السبت، 14 مارس 2015

عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام

الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمتِه، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.

أمّا بعد:

 فإنّ الوصيّةَ المطروقةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوى الله سبحانه التي هي العزّ يومَ الذلّ، وهي النّجاة يومَ الهلاك، ما خاب من تمسّك بها، وما أفلحَ من ودّعها وقلاها، فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

أيّها النّاس، النّاظر في واقع كثير من المسلمين اليوم بعين بصيرته ليوقِنُ أنّه واقعٌ مؤرِّق، إذ أنّ صلتَهم بكتاب ربّهم يكتنِفها الهَجر والعقوق، بل ولربّما وصلَ الأمر إلى أبعدَ من ذلك، حتّى إنّ أحدَنا قد لا يُبعِد النّجعة لو قال: إنّ عِلل الأمم السّابقة قد تسلّلت إلى أمّة الإسلام لِواذا مِن حيث تشعر هِي أو لا تشعر، ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ قولَ الباري جلّ شأنه: وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78]، أي: لا يعلمون الكتابَ إلاّ تلاوةً وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرَهم وتراقيَهم، وذلك ـ عبادَ الله ـ بسبب الغياب القلبيّ والعجز عن تدبّر القرآن، وهم على قلوبٍ أقفالها إلاّ من رحم الله، وبسبَب البُعد عن اكتشافِ سننِ الله في الأنفسِ والآفاق وحُسن تسخيرها والنفاذِ من منطوق النصّ وظاهره إلى مقصدِه ومرماه والتحرير غيرِ المبعَّض من تقديس الأفهام المغلوطةِ والتأويلات المآربيّة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط المسلمين على كافّة طبقاتهم من لوثاتِ عللٍ وأفهام يغذِّيها شعورٌ طاغٍ من حبّ الدّنيا وكراهيّة الموت.

كلّ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ سببٌ ولا شكّ لذهاب العلمِ وهو موجود، ولفَقدنا الماءَ في البيداء وهو على ظهورنا محمول، على الرّغم من التقدّم الملحوظ في فنون الطّباعةِ ووسائل النّشر وتقنيات التسجيل الصوتيّ والمرئيّ. روى الإمام أحمد والترمذيّ وابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال: ذكر النبيّ شيئًا فقال: ((وذاك عند ذهاب العلم))، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلمُ ونحن قرأنا القرآنَ ونقرِئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرِئونه أبناءهم؟! فقال: ((ثكلتكَ أمّك يا ابنَ لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقهِ رجلٍ في المدينة، أوليس هذه اليهود والنّصارى بأيديهم التّوراة والإنجيل ولا ينتفعون ممّا فيهما بشيء؟!))(1)[1].

إذًا الأمّة المنتميَة إلى القرآن لا ينبغي أن تكونَ مجهولةً مستوحِشة، مبعثرةَ الحواس وكأنّها تُنادَى مِن مكان بعيد، وكتابُ الله سبحانه ما شانَه نقصٌ ولا شابَته زيادة، فيه الخلاصة الكافيَة لأحوال النبوّات الأولى وأنباء ما قد سبق، إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18، 19].

أيّها النّاس، لقد عاش رسول الله ثلاثةً وستّين عامًا، أسفر له بعدَها صُبح المشيب، ألمّ الشيبُ بلُمتِه، وهو سمة عفّته وتُقاه، ترى فيه هيبتَه ووقارَه، وتشاهد منه حنكتَه وعنوان تجربتِه، يسأله أبو بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه فيقول: يا رسول الله، ما شيّبك؟ قال: ((شيّبتني هود والواقعة وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كوِّرت)) رواه الترمذي والحاكم وأبو يعلى(2)[2].

