الأحد، 29 مارس 2015

الثباتَ الثباتَ أمام ملتطَم العاديات ومستنقَع المتغيّرات

 

الحمد لله ذي القوّة القادِرة والعزّة القاهرة، أسبَغ علينا نِعمَه باطنة وظاهِرة، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والعِترة الطّاهرة.

  اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوُثقى، واعلَموا أنّ أجسادَكم على حرِّ النّار لا تقوى، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْء مّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:28، 29]. وتذكَّروا ـ غفر الله لي ولكم ـ أنّكم في دار عملٍ تُختَبرون، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأروا اللهَ مِن أنفسكم خيرًا بِه تُجزَون، ففي غدٍ حسابٌ وجزاء وجنّة أو نار. فارحمِ اللهمَّ قلوبًا لك قصدَت، وأنفسًا لرحمتِك رجَب، وافتَح علينا مِن بركاتك ورحمتِك وفضلِك ورزقك، واغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دقَّها وجِلَّها، لا إله إلاّ أنت، سبحانك إنّا كنّا من الظالمين.

 في مسيرةِ السّائرين إلى الله والحاثِّين خطاهم على منهاجه وسبيل هداه والدّاعين إلى دينِه القويم والتمسُّك بصراطه المستقيم، في سَيرهم ومسيرهم عقباتٌ كأدَاء وخصومٌ ألدَّاء ولأواء وأدواء، لا يخلص منها إلاّ مَن أراد الله له الثّبات.

وإنّ المتأمِّل في التّاريخ يرى في فتراتٍ منه غلبةَ الإسلام وظهورَه وعزَّ المسلمين، وفي فترات أخرى يرَى انحسارَ مدّه وهيمنةَ غير المسلمين، ويرى ضَعفًا داخِليًّا وهوانًا خارجيًّا، وتداعيًا من الأمم، وتسلُّطًا من الكفّار، كما هو واقعُ هذه الحِقُبة من الزّمن، حتى إنّه يكاد يتسلَّل اليأس والإحباطُ إلى نفوس بعض المسلمين، ويتساءل الحائر: ألم يكتُبِ الله العزّة والنصرَ لهذه الأمّة، والصّغار والذّلّة على الكافرين؟! وينسَى هذا المتسائلُ قولَ الله عزّ وجلّ: الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا [الملك:2] وما يماثِلها من الآيات الكريمة التي تبيِّن أنَّ هذه الدار دارُ ابتلاء وامتحانٍ للمؤمنين، وليست دارَ جزاء وخلود، وأنَّ الأيّام دول والدّهر قُلَّب، وأنّ الفوزَ والفلاح ليس بتحصيل الرّخاء فحسب، وإنّما عملُك في الشدّة والرخاء والمنشَط والمكرَه، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20]، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَاكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى: "إنّ في تمكين أهلِ الكفر والفسوق إيصالَ أولياء الله إلى الكمال الذي يحصُل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادِهم والإنكار عليهم والموالاةِ فيه والمعاداة فيه وبذلِ نفوسهم وقواهم له... إلى أن قال: فلولا خلقُ الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرِج خاصَّ العبوديّة من عبيده، ولم يحصل لهم عبوديّةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبِّ فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له" انتهى كلامه رحمه الله(1)[1].

 وإذا كان قدَّر الله لجيل من الأمّة أن يعيشوا في مرحلةٍ مِن ضعفها وفترة من فتورها وظهور غيرِها عليها فإنَّ المتعيِّن التعلّقُ بما يثبِّتها على دينها؛ لأنّ الإسلام في زمان قوَّته كفيلٌ بذاتِه في ثباتِ أهله، أمّا في زمن الانكسار وعهدِ الانحدار فهذا هو زمن الابتلاء الذي يميِّز الله فيه الخبيثَ من الطيِّب والصادِقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق، وكلَّما زادَ الضّعف وكثرت الفِتن كلّما استطال عُنق النّفاق وظهر المنافقون، وربَّما جاهَروا بما في قلوبِهم وأظهروا خفَايا صدورِهم.

