الاثنين، 16 مارس 2015
حقد في القلوب وشحناء في الصدور وفرقة في الصفوف؟
الحمد لله الذي قدم نبينا صلى الله عليه وسلم على كل نبي أرسله، وفضل كتابنا على كل كتاب أنزله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله القائل: ((ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله))(2)[1]، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
عباد الله، ما سر ما نعانيه من حقد في القلوب، وشحناء في الصدور، وفرقة في الصفوف؟ ما سر ما نعانيه من ضيق المعايش، ومن رفع البركة من الصدور؟إذا أردتم أن تعلموا ذلك فاقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، إن ما نعانيه من نقص في المعايش ومن شدة في المؤونة ومن سوء المعاملة، مرده أننا أعلنا الحرب على الله، وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن الله لا يحارب، ومن يعلن الحرب على الله فسوف ينتقم الله منه، اسمعوا قول الباري جل في علاه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، والسنين هي الأيام المجدبة الشديدة القهر، ويقول الإمام رجاء بن حيوة رضي الله عنه: (كانت النخلة لا تثمر في السنة إلا بلحة واحدة)، فمن الذي يملك الزرع والإنبات إلا الله؟ من الذي يملك الأمر كله إلا الله؟
فلماذا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات؟ لقولهم: وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132]، كفر وعناد وإصرار على الكفر والإلحاد، قالوا لنبيهم: مهما تأتنا به من آية بمعنى أنهم لن يؤمنوا ولن يصدقوا، مهما فعلت فنحن مصرون كل الإصرار على عدم الإيمان بالواحد القهار، فكيف كانت سنة الله في معاملة المصرّين والمعاندين؟ انفتحت عليهم أبواب الغضب، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والسيول التي تهلك الأخضر واليابس، والتي تهدم البيوت، والجراد هو أكثر جند الله تعالى إذا تحرك من قواعده وسارت أسرابه، فلا تقوى على القضاء عليه المدافع الثقيلة أو البعيدة المدى أو الدفاع الجوي، لأن الذي يحركه من قواعده هو الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، أكلت الزرع، وصيرت الأرض الخضراء صحراء جرداء.
تضرعوا إلى الكريم موسى عليه السلام قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ [الأعراف:134]، الله لا يحارب أيها المؤمنون، الله لا يخدع، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يريد الله أن يعامل العباد بمقتضى رحمته وعدله، يريد أن يعاملهم بالرحمة لهم يتذكرون فيرجعون، إنه سبحانه وتعالى قال لموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43، 44]، يقول الإمام العارف بالله قتادة رضي الله عنه: (إذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى، وإذا كان هذا عطفك بفرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ اله غَيْرِى [القصص:38]، فكيف يكون عطفك بعبد قال: لا إله إلا الله).
عباد الله، إن فرعون وهو يعاني سكرات الموت بين أمواج البحر كان يقول: أغثني يا موسى، ولم يغثه موسى عليه السلام، وإذا برب العزة يقول لموسى: يا موسى لقد استغاث بك سبعين، مرة ولم تغثه، وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة واحدة، لوجدني قريباً مجيباً، ولكنه لم يقل: يا رب، بل إنه عندما قال: آمنت، لم يقل: آمنت بالله، إنما قال: ءامَنتُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ [يونس:90]، منعه كبرياؤه وصلفه وعناده أن يقول: آمنت أنه لا إله إلا الله، لم يرض أن يقولها أو ينطق بها، والكل يعلم أن لهذا الكون إلهاً حكيماً عليماً خالقاً ورازقاً.
وهناك ـ يا عباد الله ـ سلاح الجراثيم وما يعرف اليوم بالحرب البيولوجية، يقول المولى تبارك وتعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ [الأعراف:133]، والقمل حشرة خفيفة إذا ثارت بين الناس كانت موصلاً جيداً للطاعون والجرب، الطاعون والأمراض الجلدية، ملأ القمل فراشهم، فكانوا لا ينامون ليلاً، ثم بعد ذلك سلط الله عليهم سلاح الضفادع، فماذا فعلت؟ كان الواحد إذا وضع الطعام أمامه ليأكل تحول الطعام إلى ضفادع، امتلأت الآنية بالضفادع، فإذا رفع الطعام إلى فمه قفزت الضفادع إلى فمه فلا يستطيع الأكل، لا ينام ليلاً لأن الفراش مليئ بالقمل، لا يأكل نهاراً، لأن الطعام مليئ بالضفادع.
فماذا عن الشراب والماء؟ قال الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ، كان الواحد إذا رفع الماء إلى فمه ليشرب، وعندما يقترب الماء من فمه يتحول الماء إلى دم أحمر، سبحان الله، غفرانك يا رب العالمين، الماء يتحول إلى دم أحمر ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ومع ذلك أعطاهم الله تبارك وتعالى فرصة لعلهم يتذكرون، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الأعراف:135]، ينقضون عهد الله تعالى، وليس عهد الله كبقية العهود ـ يا عبد الله ـ فماذا حدث بعد ذلك؟ لا بعد من فعل صارم، لا بد من أمر جازم وحازم، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:136]، التكذيب بآيات الله والغفلة عن ذكر الله بهما يأخذ اللهُ تعالى الأمم، أخذ عزيز مقتدر.
أرأيتم ـ يا عباد الله ـ كيف عاقب الله تبارك وتعالى الأمم الماضية، ونحن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونتعلم، وأن لا نأمن مكر الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
إذاً فلماذا انتشر الفساد بيننا؟ لماذا تسرب الفساد إلى مجتمعنا؟ بل انتشر بين الأفراد والأسر، كيف لا ونحن في أيام الفتن، فقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة أدخلت على قوم من هو ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الخلائق في الأولين والآخرين))(1)[1].
لماذا هذا التسيب إياه الناس؟ إنني أقول هذا الكلام، لأن هناك عبثاً في البيوت، فالواجب علينا أن نتقي الله في أبنائنا وبناتنا، وأن نعلمهم الحلال من الحرام، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث الرسل للتحريم أو التحليل فقط، إن الحلال والحرام بين، وإنما بعث الرسل ليُربّوا الناس حتى يراقبوا الله تبارك وتعالى.
اسمعوا أيها المؤمنون إلى هذا الرجل، وقد قدم له طعام ذات يوم، فقال لابنته: وهي السيدة رابعة رحمها الله ـ وكان لها من العمر ست سنوات ـ قال لها: يا رابعة تعالي لتأكلي فقالت: والله لا آكل حتى أعلم، أمن الحلال هو أم من الحرام، طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، لكن قلبها معلق مع الله تبارك وتعالى، قال لها: يا رابعة، وإذا كان من الحرام، ولم نجد غيرها، فماذا أنت فاعلة؟ فماذا قالت التي تربت على معرفة الله تبارك وتعالى؟ قالت: يا أبتاه أصبر على جوع الدنيا خير من أن أصبر على عذاب النار يوم القيامة.
عباد الله، عسى الله تبارك وتعالى أن يغير حالنا إلى أحسن الأحوال، نحن في محنة عظيمة.
أيها الناس، ضاعت الأخلاق، وضاعت الأرزاق، قولوا للقائمين على التربية: إن الأخلاق في انحدار، وقد طغى الشباب، وفسدت الفتيات، فتن كقطع الليل المظلم، يبيت الحليم منها حيران، وقد صار الحليم حيران، وقد جلس القاضي حيران، اللهم سلم يا رب العالمين.
أيها المصلحون، انظروا إلى الأمة بعين الرعاية والعناية، انظروا إليها بعين الإسلام، اتقوا الله تبارك وتعالى، فقد كفى ما كان، فقد طال بنا زمن العصيان، فحالنا لا يرضى به الواحد الديان.
وأنتم أيها المرابطون، حافظوا على دينكم، وحافظوا على مسجدكم، مظاهر الفساد انتشرت في مدينتنا المقدسة، فبعض التجار عندنا لا يأتون لأداء صلاة الجمعة إلا بعد انتهاء الخطبة، حرصاً منهم على البيع والشراء، أعيدوا هيبة هذه المدينة المقدسة، حافظوا على الصلوات في المسجد الأقصى المبارك، تناصحوا في الله، لماذا أصبح الواحد منا يسير في بيت المقدس، وكأنه يسير في بد أجنبي!! أصوات الآذان في الشوارع، والنساء كاسيات عاريات، حفلات صاخبة محرمة، معاملات ربوية، إدمان على المخدرات، مشاكل كثيرة جراء المعاملات الفاسدة، نصب واحتيال، وعلى مستوى رفيع، ثم بعد ذلك نتوجه إلى الله تعالى أن ينصرنا على أعدائنا!
