الثلاثاء، 24 مارس 2015

أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله


كل ما كان العبد أذل لله وأعظم افتقاراً إليه كان أقرب إليه وأعظم قدراً عنده وعند خلقه

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

أيها المسلمون، أسعد الخلق أعظمهم عبودية لله, وكل ما كان العبد أذل لله وأعظم افتقاراً إليه كان أقرب إليه وأعظم قدراً عنده وعند خلقه، والعبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقه، والله سبحانه هو الصمد الغني عما سواه, وكل ما سواه فقيرٌ إليه.

وذنوب العباد كثيرة ولا نجاة لهم منها إلا بمعونة الله وعفوه، وكثير من الكبائر القلبية من الرياء والكفر والحسد وترك التوكل قد يقع فيها المرء وهو لا يشعر بها، وقد يتورع عن بعض الصغائر الظاهرة وهو في غفلة عن هذه العظائم.

والأسباب المجردة تخذل المرء عن تحقيق مناه، وقد يطرق باباً يظن أن فيه نفعه فإذا هو ضرر محض، ولا ينجي من ذلك إلا التوكل على العزيز الرحيم؛ لذا عظم الله من شأن التوكل وجعله منزلة من منازل الدين, وقرنه بالعبادة في قوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وجعله سبباً لنيل محبته إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]، وجعله شرطاً لحصول الإيمان به وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:29].

مقام جليل القدر عظيم الأثر، فريضة من رب العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منعة من الشيطان، منزلته أوسع المنازل وأجمعها، أقوى السبل عند الله وأحبها، أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3].

والرسل أئمة المتوكلين وقدوتهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنه قال لقومه: إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال الخليل عليه السلام: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السلام: إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]، وقال يعقوب عليه السلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال رسل الله لأقوامهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال مؤمن آل فرعون: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

وفي مطلع النبوة والتنزيل أمرٌ بالتوكل وأنه يفتح المغلق اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:3]، وجعله الله صفة لأهل الإيمان يتميزون به عمن سواهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].

والشيطان لا سلطان له على عباد الله المتوكلين, قال عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].

والتوكل مانعٌ من عذاب الله كما قال سبحانه: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:28، 29].

وموجب لدخول الجنات كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59].

بل المتوكلون حقاً يدخلون جنة ربهم بغير حساب, كما وصفهم نبيهم بذلك في قوله: ((هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)) متفق عليه(1)[1].

وأوصى النبي ابن عباس بالتوكل وهو غلام صغير لتأصيل العقيدة في نفسه في بكور حياته فقال له: ((يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) رواه الترمذي(2)[2].

قال ابن القيم: "التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وإن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس".

في التوكل راحة البال, واستقرارٌ في الحال، ودفع كيد الأشرار، ومن أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم, وبه قطع الطمع عما في أيدي الناس.

سئل الإمام أحمد عن التوكل فقال: "هو قطع الاستشراف باليأس من الناس".

والتوكل على غير الله ظلم وامتهانٌ للنفس، وسؤال المخلوق للمخلوق سؤال من الفقير للفقير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي.

ومتى التفت القلب إلى غير الله وكله الله إلى من التفت إليه، وصار ذليلاً مخذولاً، قال : ((من تعلّق شيئاً وكل إليه)) رواه الترمذي(3)[3].

قال شيخ الإسلام: "ما رجى أحداً مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه"(4)[4], وكل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره, وهذا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ولا يحملنك عدم رجاء المخلوق على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال الأذى منهم, بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم, وكما أنك لا تخافهم فلا ترجوهم وارجو الله في الناس, ولا ترجوا الناس في الله.

أيها المسلمون، الأرزاق بيد الخلاّق فما كان لك منها أتاك على ضعفك، وما كان لغيرك لم تنله بقوتك، ورزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يرده عنك كراهية كاره، والرزق مقسوم لكل أحد من برٍ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عز وجل: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وقد ييسره الله لك بكسب وبغير كسب.

والناس يؤتون من قلة تحقيق التوكل, ومن وقوفهم مع الأسباب الظاهرة لقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير، قال عليه الصلاة والسلام: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) رواه أحمد(5)[5].

فلا تضيع زمانك بهمك بما ضُمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، قال حام الأصم: "لما علمت أن رزقي لم يأكله غيري أطمئن قلبي".

أيها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارها وهيئ للغايات أسبابها، والأمور الدنيا وزينتها قد يدرك منها المتواني ما يفوت المسافر، ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.

والالتفات للأسباب نقص في التوحيد, ومحو الأسبابِ أن تكون أسباب نقص في العقيدة، والإعراض عن الأسباب التي أمر بها قدح في الشرع، وعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على الأسباب.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل المتوكلين، ولم يخل بالأسباب فقد ظاهر بين درعين يوم أحد، واستأجر دليلاً يدله على طريق الهجرة، وحفر الخندق غزوة الأحزاب.

وحقيقة التوكل القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب, واعتقاد أنها بيده، فإن شاء منع اقتضاءها, وإن شاء جعلها مقتضية بضد أحكامها, وإن شاء قام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه.

والموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنه لا يهملها أو يبطلها بكل يكون قائماً بها ناظراً إلى مسببها سبحانه ومجرِيها، وإذا قوى التوكل وعظم الرجاء أذن الله بالفرج، ترك الخليل زوجته هاجر وابنها إسماعيل صغيراً رضيعاً بوادٍ لا حشيش فيه ولا أنيس ولا زرع حوله ولا ضرع توكلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايته، فإذا الصغيرُ يكون نبياً وصفه الله بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والأمر بها، والماء المبارك زمزم ثمرة من ثمار توكل الخليل عليه السلام.

ولما عظم البلاء ببني إسرائيل وتبعهم فرعون بجنوده, وأحاطوا بهم, وكان البحر أمامهم قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61], قال نبي الله موسى الواثق بنصر الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62], فأمره الله بضرب البحر فصار طريقاً يبساً, كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ٍالشعراء:63].

ويونس التقمة حوت في لجج البحر وظلمائه فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فنبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرداً في الخلاء.

وأم موسى ألقت ولدها موسى في اليم ثقة بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسول من أولي العزم المقربين.

ويعقوب قيل له إن ابنك أكله الذئب ففوض أمره إلى الله وناجاه, فرده عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.

ولما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال من مريم عليها السلام عظم التوكل على ذي العظمة والجلال, ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال, فأشارة إليه فقالوا لها: كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم:29]، فعندها أنطقه الله فقال: إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً [مريم:30].

ونبينا محمدٌ يتوارى مع صاحبه عن قومه في جبل أجرد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبه, فقال: يا رسول الله، والله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال الرسول وهو واثق بربه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما))(6)[6]، فأنزل الله تأييده ونصره وأيده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصل الأمن وتمت الهجرة وانطلقت الرسالة.

وإذا تكالبت عليك الأيام وأحاطت بك دوائر الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفع أكف الضراعة, وألقِ كنفك بين يدي الخلاق, وعلق رجاءك به, وفوض الأمر للرحيم، واقطع العلائق عن الخلائق، ونادِ العظيم, وتحرّ أوقات الإجابة كالسجود وآخر الليل.

وإذا قوي التوكل والرجاء وجُمع القلب في الدعاء لم يرد النداء أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [النمل:62].

فسلم الأمر لمالكه، والله عزيز لا يضل من استجار به, ولا يضيع من لاذ بجنابه.

وتفريج الكربات عند ثناء الكرب, واليسر مقترن بالعسر، وتعرف على ربك في الرخاء يعرفك في الشدة، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها الخليلان في الشدائد، ومن صدق توكله على الله في أصول شيء ناله ومن فوض أمره إليه كفاه ما أهمه، ومن حقق التوكل لم يكله إلى غيره, بل تولاه بنفسه وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وعلى قدرك حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه, فجالس ربك وحده مرجع شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك ما تريد".

وهو سبحانه القدير لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ [الشعراء:217-219].

قال إبراهيم الخواص: "ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله".

ومن تعلّق بغير الله أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وكماله, واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنصوص والتجارب".

وأرجح المكاسب الثقة بكفاية الله وحسن الظن به، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن ظن أنه ينال ما عند الله بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه, أو ظن أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو ظن أن من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه، أو ظن أنه إذا صدقه في التوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن بالله ظن السوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله, وعرف أسماءه وصفاته, وعرف موجب حكمته وحمده.

قال ابن القيم: "أكثر الخلق, بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه يستحق فوق ما شاءه الله له، ومن فتش في نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء, وليظن السوء بنفسه"(7)[7].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:8، 9].

أيها المسلمون، لا يستقيم توكل العبد حتى يصح توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيد يكون صحة التوكل، ومتى التفت العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخلق لم تسد فاقته، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.

والرضا والتوكل يكتنقان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكل التفويض, وإلقاء أمورك كلها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات", وكلما كان العبد لله أعرف كان توكله عليه أقوى، وقوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه.

ومن توكل على الله فلا يعجل بالفرج، فالله ذكر كفايته للمتوكل عليه, وربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فالله جعل لكل شيء قدراً ووقتاً، فلا يستعجل المتوكل, فيقول قد توكلت ودعوت فلم أرى شيئاً, إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3]، والله هو المتفرد بالاختيار والتدبير وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه, وهو أرحم به منه بنفسه.

__________

(1) أخرجه البخاري في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره.. (5705)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومسلم في الإيمان (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(2) في صفة القيامة والرقائق والورع، باب: منه (2516)، وكذا أحمد (4/409-410) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي : "حديث حسن صحيح". قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2043).

(3) في الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (3072)، وكذا أحمد (4/310)، والبيهقي في الكبرى (9/351)، والطبراني في الكبير (22/385)، من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه. قال الترمذي: "وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم".

(4) مجموع الفتاوى (10/257).

(5) في (1/30)، والترمذي في الزهد، باب: في التوكل على الله (2344)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوكل واليقين (4164). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (730)، والحاكم (4/318)، والضياء في المختارة (227، 228)، والحافظ في الفتح (11/306)، والألباني في الصحيحة (310).

(6) أخرجه البخاري في المناقب، باب: المهاجرين وفضلهم ومنهم أبو بكر (3653)، بنحوه، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، بنحوه من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

(7) زاد المعاد (3/235) بتصرف يسير.

(1/2831)

0 التعليقات:

إرسال تعليق