 إنّ من أسباب الثّبات على دين الله تجديدَ الإيمان بهذا الدين وملْءَ القلب منه باليقين، نعَم اليقينُ التّام بصدق وأحقّيّة ما نحن عليه، والإيمان الجازم بصواب ما نعتقِده، فمَن امتلأ قلبُه إيمانًا بعقيدتِه وقناعةً بصحّة منهجه لم تزعزِعه الخطوب ولم تُثنِه الكروب، وهذا هو موقِف النبيّ في دعوتِه حين حارَبه الأقارب قبل الأباعِد، وطورِد وشرِّد، وحوصِر وقوطِع، وطُلِب للقتل، واجتمَع عليه الأحزاب، لكن ذلك لم يثنِه عن مرادِه حتّى بلَّغ دينَ الله.

وكذلك كان أصحابُه رضوان الله عليهم، قُيِّدوا بالحديد، وقُطِّعت أجسادُ بعضهم، وصُلب آخرون، وأوذوا، ومسَّتهم البأساء والضرّاء وزلزِلوا، فلم يزِدهم ذلك إلاّ صلابةً في دينِهم وثباتًا على منهجهم وصِدقًا في سيرهم إلى الله، حتّى لقوا ربَّهم على ذلك، مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلا [الأحزاب:23]، وهذا نتاج الإيمان واليقين والقناعة والتّصديق والثقة بما هم عليه.

وكذلك كان السّلف الصالح بعدَهم، ويكفيك مثالا ثباتُ الإمام أحمدَ رحمه الله عند الفتنة، وما ذاك إلاّ للعقيدة الرّاسخة بما يؤمن به مِن صواب، أمّا أهلُ الخَوَر والشكّ وضعفِ الإيمان فهُم الذين إذا أصابَتهم مصيبة رجَعوا على دينهم باللاّئمة، يقلِّبون بحَيرةٍ في ثوابته، ولو كانوا يعقلون لتفقّدوا أنفسَهم كيفَ يَدينون، ولعلِموا أنَّ دينَ الله كامل، وأن لا صلاحَ حقيقةً بغيرة في كلّ زمان ومكان وفي كلّ الظروف بلا استثناء ولا تجزئة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

إلاّ أنَّ النّقصَ يحصل من أحدِ أمرين، إمّا جهل وعجزٌ عن تطبيقه التطبيقَ الصّحيح، أو لأجل شهوةٍ وهوًى يمنعان إرادةَ التّطبيق في أيّ تفاصيل الحياة مهما صغُرت أو كبرت، وعلى هذين المركبين الجهلِ والهوى أسرج بعض المنافقين بِغالَهم، فشدّوا على الإسلامِ وأهله، وأظهروا مكنونَ صدورهم وما كانت تُخفي قلوبُهم، في وقتٍ أحوَج ما تكون فيه الأمّة إلى تثبيتِها على دينها والمحافظة على إسلامها وهويّتها وتماسكِها ووحدتِها. ومِن فضل الله تعالى على بلادِ الحرمين الشّريفين أن يُعلنَ قادتُها في كلّ نازلة وأزمَة تمسّكَهم بدين الإسلام الصّحيح ورفض المساومةِ عليه وعلى مبادئه وتقديم النّفس والنّفيس دونه.

 إنَّ المجتمعَ بجميع طبقاتِه بحاجةٍ إلى إعادة الاهتمام بتقرير أساسِ هذا الدّين مِن عقيدةٍ وتوحيد ودعوةٍ إلى تَبْصير الأمّة وتوحيدها بإرساد قضايا الإيمانِ بالله وشريعتِه، بعيدًا عن مظاهر الغلوّ والتطرّف أو التّساهل والتميُّع المفضي إلى الإرجاء أو بعضِ صورِ الإرجاء.