حقاً ـ يا عباد الله ـ للمسلم أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب النصر على الأعداء، ولكن متى؟ عندما تكون القلوب طاهرة، وعندما تكون الأيدي متوضأة، بعد التوبة والإخلاص والعمل الصالح، وتذكروا أن الخلاص من كل ذلك في خطوة واحدة في قوله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
استباحة الأرض الفلسطينية أمام قوات الاحتلال، وإطلاق يدها تعيث في الأرض فساداً وقتلاً واغتيالاً وتدميراً ليس بالأمر الجديد المفاجئ لشعبنا المسلم المرابط الصابر المبتلى، فمن يتتبع الاحتلال يرى أن السياسة الإسرائيلية والنهج الصهيوني المبرمج كانا يتحينان الفرص وينتهزان حالات وقف إطلاق النار أو ما يسمى الهدنة لتعاود عدوانها من جديد ضد أمتنا وشعبنا، فمن خلال حروب عام 1948م والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وحرب عام 1967م والاجتياح لجنوب لبنان عام 1982م كانت إسرائيل تخترق وقف إطلاق النار والقرارات المتعلقة بما يسمى بالهدنة، وتمكنت من مصادرة الأرض العربية الإسلامية وأقامت المستعمرات، وحولت مياه نهر الأردن، وأقامت ما يسمى بالجدار الطيب في جنوب لبنان، وخط بارليف على قناة السويس، هذه الإجراءات والممارسات كانت وفق النهج الصهيوني تهدف إلى بث النفوذ والسيطرة وفرض سياسة الأمر الواقع، مدعومة بقوى الاستعمار، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا.
ومع ذلك، فإن إسرائيل لم تتعظ من الحروب السابقة التي خاضتها مع أمتنا العربية، فقد تهاوى خط بارليف، وتلاشى الجدار الطيب، وأكدت الحروب السابقة أن الأمن لن يتحقق من خلال فوهات البنادق، وأن السلام لن يتحقق مع الاحتلال، وأن كل خطوط الدفاع تتهاوى وتسقط أمام قوى الإيمان.
لقد قلنا من على هذا المنبر الشريف في خطبة سابقة، ومن منطلق إيماني، ومن رؤيا صائبة بمجريات الأحداث: إن الهدنة الظالمة التي فرضت على شعبنا لن تدوم طويلاً، ولن يكتب لها النجاح، فإسرائيل خرقت الهدنة مراراً وتكراراً وبأعمال لا تعد ولا تحصى من اغتيالات واعتقالات وتصفيات، واستمرار وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية وإقامة ما يسمى الجدار الآمن، ومصادرة الأرض لفتح طرق التفافية وأنفاق جديدة.
وبدلاً من إقامة الحواجز العسكرية فحسب، فقد تم جعلها نقاط تفتيش وعبور دائمة مزودة بأجهزة الكترونية تزيد من معاناة شعبنا الصامد المرابط دون أن يحرك العالم ساكناً، دون احتجاج من أمتنا على الوضع المأساوي المؤلم، فما من أحد يقول: كفاكم ظلماً وعدواناً.
هذا ـ يا أيها المسلمون ـ هو واقع شعبنا المسلم في الضفة الغربية وقطاع غزة، أما في مدينتنا المقدسة والتي أضعنا هيبتها وقداستها بأنفسنا ـ وللأسف ـ، فإن إسرائيل تنتهج أيضاً سياسة مبرمجة تهدف إلى تهجير أبناء القدس عن طريق فرض الضرائب الباهظة، ومنع البناء، وهدم المنازل، وشراء العقارات بوساطة أصحاب النفوس الخبيثة، وبطرق ملتوية ومشبوهة، وبزجِّها بالمستوطنين، واستمرار سياسة الإذلال أمام مكاتب الداخلية والتأمين الوطني، وتشويه سمعة المقدسيين في الصحف الإسرائيلية، والتغاضي عن مسئولي الداخلية، عن حالات الإبتزاز والرشاوى تاركة المجال أمام بعض المحامين المرتشين وبعض الزُعْران ـ أي التافهين ـ والمتساقطين من العبث بكرامة المواطن واستقراره وحرصه على مواطنته في مدينة القدس الشريف والنبيل من سمعته وشرفه.
أيها المسلمون، إن محاولات المتطرفين اليهود تأدية صلواتهم في باحات المسجد الأقصى المبارك تعتبر وصمة عار في جبين الأمة بأسرها، ولهذا نحذر دائماً وبشكل مستمر من ابعاد وأهداف هذه المحاولات تجاه هذا المسجد المبارك، والتعرض للمسؤولين والعاملين في المسجد الأقصى والمبارك ونقولها مدوية: "إن المسجد للمسلمين وحدهم، ولن نسمح لأيٍ كان من تأدية شعائرهم في مسجدنا "، فمسجدنا جزء من عقيدتنا، والمسلمون وحدهم هم أصحاب القرار فيه مهما كلف الثمن.
ومن هنا وباسم جميع المسلمين نستنكر وبشدة ما تقوم بها قوات الاحتلال من منع المسلمين دخول المسجد الأقصى المبارك، والسماح وبالقوة للمستوطنين والمتطرفين الدخول إلى ساحاته، فأنتم يا سلطات الاحتلال تقومون بمنع المصلين المسلمين من تأدية صلوات الجمعة في المسجد الأقصى المبارك، ألا تخافون من الله؟ ألا تخشون أن يخسف الله بكم الأرض؟ ألا تخافون من الله أن يسلط عليكم ما سلطه على الأمم السابقة من أصناف العذاب؟ كفاكم ظلماً وعدواناً.
عباد الله، إن المفاجئ والمؤلم أن يمتد الخلاف إلى داخل الصف الفلسطيني، والواجب علينا أن نكون صفاً واحداً أمة واحدة تحت راية واحدة، نحكم بدستور الإسلام، فقرآننا واحد، وعقيدتنا واحدة، ونبينا واحد، وشريعتنا واحدة.
وتذكروا أن الشقاق والنزاع والخصام يضعف الأمم القوية، ويميت الأمم الضعيفة، فالعدو لا يتمكن منا، ما دمنا متحدين، ما دمنا مجتمعين يداً واحدة، واحذروا كل الحذر من الاقتتال الداخلي، فإن حصل لا قدر الله فهو نهاية وجودكم، ولن يرحمكم الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء (2263)، والنسائي في الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء من الولد (3481)، وابن ماجه في الفرائض، باب: من أنكر ولده (2743)، والدارمي في النكاح، باب: من جحد ولده وهو يعرفه (2238)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4108)، والحاكم (2/202-203).
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (19/416)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/159): "ورواته ثقات إلا أبا الحبيب العنقري لا يحضرني حاله". وقال الهيثمي في المجمع (5/288): "وفيه أبو حبيب العنقري ويقال القنوي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات". والحديث له شواهد من حديث أبي هريرة بمعناه.
(1/2847)
طرق الخير عديدة والأعمال الصالحة كثيرة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
إن من رحمة الله بهذه الأمة أن نوع لها طرق الخيرات، ويسر لها ذلك، ورتب على هذه الأعمال الصالحة ثواباً عظيماً في الدنيا والآخرة.
فأنت على خير في أقوالك وأعمالك الصالحة، بل أعمال القلوب تثاب عليها، نطق اللسان عمل الجوارح كل ذلك تثاب عليه بأنواع من الأعمال الصالحة، فإذا عجزت من نوع قدرت على نوع آخر، ومن وفق لاستكمال الخير فذاك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، يقول ربنا جل وعلا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، ويقول ربنا جل وعلا: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ [المائدة:48]، ويقول ربنا جل وعلا: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].
فواجبات الإسلام سواء الواجبات العينية أو الكفائية أو الأمور المستحبة كل هذه الأعمال يثاب العبد عليها على فعلها مع النية الصالحة، وكلما حسنت النية وعظم القصد زاد الثواب عند ربنا جل وعلا: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، ذاك فضل الله على هذه الأمة المحمدية، فاشكروا الله على نعمته، وتسابقوا لفعل الخير لعلكم تفلحون.