فيا لله أيّها المسلمون، إنّنا لنسمع كثيرًا أنّ السنّ سبب في الشّيب، وأنّ صروف الحياة ومهامِهَهَا المتقلّبة تشيب منها المفارق، فما ظنّكم بمن تمرّ به هذه كلّها واحدةٌ تلوَ الأخرى ثمّ هو ينسب المشيبَ إلى آياتٍ من كتاب ربِّه يردّدها ومعانٍ يتأوّلها ويتدبّرها.

لماذا سورةُ هودٍ أيّها المسلمون؟ ما الذي تحويه هذه السّورة كي تُحدِثَ تغيّرًا في النفس والحال؟ بلهَ التغيّر الذي يكون على البدن والأعضاء؟

إنّ هذا الحديث برمّته ليستحثّنا إلى أن نكشفَ اللثام ونذوّب الرَّان الذي يغشى القلوبَ حينما تمرّ بنا هذه السّورة وأخواتُها دون أن تستوقفَنا مليًّا لنعلم بوضوح وجلاءٍ كيف شيَّبت مفارقَ إمامنا وقدوتِنا ، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: دخلتُ على امرأةٍ وأنا أقرأ سورةَ هود، فقالت: يا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود؟! واللهِ إني فيها منذ ستّة أشهر وما فرغتُ من قراءتها(3)[3].

ولا غروَ ـ أيها المسلمون ـ أن تقول المرأة مثلَ هذا، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه قبلها: (لا تهذُّوا القرآنَ هذّ الشّعر، ولا تنثروه نثرَ الدّقل، وقِفوا عند عجائبِه، وحرّكوا به القلوبَ، ولا يكن همُّ أحدِكم آخرَ السورة)(4)[4].

لقد نزلت سورةُ هود بجملتها بعدَ سورة يونس وسورة الإسراء، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من المفسّرين. وهذه الفترةُ التي نزلت بها هذه السورة تُعَدُّ من أحرجِ الفترات وأشدّها كمدًا على نبيّنا ؛ لأنّها مسبوقة بأعظم حَدَثين له، فقد تُوفّيت زوجُه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، وكانت له وزيرَ صدقٍ على الإسلام، يشكو إليها، وهي معه في المِحنة قلبًا مع قلبِه، بمالِها تواسيه، وبكلامِها تسلّيه، وتُوفِّي عمّه أبو طالب، وكان له عضُدًا ومنَعَة وناصرًا على قومِه، حتى تتابعت على رسول الله المصائب، فسُمِّي ذلك العام عامَ الحزن، فكان نزول سورة هود في مثل هذه الفترة تسليةً وتثبيتًا له ولمَن معه مِن المؤمنين، وتسريةً عنه وعنهم ممّا يساوِر قلوبَهم من الوحشة والضّيق والغربَة، في مجتمعاتٍ تكاد تجمِع على تكذيبهم والبَطش بهم، ومن ثمّ يكون وقعُ مثلِ هذه السورة منصبًّا على القصَصَ والأمثال؛ لأنّ فيها من التّسلية والعبرة وشدِّ العزم والحضّ على الصبر والمجاهدة ما ليس في غيرها، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].

فيرى رسول الله السورةَ برمّتها تتحدّث عن نوح وقومِه وهودٍ وقومه وصالح وقومِه وإبراهيمَ وقومِه ولوط وقومِه وشعيبٍ وقومه ثمّ موسى مع فرعونَ وملئه، جملةٌ من الأنبياء، ثلاثة منهم من أولي العزمِ من الرّسل، يواجه اللاحقُ منهم مع قومه مواقفَ مشاكلة لما واجهه السابقُ منهم، ويصدُق في الجميع قوله جلّ وعلا في سورة يوسف: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]. يشير سبحانه إلى أنّ مرحلةَ اليَأس إنّما تكون بعد تتابُع ضرباتِ الجهال من أقوام الرّسل والوقوع تحتَ وطأة الشّتم والتكذيب والإجماع على التآمر، ناهيكم عن اختناق أنفاسهم فتراتٍ، ثمّ يتعرّضون خِلالها للموت كرّاتٍ ومرّات، ليكُن ذلك كلُّه فإنّ سنّة الله لا تتخلّف، وخليقٌ بأنبياء الله ورسله وأتباعهم أن يصابروا ويرابطوا حتّى يأذن الله لهم بالفرج.

