهل المحبة؛ لأن قيامهم في الليل بين يدي الله جل وعلا يجمع لهم جل أسباب المحبة وأصولها, ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمدٍ ويقول له: ((واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل, وعزه استغناؤه عن الناس)) حديث صحيح(11)[11].

يقول الحسن البصري: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل, فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. نسأل الله من فضله.

وتاسع هذه الأصول: محبة الصالحين والسعي من القرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ, ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ)) (12)[12]. وفي حديث صحيح عن النبي : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (13)[13].

عباد الله، وآخر هذه الأصول البعد عن كل سبب وطريق يحول بين القلب وبين الله جل وعلا, وذلك لا يتحقق ولا يكون إلا ببعد المسلمين والمؤمنين وبعد مجتمعاتهم عن أنواع السيئات وألوان المحرمات وصور الموبقات، فالقلوب إذا فسدت فلن تجد فائدة فيما يصلحها من شؤون دنياها, ولن تجد نفعاً أو كسباً في أخراها يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].


أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية ربنا جل وعلا في الأولين والآخرين.

معاشر المسلمين، إدراك محبة الله للعبد منزلة عظيمة ومنة جسيمة وسعادة أبدية وحياة طيبة زكية, فعلى العبد الموفق السعي لنيلها بكل طريقٍ محمدي ونهج نبوي من سيرة وسنة المصطفى , صحة في الاعتقاد وسلامة في التعبد وإحساناً في الأخلاق، وجملة ذلك في تحقيق الإيمان الصحيح، ومزاولة التقوى لله جل وعلا سراً وجهراً: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].

ألا وإن من مقتضيات محبة الله جل وعلا الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي المصطفى، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن جميع الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

__________

(1) أخرجه البخاري في الآداب، باب علامة حب الله عز وجل (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

(2) أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

(3) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).

(4) أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (7375). ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة قل هو الله أحد (813). كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.

(5) أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502).

(6) أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى لا تحرك به لسانك ، و ابن ماجة في الأدب، باب فضل الذكر (3792). وأحمد (10585).

(7) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (2676).

(8) أخرجه البخاري في التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا (7392). ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677). كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(9) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999). عن صهيب رضي الله عنه.

(10) 10] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734). عن أنس بن مالك.

(11) 11] رواه الطبراني في الأوسط(4 / 306 )، والحاكم في المستدرك (4/360)، وصححه . وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/243).

(12) 12] أخرجه أحمد (21525)، ومالك في الموطأ، في كتاب الجامع، باب ما جاء في المتحابين في الله (1779). وابن حبان في صحيحه (2/335). والضياء في المختارة(8/306).

(13) 13] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/87)، والطيالسي في مسنده (1/101).

(1/2850)

0 التعليقات:

إرسال تعليق