أركان الإسلام الخمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، هذه هي أركان الإسلام دعائم الإسلام، لا يصح إسلام عبد إلا باستكمال هذه الأركان كلها.
فأولها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كلمة التوحيد لا إله إلا الله، هي أعلى شعب الإيمان كما قال : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله))(1)[1]، كلمة التوحيد من قالها في يوم عشر مرات كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، من قالها في يوم مائة مرة كان له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ورفعت له مائة درجة وحطت عنه مائة خطيئة، من صلى على نبينا صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، في الحديث الآخر: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والسيئات)) (2)[2].
أداؤك للزكاة ركن من أركان دينك، ومع أدائك لها فلك من الله الثواب العظيم خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]، وما نقص صدقة من مال بل تزده.
صومك لرمضان وقيامك ليله من أسباب تكفير الذنوب ورفع الدرجات، ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) (3)[3]، ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) (4)[4]، ((الصوم لي وأنا أجزي به)) (5)[5] .
حجك لبيت الله ((من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) (6)[6].
وكل واجبات الإسلام فإنها صدقة منك على نفسك وثواب مدخر لك يوم لقاء ربك، أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة منك على نفسك، كما قال : ((وأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة)) (7)[7].
برّك بوالديك وإحسانك إليهم صدقة منك على نفسك مع كونه أمراً شرعياً واجبا عليك، صلتك لرحمك عملٌ صالح وإحسان منك إلى نفسك مع أنه أمر مطلوب منك شرعاً (( من أحب أن ينسأ له في أجله ويبسط له في رزقه فليصل ذا رحمه)) (8)[8].
تفريج كرب المكروب وهم المهموم وقضاؤك لحاجة أخيك كلها أعمال صالحة صدقة منك على نفسك، وثوابٌ مدخر لك يوم القيامة، ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته))، ((من فرّج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة))، ((ومن ستر مسلماً في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة)) (9)[9].
أخي المسلم، عيادتك للمريض واتباعك للجنازة ونصرك للمظلوم وإفشاؤك السلام وإجابة دعوة أخيك وإبرار قسمه إن أقسم أعمال صالحة وهي حقوق للمسلم على المسلم، ولها ثواب عند الله.
أخي المسلم، معاشرتك لامرأتك مع النية الصالحة عملٌ صالح وصدقة منك على نفسك، ولذا يقول : ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) (10)[10].
أخي المسلم، شفاعتك لأخيك عند احتياجه إلى شفاعتك عمل صالح وصدقة منك على نفسك مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا [النساء:85]، وفي الحديث: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)) (11)[11].
كل هذه الأعمال الصالحة متى عملتها بنية صادقة فاظفر من الله بالثواب العظيم، إن عاجلاً أو آجلاً، وقد يجمع الله لك بين ثوابي الدنيا والآخرة.
أخي المسلم، نفقتك على البنات وإحسانك إليهن صدقة منك على نفسك ((من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) (12)[12].
إكرامك اليتيم وإحسانك إليه عمل صالح، وفي الحديث عنه : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) (13)[13].
نفقتك على زوجتك وعلى ولدك مع النية الصالحة صدقة منك على نفسك، يقول لسعد بن أبي وقاص: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تضع في فِيّ امرأتك)) (14)[14] وفي الحديث لما عد النبي الدنانير ذكر أفضلها: ((ديناراً أنفقه المسلم على ولده)) (15)[15].
تربيتك للأولاد وعنايتك بأخلاقهم وأعمالهم إلى أن يستقيموا على الخير ويسلكوا الطريق المستقيم صدقة منك على نفسك وعمل صالح يجري لك بعد موتك، في الحديث ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له)) (16)[16].
إنفاقك من مالك الطيب مع النية الصالحة ثوابه عظيم وإن قلت النفقة، في الحديث عنه : ((من تصدق ولو بعدل ثمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتلقاها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم)) (17)[17]، والله يقول: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
حلمك على الجاهل وإعراضك عن السفيه وتحمل ذلك ثواباً عظيماً ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. إماطتك الأذى عن طريق المسلمين صدقة منك على نفسك كما في الحديث: ((وتميط الأذى عن الطريق صدقة))(18)[18].
إصلاحك بين الخصمين ولا سيما الأقرباء وسعيك في التوفيق بينهم وتضييق شقة الخصام بينهم صدقة منك على نفسك، وفي الحديث: ((أن تعدل بين اثنين صدقة)) (19)[19].
النبي لما ذكر فضل إعتاق الرقاب ومن عجز عنها قال: ((تعين صانعا أو تصنع لأخرق)) (20)[20]، فجعل إعانة المسلم العاجز عن بعض أموره صدقة منك على نفسك.أخي المسلم، نيتك الصادقة في قلبك تبلغك مبلغ الأعمال مبلغ العاملين، يقول يوم تبوك: ((إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا نزلتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر)) (21)[21]، ولذا قال الله: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].
ولما ذكر رسول الله : ((من أعطاه الله المال والعلم فهو يعمل في ماله بعلمه يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا واجبا، وإن هذا لأعلى المنازل)) وذكر الآخر الذي ((أعطاه الله العلم ولم يعطه المال، فهو يتمنى مال الأول ليعمل مثل عمله)) قال النبي : ((فهو بنيته، فهما في الأجر سواء)) (22)[22].
والله لا ينظر إلى صورنا وأموالنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فكم من قلب مقتد بالخير حريص على كل خير لا يمنعه سوى عجز مالي أو عجز بدني، والله يعلم ما انطوت عليه قلوب العباد، ولو صدقوا لله لكان خيراً لهم.
أيها المسلم، فميادين الخير كثيرة وطرق الخير عديدة، فإياك أن تزهد في القليل، فمن أعطى القليل أعطى الكثير، في الحديث يقول : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) (23)[23] وقال: ((كل معروف صدقة)) (24)[24]، وفي الحديث عنه : ((أربعون خصلة: أعلاها منيحة العنز، من عمل بواحدة منها تصديقاً لثوابها ورجاء لموعدها إلا أدخله الله الجنة، ولا يهلك على الله إلا هالك)) (25)[25] .
فاستبقوا الخيرات وتنافسوا في الأعمال الصالحات، وربنا يقول وهو أصدق القائلين: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:6-8].
بغي من بغايا بني إسرائيل مرت بكلب يلهث عند بئر، فنزلت وملأت موقيها من الماء، فسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، قالوا يا رسول الله: ألنا في البهائم من أجر؟ قال: ((إن في كل كبد رطبة أجر)) (26)[26].
فسارع إلى فعل الخير واغتنم أي عمل صالح تقدر عليه فلن يضيع عند الله شيئاً، أعمال صالحة مدخرة، فاحرص على التزود من صالح العمل. أسأل الله أن يعين الجميع على كل خير، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن ييسر لنا فعل الخيرات، ويعيننا عليها فضلاً منه وكرما، والله ذو الفضل العظيم.
عباد الله، طرق الخير عديدة والأعمال الصالحة كثيرة، والموفق من وفقه الله لفعل الخير.
أخي المسلم، وعندما تعجز عن الخير، وتضعف نفسك عنه: إما عجزاً أو كسلاً فاحرص أن تكف عن الناس أذاك، احرص على أن يسلم الناس من شر لسانك ومن شر يدك، احرص أن لا تكون عونا للإجرام وأهله، فالنبي لما ذكر طرق الخير لأحد الصحابة ويبدي عند كل طريق عجزه قال: ((تمسك عن الشر، فذاك صدقة منك على نفسك)) (27)[1]، فإذا عجزت من فعل الخيرات فلا تعجز من أن تكف عن فعل السيئات وتمتنع من أذى المسلمين، ((فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) (28)[2]، فكفك الأذى وامتناعك عن الأذى وإعراضك عن إلحاق الضرر بالمسلمين صدقة منك على نفسك، فإما خيراً تفعله، وإما تكف عن الشر، وتترك المشاة وشأنهم وتشتغل بما ينفعك وتلهو بذلك عن تتبع عيوب الناس والاشتغال بما يضرهم أو السعي بينهم بالنميمة أو اغتيالهم أو رميهم بما هم برآء منه فأمسك لسانك عما لا ينفع.
((وهل يكب الناس على وجوههم ـ أو قال ـ على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) (29)[3]. وكم كلمة قالت لصاحبها دعني، وكم من كلمة أوبقت صاحبها في عذاب الله.