لقد افتتحَ الله جلّ وعلا سورةَ هود بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [هود:1، 2]. إنّ هذا الكتابَ الذي أُحكمت آياته فُسِّر مضمونُه بأنّه ينبغي أن لا يُعبَدَ إلا الله في الأرض، وأنّ هذه العبادة والدّعوة إليها لم تكن بِدعًا من الدعوات، ولا هي وليدةَ نزولها على محمّد ، إنّما هي دعوة الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، كلّهم يقولون لأقوامهم: اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره؛ فلا ذبحَ إلا لله، ولا رجاءَ إلا في الله، ولا خوفَ إلا من الله، ولا استغاثة واستعانةَ إلا به، ولا توكّل إلا عليه، ولا رغبة ولا رهبة إلا له ومنه، ولا تحكيمَ إلا بشرعه الذي شرَعَه.

بعدَ هذه الآيةِ يتتابع القصَص، فيكون من حوارات نوح وقومِه أن قالوا له: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، ويقول قوم محمّد مثلَ ما قال قوم نوح: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال:49].

إنّه الاحتقار والازدراءُ الذي ينبعث من النّفوس الخبيثة والمليئةِ بالضّغينة والكِبر الذي هو بطر الحقّ وغمط النّاس. إنّه احتقارٌ لصاحب الرّسالة من أولي العزم من الرّسل، يتبعه ازدراءٌ مشين للأتباع المخلِصين. إنّه ليس عارًا ألبتّةَ رذالةُ مَن اتّبعوا الحقّ، فإنّ الحقّ في نفسه صحيح، سواء اتّبعه الأشراف أو الأراذل من الناس، يقول ابن كثير رحمه الله: "بل الحقّ الذي لا شكّ فيه أنّ أتباعَ الحقّ هم الأشراف ولو كانوا فقراءَ، والذين يأبَونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء"(5)[5]، ولمّا سأل هرقل ملكُ الرّوم أبا سفيان عن صفاتِ النبي قال له فيما قال: أشرافُ الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل(6)[6].

لو كان الاتّباع بالشّرف ـ أيّها المسلمون ـ لما رفع الإسلامُ سلمانَ الفارسيّ، ولما وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب، ورسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((رُبّ أشعثَ أغبَر ذي طمرَين مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على الله لأبرَّه))(7)[7]، ولمَّا رأى الصحابة رضي الله عنهم عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه وهو على نخلة، فضحِكوا من دقَّة ساقَيه، والريحُ تميل بهما، فقال رسول الله : ((أتعجبون من دقّة ساقيه؟! إنّهما أثقل في الميزان من جبل أحد))(8)[8].

إنّ أمثالَ هؤلاء المحتقَرين من قِبل بعض أهل الزُهُوّ والأنفة وذوي النّزَق(9)[9] لتعلو بهم المكانة في الآخرة جرَّاءَ إيمانهم بربّهم وتوكّلهم عليه، على ضعفٍ في قوّتهم وقلّة الناصرين لهم من النّاس، حتّى ألِفوا مسلكَ النّزاهة والاستقامة؛ لأنّ الرجلَ الخرِب الذمّة الساقطَ المروءة لا قوّة له ولو لبِس جلودَ السباع وتسربَل بدروع المُحارب المدجّج أو مشى في ركاب العظماء من بني الدّنيا. وهذا درسٌ جِدُّ مهمّ ضرب الله لنا مثلَه حينما قال لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، يقول أبو هريرة رضي لله عنه: قال رسول الله : ((رحمةُ الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد))(10)[10] يعني الله عز وجل.

فلا إله إلا الله، كم يُصيب محتقِريهم من همّ وغمّ حين تتجلّى الأمور وتنكشف، ويدخل أهل النّار النّار فيقولون حينها: مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ [ص:62، 63]، والجواب يا رعاكم الله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].