إنَّ ترسيخَ معاني الإيمان والاعتقاد واليقين والثّقة ينتجُ العملَ الصالح والولاء لهذا الدين والصبرَ عليه والثباتَ حتّى الممات مهما عصفت الفتنُ أو ادلهمّت الخطوب، ولقد مرّت بديار الإسلامِ أزمان شديدةٌ ونكبات عديدة، انتهت فيها الخلافة الرّاشدة وسقطت الدّولة الأمويّة والعباسيّة وغير ذلك، ومع كلِّ هذا فلم يورِث ذلك في نفوس المسلمين شكًّا في عقيدتِهم، ولم تدفعهم إلى التطلّع لما عند أعدائِهم من أفكارٍ ومبادئ وأساليبِ حياة وأنماط سلوك تُخالف شريعتَهم ويأباها دينُهم، ولم يرَوا الحقَّ إلاّ في دين الله عقيدةً وسلوكًا ونظامَ حياة، وهذا هو معنى الاستعلاء في قولِ الله عزّ وجلّ: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: أنّ العزّة والعلوّ بالإيمان والثّبات عليه، لا بالغلبةِ والظّهور.

أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].



 ومِن عوامل الثّبات على دين الله الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، والتمسّك بما فيهما، واتّباع هديِهما، وحسبُكم في ذلك قولُ النبيّ : ((تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدًا: كتاب الله وسنّتي))(2)[1]، وقول الله عزّ وجلّ: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا [النساء:59]، أي: الاحتكام إلى الكتاب والسنّة.

ويتبع هذا الأصلَ الاقتداءُ بسلفِ الأمّة الصّالحين مِن الصّحابة ومَن سار على نهجهم، وفي طليعتِهم الخلفاءُ الرّاشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أجمعين، ففي السّنن بسند صحيح: ((عليكُم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ))(3)[2].

يتلو ذلك الالتفافُ حولَ العلماء الصالحين والدّعاة الصادقين الذين عُرفوا بنصحِهم وسلامة منهجهم، فإنّهم ورثةُ الأنبياء ومصابيحُ الدُّجى، أهدى النّاسِ طريقًا وأقربُهم من الله توفيقًا، فاجعَل العلماءَ الربانيّين لك صَحبا ورفاقًا.

ومِن عواملِ الثّبات لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامهم واعتزالُ الفتنة، وهذه وصيّة النبيّ لحذيفةَ رضي الله عنه كما في الحديث المتّفق عليه(4)[3].

كما أنَّ التثبُّتَ في الأخبار والنّقل وتركَ الشائعات وهجرَ الخوضِ فيما لا يَعني مطلوب في كلّ وقت، وتعظم الحاجة لحفظِ اللّسان وصيانة السّمع والتثبّت في حالِ الفتنة، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكلّ ما سمع.

وأخيرًا من أسباب الثّبات دعاءُ الله وسؤالُه والإلحاح عليه بطلبِ الثّبات، فلا غنَى للعبد عن ربِّه، وفي الحديث الصحيح: إنّ أكثرَ دعاء النبيّ : ((يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، فقيل له في ذلك فقال: ((إنّه ليس آدميّ إلا وقلبُه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ))(5)[4].

ومِن ذلك أيضًا كثرةُ ذكر الله تعالى، فللذّكر أسرارٌ عجيبة، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

ثم صلّوا وسلِّموا على الهادي البشير والسراج المنير محمّد رسول الله، فقد أمركم الله تعالى بذلك في كتابه مبتدِئًا بنفسه العليّة، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الكرام أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


__________

(1) طريق الهجرتين (ص202).

(2) أخرجه مالك في الموطأ (1619) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الأسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).

(3) أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).

(4) أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847) عن حذيفة رضي الله عنه.

(5) أخرجه أبو داود الطيالسي (1/224)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/113)، والإمام أحمد (6/294)، والترمذي في الدعوات باب منه (3522) من حديث أم سلمة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم (1/706)، وله شواهد كثيرة، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2091).

(1/2796)


0 التعليقات:

إرسال تعليق