أيها المسلم، هذا شهر رجب أحد الأشهر الحرم، هذا الشهر هو أحد الأشهر الحرم الذي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، وقول النبي : ((ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) (30)[4].
ليس لهذا الشهر خصوصية بعمرة تؤدى فيه، ولا بصيام بعض أيامه، ولا بإحياء بعض لياليه، ولا بصدقة لأجل الشهر، كل هذه الأمور لا أصل لها في الشرع، فلا يشرع لنا أن نعتقد أن عمرة في رجب لها مميزات عن غيرها، ولا أن نعتقد أن صيام بعضه أو كله أو أحد لياليه لها فضل على غيرها، ولا نعتقد أن قيام بعض ليالي الشهر أو ليلة أو كل لياليه لها فضل، ولا أن صيام بعض أيامه لها فضل، فلا صيام لأي يوم رجب متميز عن غيره، ولا قيام أي ليلة من ليالي رجب متميزة عن غيرها من الليالي، ولا عمرة في رجب ولا صدقة في رجب.
كل هذه الأمور لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ، ولو كان خيراً لسبقنا إليه محمد وصحابته الكرام.
إذن فمن خص رجب بعمرة فيه أو خصه بصيام بعض أيامه أو خصه بإحياء بعض لياليه أو خصه بصدقة فيه زاعماً بأن لها فضلاً عن سائر الشهور، فنقول هذا من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها (50 ).
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا (1072 ).
(3) أخرجه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (36 )، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1266).
(4) أخرجه البخاري في الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (36 )، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1267).
(5) أخرجه البخاري في الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم (1771)، ومسلم في الصيام، باب فضل الصيام (1944).
(6) أخرجه البخاري في الحج، باب قول الله تعالى فلا رفث (1690)، ومسلم في الحج، في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (2404).
(7) أخرجه أحمد (8004)، ومسلم بنحوه في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى ...( 1181).
(8) أخرجه البخاري في البيوع ، باب من أحب بسط الرزق (2067 ) ، و مسلم في البر و الصلة ، باب صلة الرحم (2557 ) بلفظ (( من سره )).
(9) أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم (2442 )، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم (2580 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, لكن بلفظ (( ستره الله يوم القيامة ))، أما (( ستره الله في الدنيا و الآخرة )) فهو حديث آخر أخرجه مسلم في الذكر و الدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699 ) عن أبي هريرة.
(10) 10] أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1674).
(11) 11] أخرجه البخاري في الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (1342 ).
(12) 12]اخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (1837)، ومسلم بنحوه في البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات (4765).
(13) 13]أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته (1841)، ومسلم بنحوه في الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمساكين واليتيم (5296).
(14) 14]أخرجه البخاري في الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة (54)، ومسلم في الوصية، باب الوصية بالثلث ( 3076).
(15) 15]أخرجه مسلم في الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك (994).
(16) 16]أخرجه مسلم في والوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
(17) 17]أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014).
(18) 18]أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع ... (1009).
(19) 19]أخرجه مسلم في الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع ... (1009).
(20) 20]أخرجه البخاري في العتق، باب أي الرقاب أفضل (2518)، ومسلم في الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الإعمال (84).
(21) 21]أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب من حبسه العذر عن الغزو (2839)، ومسلم في الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911).
(22) 22]أخرجه أحمد (17563)، وابن ماجه في الزهد، باب النية (4228).
(23) 23]أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).
(24) 24]أخرجه البخاري في الأدب، باب كل معروف صدقة (6021)، ومسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع (1005).
(25) 25]أخرجه البخاري في الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب فضل المنيحة (2631).
(26) 26]أخرجه البخاري في المساقاة، باب فضل سقي الماء (2363)، ومسلم في السلام، باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244).
(27) أخرجه أحمد (20989)، والبخاري بنحوه في العتق (2518)، ومسلم في الإيمان (84).
(28) أخرجه البخاري في الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10)، ومسلم في الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (40).
(29) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجة في الفتن، باب كف اللسان في الفتنة (3973).
(30) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (3197).
(1/2848)
الطريق إلى الله متعددة متنوعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فيا عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات:35]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى [الفجر:23].
أيها المسلمون، إنه إذا كانت سبل الباطل وطرقه كثيرة لا تكاد تحصر فإن الطريق إلى الله تعالى في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إليه وإلى رضوانه وجناته، كما قال سبحانه: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه, وجمع السبل المخالفة له لأنها كثيرة متعددة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي خط خطًا مستقيًا ثم قال: ((هذا سبيل الله)) ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: ((هذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية(1)[1].
فالطريق إلى الله أيها الإخوة واحد؛ لأنه سبحانه الحق المبين، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل.
وأما ما يقع في كلام أهل العلم من أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة وأن الله جعلها كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلاً فهو قول صحيح أيضًا، لا ينافي وحدة الطريق إليه, وبيان ذلك كما قال العلامة الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: "أن الطريق واحدة جامعة لكل ما يرضي الله، وما يرضيه متعدد متنوع، فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه هي التي جعلها الله سبحانه برحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدًا، لاختلاف استعداد العباد وقابلياتهم, ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكه إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت هذه الاستعدادات تنوعت الطرق، ليسلك كل امرئ إلى ربه طريقًا يقتضيه استعداده وقوته وقبوله.
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ووحدة دينه، ومنه الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((الأنبياء إخوة لعلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد))(2)[2]، فأولاد العلات من كان والدهم واحدًا وأمهاتهم متعددة، فشبه صلوات الله وسلامه عليه دين الأنبياء بالأب الواحد، وشبه شرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها ـ أي هذه الشرائع ـ وإن تعددت فمرجعها لأب واحد.
وإذا تقرر هذا فمن الناس من يكون العلم والتعليم سيد عمله وطريقه إلى الله، قد وفر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله، فلا يزال كذلك، عاكفًا على طريق العلم والتعليم, عاملاً بما علم, حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته, كما قال سبحانه: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ الآية [النساء:100].
ومن الناس من يكون الذكر وتلاوة القرآن سيد عمله، هو الغالب على أوقاته، قد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله الصلاة، فمتى قصر في ورد منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها، أو مستعد لها أظلم عليه قلبه، وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقه إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه، وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه, ونفذ منه إلى ربه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه الحج والاعتمار.
ومنهم الجامع لتلك المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الكادح إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه، ونصب عينه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته، إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صفوف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت، وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها، والقيام بأدائها, مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن، قد سلمت إليه المبيع منتظرًا منه تسليم الثمن، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ [التوبة:111].
فهذا يا عباد الله، هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة نفوذًا يتصل به قلبه، ويتعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبق في قلبه إلا محبة الله ومحبة أمره، فكانت عاقبة ذلك أن قربه ربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره، في دينه ومعاشه، وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده، فإنه سبحانه المقيم لكل شيء من المخلوقات، طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه, وآثره على ما سواه, ورضيه به من دون الناس ربًا وحبيبًا ووكيلاً وناصرًا ومعينًا وهاديًا، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له، وشوقًا إليه، وشكرًا له.
ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقة موصلة إلى الله ثم تركها، وأقبل على إراداته وراحاته ولذاته ونزواته وقع في آثار المعاطب، وأودع قلبه سجن المضايق، وعذب في حياته عذابًا لم يعذب به أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره، وتشتت عليه شمله، يستغيث فلا يغاث، ويشتكي فلا يُشكى، قد رحلت أفراحه وسروره مدبرة، وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته، قد أبدل بأنسه وحشة, وبعزه ذلاً، وبغناه فقرًا.
ذلك بأنه عرف طريقه إلى ربه ثم تركها ناكبًا عنها، مكبًا على وجهه، فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر، ودعي فما أجاب، وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه، وتلذذ براحاته فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأنس، ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط لاعراضه عن إلهه الحق أسفل سافلين، وإعراض الكون عنه إذا أعرض عن ربه حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على الأرض، روحه في وحشة من جسمه، وقلبه في ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال ـ عياذًا بالله من ذلك ـ فلا تسل عما يحل به من العذاب الأليم؛ لوقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, فهذه عاقبة إعراضه وإيثار شهوته وشطحاته على مرضاة ربه.