وفي ثنايا سورة هود يعترضنا قصَصٌ هو من الأهمّية بمكان، يتبيّن من خلاله صدقُ المدّعي وصفاء قلبه وحبُّه المتجرّد من الغَشَش والدّخيلة تجاه إخوانه في الدّين وبني ملّته، حيث يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، يعلم خطورةَ خذلانهم وخطورةَ إعانتهم على باطلهم وعظمَ ذلك عند الباري جلّ وعلا، يعلم أثرَ قول المصطفى : ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))(11)[11]، وأنّ نصرَه [ظالمًا] هو حجزُه عن الظّلم، ويعلم قولَه : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يخذله، ولا يسلمه))(12)[12]، فهو لا يظلمه ولا يخذله في الحقّ، ولا يُسلمه لأهوائه ونزغات الشّيطان التي تميد به عن سواء الصّراط.

هذه المبادئ الرّاسخة ينبغي أن يعيَها كلّ مسلم تجاه إخوانه في الملّة. إنّه موقفُ نوح عليه السلام من أتباعه المؤمنين حينما قال لقومه: وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [هود:29، 30]، يقول ابن كثير رحمه الله: "كأنّهم طلبوا منه أن يطردَ المؤمنين عنه احتشامًا ونفاسَة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتمَ الرسل أن يطردَ عنهم جملةً من الضعفاء، ويجلس معهم مجلسًا خاصًّا، فأنزل الله: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]"(13)[13].

إنّ المسلم الحقَّ لينأى بنفسه أن يضعَ حظوظه على الإضرار بإخوانه من خلال الحسَد أو التشفّي أو إيثار العاجل على الآجل أو الوقوع في الاجتهادات الخاطئة أو البُعد عن النّصح المشروع وتوجيه النّاس وإرشادهم من خلال الحثّ على الخير أو الحجز عن الشرّ، أو أن يبنيَ كيانه وبُلغَته على أنقاص غيره وشِقوتِه، كلا، وهيهات هيهات أن يتمخّض مثل هذا البتّ المهتزّ عن نهايةٍ صالحة. إنّه في الحقيقةِ كمسلكِ إخوةِ يوسف عندما نشدوا راحتَهم بقولهم: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، وصدَق رسول الله إذ يقول: ((من أكَل برجل مسلم أكلةً فإنّ الله يطعمه مثلَها من جهنّم، ومن كُسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثلَه من جهنّم، ومَن قام برجل مسلم مقامَ سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقامَ سمعةٍ ورياء يومَ القيامة)) رواه أحمد وأبو داود(14)[14].

ولا يسعُنا إلاّ أن نقولَ كما قال النبيّ : ((اللهمّ إنّا نعوذ بك من الجوع فإنّه بئسَ الضجيع، ونعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة))(15)[15].

 فيا أيّها النّاس، قصصٌ آخر من قصَصِ سورة هود، يُراد من خلاله التنويهُ إلى أهمّية القدوة الصالحة وأثرِها في بناء المجتمعات ورِفعتِها، لا سيّما إذا كان أصحابها من ذوي الهيئاتِ كالسّلاطين والعلماء والأمراء وكبَراء النّاس، ويزداد الأمر قوّة في المصلحين ومَن ينتسبون إلى الصّلاح؛ إذ خطواتُهم محسوبة وأفعالهم مرقوبة، وأعين النّاس تقع على ما يظهر منهم في القول والفعل، فما أعظمَها هوّةً حين يرونَه حيث نهاهم، ينكر منكَرًا فيأتي مثلَه، أو يحذّر من بدعةٍ ويقع في أختِها؛ تسقط هيبته، ويتضاءل الاقتداءُ به، فيخلِط العامّة بين حقِّه وباطله وزينه وشينِه، ومِن ثمّ تكون حالات النّاس معهُ:

يومًا يمانٍ إذا لاقيتَ ذا يمنٍ……وإن لقيت معَدّيا فعدناني

فيكثر تتبُّع الرّخص من قِبلهم والتشوّف إلى الزّلاّت والثغرات، ولقد تمثّل النّأي عن ذلك في شخص النبيّ شعيب عليه السلام حينما قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].