فمن أعرض عن الله بالكلية ـ يا عباد الله ـ أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والنحس في أعماله وأحواله، وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومعاشه.
فالمحروم كل المحروم إذن هو من عرف الطريق إليه ثم أعرض عنها، أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها، ولم ينفذ إلى ربه منها، لا سيما إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات المحرمة، أو انصرف بجملته إلى الشطحات والنزوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره، وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى، ثاويًا في سجن الهوى، مقيمًا في أسر العدو، هائمًا في أدوية الحيرة"(3)[3].
وصدق سبحانه إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
فيا عباد الله، إن الله إذا أقبل على عبده السالك إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلماته، وظهر عليه آثار إقبال من بهجة الجلال ونضرة الجمال, وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة؛ لأنهم تبع لمولاهم سبحانه، فإذا أحب عبده أحبوه، وإذا والى وليًا والوه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض))(4)[1].
ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ إليه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على كل ما تبلغون به محبة الله بإخلاص العمل لله، ومتابعة رسول الله .
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/435), وسنن الدارمي (1/78).
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: قول الله: واذكر في الكتاب مريم... (3443), ومسلم في الفضائل (2635).
(3) طريق الهجرتين (1/278-283) بتصرف واختصار.
(4) أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: ذكر الملائكة (3209), ومسلم في البر والصلة والآداب (2637).(1/2849)
محبة الله جل وعلا
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله : ((ما أعددت لها)) فكأن الرجل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها من كثير صلاةٍ ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال : ((فأنت مع من أحببت))(1)[1].
وفي رواية قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي : ((فإنك مع من أحببت))(2)[2].
وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: ((فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم))(3)[3].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه المحبة العظيمة: "هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص الآملون, وإلى أملها شمّر السابقون, وعليها تفان المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو في جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو بحار الظلمات، والشفاءُ الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معرفة محبوبهم أوفر نصيبٍ" انتهى من كلامه رحمه الله.
معاشر المسلمين، ولنيل منزلة هذه المحبة, وللفوز بهذه السعادة ذكر العلماء أسباباً لتحصيلها وطرقاً كثيرة للفوز بها.
أصول هذه الأسباب وقوائد هذه الطرق مردها ما تتشنف أسماعنا به وما تصغي آذاننا إليه، أول هذه الأصول:
قراءة القرآن بتدبرٍ مع الفهم لمعانيه والتعقل لأسراره وحكمه، ولهذا فإن رجلاً من أصحاب نبينا استجلب محبة الله بتلاوة صورة الإخلاص, فظلّ يرددها في صلواته، فلما سُئل عن ذلك قال: إنها صفة الرحمن, وأنا أحبُ أن أقرأها، فقال النبي : ((فأخبروه أن الله يحبه)) رواه البخاري(4)[4].
الأصل الثاني عباد الله، التقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل, بعد الحرص العظيم على الالتزام بالواجبات والوقوف الجازم عند الحدود والفرائض, فرسولنا يحكي عن رب العزة جل وعلا أنه قال: ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري(5)[5].
وثالث هذه الأصول معاشر المؤمنين، دوام ذكر الله جل وعلا على كل حالٍ ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربنا جل وعلا يقول: فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ونبينا يقول: ((إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه)) رواه ابن ماجه بسند صحيح(6)[6].
ويقول المصطفي وهو سيد الذاكرين: ((سبق المفردون))، قالوا: يا رسول الله, ومن المفردون؟ قال: ((الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) رواه مسلم(7)[7].
ورابع هذه الأصول إيثار محاب الله جل وعلا ومحاب رسوله على محاب النفس عند غلبات الهوى, والتسنم إلى محافه عز وجل وإن صعب المرتقى, فيؤثر العبد رضا الرحمن عز وجل على رضا غيره, وإن عظمت فيه المحن, وثقلت فيه المؤن, وضعف عنه الطول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جل وعلا على غيره هو عن أن يريد العبد ويفعل فيه مرضاته, ولو أغضب الخلق, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزم منهم, وأعلاها لسيد الخلق محمد " انتهى.
وذلك يا عباد الله لا يكون ولا يتحقق إلا بثلاثة أمور:
أولها: قهر هوى النفس، وثانيها: مخالفة الهوى، وثالثها: مجاهدة الشيطان وأوليائه.
وخامس هذه الأصول أيها المسلمون، أن يطالع القلب أسماء الله وصفاته, وأن يشاهدها ويعرفها, ويتقلب في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله التي أثبتها الوحيان كما اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان اعتقاداً كما جاءت في النصوص من غير تحريف ولا تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل أحبه الله جل وعلا وأكرمه وأرضاه, فربنا جل وعلا يقول مرغباً منادياً عباده: وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وثبت عن المصطفى أنه قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) (8)[8].
سادس هذه الأصول إخوة الإسلام، مشاهدة بر الله جل وعلا بعباده, وإحسانه عليهم, والتعرف على آلائه ونعمه الظاهرة والباطنة, فإنها داعية إلى محبته سبحانه.
فالإنعام والبر واللطف معاني تسترق مشاعر الإنسان, وتستولي على أحاسيسه, وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة, ويوصل إليه المعروف, ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله, هذه دلالة العقل الصريح والنقل الصحيح.
فالمحبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر هو الله جل وعلا, والمستحق للمحبة كلها هو سبحانه وبحمده, وغيره فمحبوب فيه عز وجل, والإنسان بالطبع يحب من أحسن إليه ولاطفه وواساه وأعانه على جميع أغراضه وأهدافه, إذا عرف الإنسان هذا حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله جل وعلا, وأن أنواع الإحسان لا يحيط بها حصرٌ: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [الأنعام:34].
وحينئذ إذا انطلق المسلم من هذا المنطلق فإنه حري بالتوفيق للقيام بواجب الشكر لله جل وعلا باللسان والقلب والعمل, ويفوز حينئذ بكل خير, ويسعد بكل عاقبة حميدة, فربنا جل وعلا وعد بالمزيد لمن شكره: لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، ونبينا يقول: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, وليس ذلك إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم(9)[9]، وفي الحديث أيضاً: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها, ويشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم(10)[10].
سابع هذه الأصول, وهو من أعجبها وأعظمها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله عز وجل, والتذلل له سبحانه, والخشوع لعظمته بالقول والبدن: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول عن خير الخلق: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا [الأنبياء:90].
ثامن هذه الأصول، تحين وقف النزول الإلهي لمناجاته جل وعلا وتلاوة كلامه والتأدب بآداب العبودية بين يديه, ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة النصوح إليه سبحانه, فربنا جل وعلا يقول عن صفوة الخلق: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فأصحاب الليل هم أشرف أهل المحبة؛ لأن قيامهم في الليل بين يدي الله جل وعلا يجمع لهم جل أسباب المحبة وأصولها, ولهذا فلا عجب أن ينزل أمين السماء جبريل عليه السلام على أمين الأرض محمدٍ ويقول له: ((واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل, وعزه استغناؤه عن الناس)) حديث صحيح(11)[11].
يقول الحسن البصري: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل, فقيل له: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. نسأل الله من فضله.
وتاسع هذه الأصول: محبة الصالحين والسعي من القرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول في الحديث الصحيح: ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, ووجبت محبتي للمتجالسين فيّ, ووجبت محبتي للمتزاورين فيّ)) (12)[12]. وفي حديث صحيح عن النبي : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (13)[13].
عباد الله، وآخر هذه الأصول البعد عن كل سبب وطريق يحول بين القلب وبين الله جل وعلا, وذلك لا يتحقق ولا يكون إلا ببعد المسلمين والمؤمنين وبعد مجتمعاتهم عن أنواع السيئات وألوان المحرمات وصور الموبقات، فالقلوب إذا فسدت فلن تجد فائدة فيما يصلحها من شؤون دنياها, ولن تجد نفعاً أو كسباً في أخراها يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية ربنا جل وعلا في الأولين والآخرين.
معاشر المسلمين، إدراك محبة الله للعبد منزلة عظيمة ومنة جسيمة وسعادة أبدية وحياة طيبة زكية, فعلى العبد الموفق السعي لنيلها بكل طريقٍ محمدي ونهج نبوي من سيرة وسنة المصطفى , صحة في الاعتقاد وسلامة في التعبد وإحساناً في الأخلاق، وجملة ذلك في تحقيق الإيمان الصحيح، ومزاولة التقوى لله جل وعلا سراً وجهراً: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63].
ألا وإن من مقتضيات محبة الله جل وعلا الإكثار من الصلاة والتسليم على النبي المصطفى، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن جميع الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في الآداب، باب علامة حب الله عز وجل (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
(2) أخرجه البخاري في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب (3688). ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (2639).
(4) أخرجه البخاري في التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (7375). ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة قل هو الله أحد (813). كلاهما عن عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502).
(6) أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى لا تحرك به لسانك ، و ابن ماجة في الأدب، باب فضل الذكر (3792). وأحمد (10585).
(7) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى (2676).
(8) أخرجه البخاري في التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا (7392). ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677). كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999). عن صهيب رضي الله عنه.
(10) 10] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734). عن أنس بن مالك.
(11) 11] رواه الطبراني في الأوسط(4 / 306 )، والحاكم في المستدرك (4/360)، وصححه . وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/243).
(12) 12] أخرجه أحمد (21525)، ومالك في الموطأ، في كتاب الجامع، باب ما جاء في المتحابين في الله (1779). وابن حبان في صحيحه (2/335). والضياء في المختارة(8/306).
(13) 13] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/87)، والطيالسي في مسنده (1/101).
(1/2850)
السبت، 14 مارس 2015
فما في ذمتك من حقوق فأدها عن طيب نفس
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الله جل وعلا أمر المؤمنين بأن يوثقوا البيوع فيما بينهم, إما بالكتابة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وأمر أن توثق الحقوق بالرهان لا سيما في السفر: وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، ثم إنه تعالى أمر بأمر آخر فوق هذا كله فقال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
أيها المسلم، فإذا أمنك أخوك على حق بينك وبينه لم يكن هناك كتابة ولا رهون ولا إشهاد, ولكنه أمنك وأطمأن لإيمانك وصدقك, فإياك أن تخونه, وإياك أن تسيء ظنه بك, وإياك أن تكذب, فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283], ليسدد الحقوق, ليوفي ما عليه من الحقوق, ليبرئ ذمته من حقوق الآخرين.
أيها المسلم، إن حقوق الناس مبنية على المشاحة والمضايقة, فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه, والأصل حرمة أموال المسلمين, ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام))(1)[1]. والله يقول: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].
فمن أكل أموال الناس بالباطل جحود الحق الواجب عليك, فتجحد ما في ذمتك, وتنكر ما عليك من حق, ومن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم أن تماطل في الوفاء, فلا تعطي حقوقهم بطمأنينة نفس، لكن تماطلهم عسى أن يرضوا منك باليسير, ويقتنعوا منك باليسير, فيسقطوا بعض ما عليك رجاء أن يحوزوا البقية, فيرتجع أموالهم بجزء منها مقابل مماطلتك وظلمك وتأخيرك للوفاء.
إذن, ما أخذت من هذا فإنك أخذته بغير حق ظلماً وعدواناً، إذ الواجب عليك أن تسدد الحق الواجب عليك, وأن تؤدي ما في ذمتك عن طوع واختيار, في الحديث: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله))(2)[2].
أيها المسلم، فما في ذمتك من حقوق فأدها عن طيب نفس وعن رضا نفس, لا تجحد, لا تماطل بالوفاء, لا تضار صاحب الحق, لا تلجئه إلى شكاية ورفع إلى الجهات المختصة, لا تتعبه وتشغله حتى يتعب منك, وربما ترك حقه عجزاً عن مطالبتك, فتظن أن ذلك مباحٌ لك, والله يعلم أنه حرام عليك, إذ الواجب أن تؤدي الحق بطيب نفس واختيار, هذا إذا كنت قادراً ولا عذر لك، والنبي يقول: ((من كان له عند أخيه مظلمة من مال أو عرض فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له حسنات أخذ من حسناته, وإن قضيت الحسنات قبل أن يقضي عليه أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه))(3)[3].
أيها المسلم، فأبرئ ذمتك من حقوق العباد, وأدها أداءً كاملاً, ولا عذر لك إلا أن تكون معسراً عاجزاً عن التسديد، فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أما إن كنت قادراً فأدّ الحق فوراً, والنبي يقول: ((مطل الغني ظلم, يحل عرضه وعقوبته))(4)[4].
أيها المسلم، أدّ أثمان المبيع وأد أجره العين المستأجرة, كل هذا واجب أداؤها, وواجب تسليمها والمبادرة بذلك.
أيها المسلم، البعض من الناس لديه قدرة على التحايل والمراوغة إذا توجه الحق عليه هرب بكل وسيلة أن يحضر الوفاء, بعلل واهية وأكاذيب وأباطيل, يماطل بصاحب الحق ويتعبه ويعييه, ليلجأ إلى الخصومة, أو يتعب ويكل ويعجز فيترك حقه عجزاً لا شفاعة من نفس ولكن عجزاً عن المطالبة, وكل هذا لا يبرؤك من الحقوق ولا يبرؤك من حقوق الناس ولا يعفيك من الواجب عليك.
أيها المسلم، أما إن كانت الحقوق غير واضحة للجميع بأن يكون الأمر مشتبهاً وحقوق متداخلة قد لا يستطيع الخصمان أن يخلصا حق كل من الآخر، فالنبي قد أرشدنا إلى الطريق السوي في ذلك, فتروي أم سلمة زوج النبي : أن شخصان اختصما إلى النبي في مواريث دائرة بينهما ليس لأحدهما بينه, فقال لهم النبي : ((إنكم تختصمون إلي, وإنما أنا بشر, ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضي له بنحو مما أسمع, فمن فضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه, فإنما أقطع له قطعة من النار يحملها على عنقه يوم القيامة)) فبكى الرجلان, وقال كل منهما: حقي لأخي, فقال : ((أما إذا قلتما فاذهبا واقتسما وتوخيا الصواب واستهما, وليحلل كل منكما صاحبه))(5)[5]، فأرشدهما النبي إلى هذا الطريق الذي تبرأ به الذمم, مواريث مندرسة لا يعلم كل ماله من الآخر، أمرهم النبي أن يتوخيا الصواب, ويفعلا قدر ما يظنا أن ذلك هو الحق, ثم يبديا بينهما قرعة فمن خرجت له القرعة فله ذلك النصيب, ثم يقتسما, ويحلل كل منهما صاحبه, حتى تكون النفوس مطمئنة وراضية، هكذا حكم رسول الله , وهذان الرجلان عندما وعظهم النبي بهذه الموعظة العظيمة بكيا إشفاقاً من الله وخوفا من الله، هكذا حال أهل الإيمان.
أيها المسلم، فلا يحل لك المضارة لصاحب الحق ليصالحك عن التنازل عن حقك بشيء لأجل الإضرار, إنما الصلح لو كان الأمر مجهولاً, لو كان الأمر غير واضح, أما الأمور الواضحة والحقوق الجلية التي لا إشكال فيها فواجب المسلم أن يؤدي ما عليه, وأن لا يضار بأخيه المسلم, فمطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته, والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
فتقوى الله واجب بين العباد في تعامل بعضهم مع بعض, فلا عدوان ولا ظلم ولا فرار من الحقوق, ولكن أداء ووفاء, ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، هذا أمر الله أن نوفي بالعقود عقود البيع عقود الإجارات كل عقود بيننا مما أباح الشرع التعاقد بها فواجبنا أن ينفذ كل منا العقد الذي التزم به؛ لأن هذا هو المطلوب من المسلمين أن يكون الصدق والوفاء بينهما خلق سائر وعمل صالح, هكذا الإيمان الصادق.
عباد الله، رسول الله يحث المسلمين على الصدق في تعاملهم، رسول الله لا يلزم أهل الحقوق أن يتنازلوا عن حقوقهم، لا يلزمهم التنازل عن حقوقهم, بل يكون موقفه مع صاحب الحق لا مع من عليه الحق فقط, وإنما موقفه مع صاحب الحق ليعطى حقه ومع من عليه حق لينظم كيف يؤدي الحق, أما أن يفرض على صاحب الحق أن يتنازل عن شيء من حقه, فإن هذا لم تأت به السنة, فحقوق الناس هم أولى بها, ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه.