وبعد: أيّها النّاس، فإنّ القصص في السورة يتتابع، والنّهل منها في مثل هذه العجالة يطوّل بنا المقامَ، إلاّ أنّ ثمّة أمرًا يحسُن أن نختمَ به، وهو أنّ الرسل جميعًا قد دعوا أقوامَهم إلى الله، فلمّا لم يستجيبوا لهم تنوّع عليهم العذاب، فمنهم من أرسلَ الله عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصّيحة، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من أغرق.

وبعدَ تمام السّرد يقول الله لنبيه : ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود:100]، ثم يقول: وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ثمّ يتّجه الخطاب إلى النبيّ مرّةً أخرى بهذا الإنذار الذي فيه التّحذير من الرّيبة أو الشكّ في صحّة ما يدعو إليه: فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ [هود:109]. إنّ توفيةَ هذا النّصيب تعني هلاكَ من بلغتهم الرّسالة ثمّ هم يعاندون، فإنّهم سيطيحون كما طاحَ آباؤهم من قبل.

ألا إنّ هذا نذيرٌ مقلِق، وإنّ خوفَ النبيّ على مستقبلِ أمّته وقومِه جعل الشيبَ يتسلّل إلى رأسِه، ما يحبّ أن يكونَ لهم مثلُ هذا المصير المزهِق، ولذلك قال النبيّ لصحبِه: ((كلّ أمّتي يدخل الجنّة إلا من أبى))، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى))(16)[1].

هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب صاحب الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال عزّ من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد...

__________

(1) أخرجه أحمد (17473)، وابن ماجه في الفتن (4048) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد به. وصححه الحاكم (3/590)، ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع. وله طريق أخرى، فأخرجه الترمذي في العلم (2653)، والدارمي في مقدمة سننه (288)، ومن طريقه البيهقي في المدخل (854) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف، وقد خولف، فرواه أحمد (23990)، والنسائي في الكبرى (5909) من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك، وصححه ابن حبان (4572)، والحاكم (1/98-99)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في تعليقه على المشكاة (1/81): "سنده صحيح".

(2) أخرجه الترمذي في التفسير (3297) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (2/476) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة (955).

(3) أخرجه البيهقي في الشعب (2/361)، وانظر: صفة الصفوة (3/192، 4/440).

(4) أخرج بعضه البيهقي في الشعب (2/360)، وعزاه ابن كثير في تفسيره (4/235) للبغوي.

(5) تفسير القرآن العظيم (2/443).

(6) أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(7) أخرجه مسلم في البر (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(8) أخرجه أحمد (1/420)، والبزار (1827، 3309)، وأبو يعلى (5310، 5365)، والشاشي (661، 904)، والطبراني (9/78)، وأبو نعيم في الحلية (1/127)، والبغدادي في تاريخه (1/148، 7/191) من طرق، وصححه ابن حبان (7069)، وقال الهيثمي في المجمع (9/289): "أمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".

(9) النزق: الطيش والخفة عند الغضب.

(10) 10] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3372، 3387)، ومسلم في الإيمان (151).

(11) 11] أخرجه البخاري في المظالم (2443، 2444) من حديث أنس رضي الله عنه.

(12) 12] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وليس فيه: ((ولا يخذله)).

(13) 13] تفسير القرآن العظيم (2/444).

(14) 14] أخرجه أحمد (4/229)، وأبو داود في الأدب (4881)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في الكبير (20/309) والأوسط (697، 3572)، والبيهقي في الشعب (6717) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (934).

(15) 15] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469) وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).

(16) أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/2854)

0 التعليقات:

إرسال تعليق