أيها المسلم، قد تلجأ أحياناً للمماطلة, وقد تستعين بمحام لكي يماطل بصاحب الحق ويظلم صاحب الحق كل هذا من التعاون على الإثم والعدوان, الواجب الإنصاف وإعطاء الناس حقوقهم, وأن لا يظلم من له الحق ولا من عليه الحق.
اسمع إذن سنة محمد , اسمع عدالته، اسمع موقفه مع من له الحق ومن عليه الحق؛ لتعلم أن شريعته شريعة العدل والحق والإنصاف، يروي جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنه: (أن أباه استشهد يوم أحد, وكان على أبيه دين, فاستمهل الغرماء فلم يمهلوا, وأراد أن يعطيهم ثمر حائطه مقابل حقهم فأبوا, فأتى النبي فقال له: ((إني آتيك غداً)), فأتى النبي حائطه وطاف فيه وبرك فيه, ثم قال: ((جد لهم)) فجد لهم ثلاثين وسقا من التمر وبقي له سبعة عشر وسقا).
فرسول الله لم يفرض على الغرماء التنازل لما أبوا أن يتنازلوا عن حقهم لم يفرض عليهم شيئاً من ذلك, ترك الأمر لهم, وفي بعض الألفاظ عن جابر: (أن يهودياً كان له على أبي جابر ثلاثون وسقاً من تمر فكلمه جابر أن يعطيه ثمرة حائطه ويتنازل عن الباقي فأبى, فكلم رسول الله أن يشفع له, فكلم النبي اليهودي فأبى, أبى أن يتنازل عن حقه, فالنبي لم يلزم ذلك اليهودي بالتنازل, ولم يفرض عليه التواضع عن حقه, وإنما أتى لحائط جابر فطاف فيه وأمره أن يجد فجد ثلاثين وسقاً فأعطاه حقه كاملاً, وبقي لجابر بقية من ذلك(6)[1].
إذا نظر المسلم إلى هذا علم العدالة في الشريعة وأن أهل الحقوق لا يظلمون ولا يحملون على ما لا يريدون, وأن الأمر بيد صاحب الحق فهو أحق بماله إن شاء تنازل وإن شاء استوفى حقه كاملاً, إذا كنت في أول الأمر أخذت ماله واستفدت منه أتريد أن تضاره في القضاء, لماذا ما رتبت أمرك عندما أردت الأخذ من حقوق الناس؟
أما إذا تحملت حقوق الناس أردت المماطلة والمراوغة حتى ينقصوا من الحقوق, وحتى يرضوا بإسقاط النصف في سبيل النصف الباقي لا, حقوق الناس واجب أداؤها, واجب تسديدها, حرام المماطلة فيها, حرام المضارة في الحقوق, حرام المضارة في أهل الأملاك, واجب الوفاء سواء كانت قيمة مبيعات أو قيمة أجور أو غير ذلك, كل هذه الحقوق واجب على المسلم أن يؤديها بطيب نفس حتى يكون من الصادقين.
فعلامة الإيمان الصادق أن يكون المسلم ذا وفاء وقيام للحق وتسديد للحق دون أي مماطلة، قص علينا نبينا قصة من أخبار بني إسرائيل من أخبار الماضين, وما قصه مما هو صحيح إليه فهو خبر صدق عن محمد , ملخص هذه القصة: ((أن رجلاً فيمن قبلنا استدان من رجل ألف دينار, فقال له: من عنده الدنانير: أبغني كفيلاً, قال: كفى بالله كفيلاً, قال: أبغني شهيداً, قال: كفى بالله شهيداً, فأعطاه ألف دينار على أن يسددها بعد عام وقدر ذلك الشهر وذلك اليوم الذي يكون فيه السداد.
لما مضى العام الكامل وجاء اليوم الذي هو موعد السداد خرج ذلك الرجل بألف دينار ليجد مركباً لعله أن يوصله إلى صاحب الحق فيعطيه حقه في وقته, فما وجد سفينة يركبها, ما وجد مركبا بحريا يسير عليه, فلما انقضى ذلك اليوم وهو يراقب عسى مركب بحريا يوصله إلى مكان صاحب الحق, فأيس من ذلك, فأخذ خشبة ونجرها وجعل فيها الألف الدينار وصحيفة العقد وزجها وختمها وألقاها في البحر, وقال: اللهم إن فلان طلب مني كفيلاً فرضي بك كفيلاً, ورضي بك شهيداً, وهذا حقه فأسألك أن توصله إليه.
قال: وخرج ذلك الرجل في ذلك اليوم يرتقب الموعد الذي وعده صاحبه, فما وجد أحداً جاء, وإنما رأى خشبة قد ألقيت على ساحل البحر, فأخذها من باب أنها حطب لأهله, فلما نشرها إذا الصحيفة والألف الدينار موجود فيها, فأخذ حقه ألف الدينار, وأخذ صحيفته, وحمد الله, وأثنى على صاحب الحق أنه أوصل حقه في يومه.
ثم إن من عليه الحق بعد أيام وجد مركباً فسار عليه وجاء بالألف الدينار إلى صاحبه فقال: إني أعتذر فقد أخرت الوفاء لأني والله ما وجدت مركباً أسير عليه، قال: ألم تبعث لي خشبة فيها ألف دينار وصحيفة، قال: يا أخي والله ما وجدت مركباً أسير عليه، قال: اعلم أن الله قد قضى عنك ما عليك, وأن تلك الخشبة التي ألقيتها في البحر ما زال الريح بها حتى ألقتها على الساحل, فأخذتها وأخذت نصيبي, فارجع راشداً بما معك, فجزاك الله خيراً))(7)[2].
لا شك أنها قصة أخبرنا بها نبينا ليبين لنا فضل الأمانة وأداء الحقوق وحسن التعامل بين المسلمين، نسال الله أن يجعلنا وإياكم ممن عمل بشرع الله وتأدب بآداب الله، وأدى الحقوق الواجبة, ولم يخن, ولم يماطل, ولم يتعب صاحب الحق, هذا هو المطلوب منا في تعاملنا, وهو الذي يمليه علينا إيماننا بالله ورسوله, فحسن المعاملة بين المسلمين دليل على الإيمان الصادق.
وأما سوء المعاملة وظلم العباد فإنها نقص في حق الإنسان, فلا تغرنك يا أخي مجرد محافظتك على الطاعة مع خيانة الأمانة وظلم الناس والتعدي عليهم، فالإيمان الصادق يدعوك إلى الصدق والأمانة والوفاء، قال: بعض السلف: والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام ولكن بإيمان وقر في القلب.
فالصادق في صلاته وصيامه وتعبده هو الذي يعطي الناس حقوقهم ويوفي الناس حقوقهم بلا مماطلة, وأما من يتظاهر بالخير ويتظاهر بالصلاح ولكن عند المعاملة لا تجد شيئاً، فهذا دليل على النقص في الديانة, نسأل الله السلامة والعافية, وأن يجعل إيماننا صادقاً ظاهراً وباطناً, إنه على كل شيء قدير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج، باب: الخطبة أيام منى (1741)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، كلاهما من حديث أبي بكرة.
(2) أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2378) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449).
(4) أخرج الجملة الأولى منه (مطل الغني ظلم) البخاري في الحوالات، باب: الحوالة وهل يرجع في الحوالة (2287)، ومسلم في المساقاة (1564)، كلاهما من حديث أبي هريرة. وأخرجه بلفظ: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) أحمد في المسند (4/222)، وأبو داود في الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره (3628)، والنسائي في البيوع، باب: مطل الغني (4689)، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحبس في الدين والملازمة (2427)، من حديث عمرو بن الشريد.
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/320)، وأبو داود في الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3583)، من حديث أم سلمة.
(6) أخرجه البخاري في المغازي، باب: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا (4053).
(7) أخرجه البخاري في الحوالات، باب: الكفالة في القرض والديون... (2169)، من حديث أبي هريرة.
(1/2851)
حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبِيرا وأمرًا خطيرًا
الحمد
لله ذي الجلال والإكرام، والعزّةِ التي لا تُضام، أحمَد ربّي وأشكره على
آلائه العِظام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ
نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهمّ صلّ
وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد:
فيقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:72، 73].
إنَّ حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبِيرا وأمرًا خطيرًا عُرِض على الكون سمائِه وأرضِه وجبالِه، فوجِلت من حمله، وأبَت من القيام به، خوفًا من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه الصلاة والسلام، فحمَلها واستقلّ بها، وقول الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً أي: الإنسان المفرّط المضيِّع للأمانة هو الظلومُ الجهول، لا آدم عليه الصلاة والسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانةُ الفرائضُ، عرضها الله على السمواتِ والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابَهم، وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرِهوا ذلك وأشفَقوا منه مِن غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله تعالى)(1)[1]، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عَرَضها على السَّبع الطِّباق الطرائق التي زُيِّنت بالنّجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحمِلين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرَضها على الأرضين السّبع الشّداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمِهاد، قال: فقيل لها: هل تحمِلين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثمَّ عرَضها على الجبال فأبَت"(2)[2].
الأمانةُ ـ يا عباد الله ـ هي التّكاليفُ الشرعيّة، هي حقوقُ الله وحقوقُ العباد، فمن أدَّاها فله الثّواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، فقد روى أحمد والبيهقيّ وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: (الصّلاةُ أمانة، والوضوءُ أمَانة، والوَزن أمانةٌ، والكَيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدُّ ذلك الودائع)(3)[3]، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة)(4)[4].
فمَن اتَّصفَ بكمَال الأمانة فقد استكمَل الدّينَ، ومن فقَد صفةَ الأمانة فقد نبَذ الدّينَ، كما روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له))(5)[5]، وروى الإمام أحمد والبزار والطبرانيّ من حديث أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له))(6)[6]، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسَلين والمقرَّبين، قال الله تعالى عن نوح وهودٍ وصالحٍ عليهم الصلاة والسلام: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:107، 108].
وكلَّما انتُقِصت الأمانة نقصَت شعبُ الإيمان لِما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول الله أنَّ الأمانةَ نزلت في جذر قلوبِ الرجال أي: وسطها، ثمّ نزلَ القرآن، فعلِموا من القرآن، وعلِموا من السنَّة، ثم حدّثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرّجل النومةَ، فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوَكت، ثمّ ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل أثر المجل، كجمرٍ دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء))، ثمّ أخذَ حصاةً فدحرجها على رجله، ((فيُصبح النّاس يتبايَعون، لا يكاد أحدٌ يؤدِّي الأمانة، حتّى يقال: إنَّ في بني فلان رجلاً أمينا، وحتى يقال للرَّجل: ما أظرفَه ما أعقله!! وما في قلبه مثقالُ حبّة من خردل من إيمان))(7)[7]، والظّاهر أنَّ الرجلَ إذا تعمّد تضييعَ الأمانة بالتّساهل في الفرائض وواجبات الدّين والخيانة في حقوق العباد يعاقَب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزَّه الله تعالى أن يقبِض الأمانةَ من قلب أحدٍ من غير سببٍ من العبد، ومن غير استخفافٍ منه بواجبات الدين وحقوقِ العباد، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]. وآخرُ الحديث يدلّ على أنّ الأمانةَ هي الإيمان، وهي الدين وواجباته. فالتّوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وعدمُ إشراكِ أحدٍ معه في العبادة أمانةٌ، والصّلاة أمانة، والزّكاة أمانة، والصّيام أمانة، والحجّ أمانة، وصِلة الرّحم أمانة، والأمرُ بالمعروف أمانة، والنّهيُ عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليدُ أمانة، والفرج أمانةٌ، والبطنُ أمانة فلا تأكل ما لا يحلّ لك، والأولادُ عندك أمانة فلا تُضيّع تربيتَهم الصالحة، والزّوجات عند الرّجال أمانة فلا تُضيَّع حقوقُهن، وحقوق الأزواج على النّساء أمانةٌ، وحقوق العباد الماديَّة والمعنويّة أمانة فلا تُنتقَص.
وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيامِ بحقوقها أعظمَ الثّواب فقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:8-11] والفردوس أعلى الجنة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنّه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم بالجنّة))، قلت: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: ((الصّلاة والزّكاةُ والأمانة والفرجُ والبطن واللّسان)) رواه الطبراني(8)[8]، قال المنذريّ: "بإسناد لا بأس به"(9)[9]، وفي الحديث: ((أوَّلُ ما تفقِدون من دينكم الأمانة، وآخرُ ما تفقِدون من دينكم الصلاةُ))(10)[10].
والتّفريطُ في الأمانات والتّضييعُ لواجباتِ الدين يورثُ الخللَ والفسادَ في أحوال النّاس، ويجعل الحياةَ مرّةَ المذاق، ويقطَع أواصِرَ المجتمَع، ويعرّض المصالحَ الخاصّة والعامّة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذِن بخرابِ الكون، قال وقد سُئل: متى السّاعة؟: ((إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظِر الساعة))(11)[11].
فاتقوا الله عبادَ الله، وحافِظوا على الأماناتِ، حافظوا على حقوق الله وحقوق العباد والواجبات، واحذَروا المحرَّمات، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:32-35].
فاتقوا الله حقَّ تقواه، وأطيعوه بفعل ما أمَر واجتناب ما نهى عنه وزَجر، تفوزوا بجنّته ورضاه.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، وهذه الآية المباركة عمّت جميعَ الأماناتِ.
ومن أعظم الأمانات الوظائفُ والأعمال والمناصبُ وحقوقها، فمن أدَّى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدَت لأجلها فقد نصَح لنفسِه وإمامه، وعمِل خيرًا لآخرته، ومن قصّرَ في واجباتِ وحقوق الوظائف والمناصِب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافِع العباد أو أخذَ بها رشوةً أو اختلس بها مالاً فقد غشّ نفسَه وقدّم لها زادًا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أنّ رسول الله قال: ((إذا جمعَ الله الأوَّلين والآخرين يومَ القيامة يُرفَع لكل غادر لواء، ويقال: هذه غَدرة فلان بن فلان))(12)[1].
ومِن أعظَم الأمانات الودائعُ والحقوق التي أمِنَك النّاس عليها، فقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتلُ في سبيل الله يكفّر الذنوبَ كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتَى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتَك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبتِ الدّنيا؟! فيقال: انطلِقوا بِه إلى الهاويَة، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتِها يومَ دُفعت إليه، فيراها فيعرِفها، فيهوي في أثرِها حتّى يدركها، فيحملها على منكبَيه حتى إذا ظنَّ أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين)(13)[2]، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنّ النّبيّ قال: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك))(14)[3].
عباد الله، إنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه المصطفى وخليله المجتبى فقال عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرا))، فصلّوا وسلّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (22/54) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وانظر: تفسير القرطبي (14/255)، وتفسير ابن كثير (3/523).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال: إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254).
(5) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وفي الصغير (162) وقال: "لم يروه عن عبيد الله إلا مندل، ولا عنه إلا حسن، تفرد به الحسين بن الحكم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).
(6) أخرجه أحمد (3/135)، والطبراني في الأوسط (2606)، وهو أيضا عند أبي يعلى (2863)، وصححه ابن حبان (194)، وقال الهيثمي في المجمع (1/96): "فيه أبو هلال، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3004).
(7) أخرجه مسلم في الإيمان (143)، وهو أيضا عند البخاري في الفتن (7086).
(8) أخرجه الطبراني في الأوسط (4925، 8599)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).
(9) قال في الترغيب والترهيب (1/300): "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به، وله شواهد كثيرة".
(10) 10] أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (216، 217)، والضياء في المختارة (1583) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الكبير (7/295) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه وليس فيه ذكر الصلاة، قال الهيثمي في المجمع (4/145): "فيه المهلب بن العلاء ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات". وجاء موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (7/256، 260، 505)، وسعيد بن منصور (97)، والطبراني (9/141، 311، 353)، والبيهقي في الشعب (2027، 5273) وغيرهم، وصححه الحاكم (2538)، وقال الهيثمي في المجمع (7/330): "رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة". وانظر تخريج الحديث في السلسلة الصحيحة (1739).
(11) 11] أخرجه البخاري في العلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(12) أخرجه مسلم في الجهاد (1735) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو عند البخاري أيضا (6177، 6178).
(13) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وقال المنذري في الترغيب (2/358): "رواه غيره مرفوعا، والموقوف أشبه"، وقال في موضع آخر (4/4): "ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1763، 2995).
(14) أخرجه أبو داود في البيوع (3535)، والترمذي في البيوع (1264)، والدارمي في البيوع (2597) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2296)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (423).
(1/2853)